حزب أفورقي السرِّي... سلطة تنشأ في برميل بارود
بقلم البروفيسور: بروف إيرما تاديّا - أستاذة التاريخ والثقافة المصدر: الإفريقية
يؤكد (سيلاسي) في كتابة أن الرئيس أسس حِزبًّا سِريًّا من موالين موثقين أشد الثقة، وترأس اللجنة المركزية للحزب وهذا ما أطال أمد
الحكم الشمولي والمركزي وابقى على قواعد حرب العصابات التي كانت تتبعها الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا.
أما التدهور الاقتصادي والافتقار إلى الموارد، والسيطرة الصارمة على الاقتصاد الخاص (غير الموجود عمليًّا) فسرّع من ذلك كله، وزاد من الشتات والمعارضة داخل البلد وخارجه، وهذا ما يحلله (سيلاسي) في الفصلين العاشر والحادي عشر من كتابه موضوع النقاش، وهو نفس الأمر الذي ناقشه (دستا أسايغن) في مجلة (إثيوبيا أوبزريفر) في سياق تحليل نفسي أطلق عليه (القالب الاجتماعي المرضي)، ليستتنج أن سلطة أفورقي تنشأ في برميل من البارود، لأن "الديكتاتوريين هم قِطعٌ من هذا القالب نفسه"، بحسب تعببره.
تتمثل نقطة أخرى مهمة من نقاط النقاش في (الدستور والوعد المُخلفْ)، ودور (سيلاسي) بصفته عضوًا في اللجنة الدستورية. فرغم إقرار الدستور 1979، لم يُطبق حتى الآن، وحِيِلَ بذلك بين اريتريا وامتلاكها لقانون عام، وهذه حالة فريدة في أفريقيا جنوب الصحراء، وهذه حقيقة كانت مُخيبة لآمال الكاتب على نحوٍ خاص، نظرًا إلى الجهد الوافر الذي بذله في لجنة وضع الدستور.
كان (سيلاسي) قد بدأ النظر إلى تجربته في بلده على نحو سلبي قبل فترة طويلة على وضعه هذا الكتاب، ففي مؤتمر روما 2002، قال: "في إريتريا، وعدت حكومة الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة"، وريثة الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا، بانتقالل ديمقراطي من الحكم العسكري إلى الديمقراطية الدستورية، وعلى الأقل، فإنه لا يزال عليها أن تفي بوعدها، ثم أدخلت البلد في حرب مدمرة مع أثيوبيا 1998- 2000 وبالتالي خلقت وضعًا سياسيًا جديدًا في اريتريا، ما عمق الأزمة، كما تواجه إريتريا مجاعة ناجمة عن الجفاف، وترى المعارضة الإريترية أن أسباب المجاعة لا تعود إلى الجفاف فثط، بل إلة السياسيات الحكومية السلبية والرديئة أيضًا".
لا يُعنى كتاب (سيلاسي) بالحرب والسياسة فحسب، بل يُبدي الكاتب أيضًا حساسية خاصة حيال التاريخ، ويلقي الضوء على المشكلات المشتركة بين البلدان الأفريقة، كالحدود المصطنعة والثابتة الموروثة من الحكم الاستعماري، ومن هنا فإن السياسيات المبنية على الهوية تصبح ظاهرة تطال أرجاء القارة كافة. ورغم ذلك قبلت الشعوب هذه الهوية الجديدة القائمة على الحدود المُصطنعة فغدت أساس وعى جمعي جديد". وهذا ما سبق أن أكّدتُه عن مناقشة عند مناقشة الطبيعة الأيدلوجية للدولة الإريترية.
يقول سيلاسي أيضًا: "من الضروري أن نفكر إقليميًّا، ونمضي ابعد من الحدود الوطنية التي هي ميراث الحكم الاستعماري السابق. لكن إريتريا تفتقر إلى هؤلاء، ممن يفكرون أبعد من الحدود الوطنية (الاستعمارية)".
كي أختم فهمي لهذا الكتاب، يجب أن أشير إلى أن رواية لا بُدّ من بعض الملاحظات المُهمة: إن روية القصة (التي تقف خلف القصِّة)، هو جهد فيه تحدٍّ، وسيلاسي هو الشخص المؤهَّل أكثر من سواه ليقوم بذلك. وهو يتحدث عن أهمية (قول الحقيقة كما وجدتها من الوثائق، ومن معرفتي المباشرة، ومن كثيرٍ من اللقاءات والمصادر الأخرى)، غير أن الأمر يبقى محلّ مزيدٍ من التساؤل، من وجهة نظر تاريخية. ورؤية سلاسي هي رؤيته الشخصيِّة، وليست ثمة بُعدٌ فريد في التاريخ. ومن وجهة نظر منهجية، فإنه من غير الممكن تعميم تجربة شخصية أو حياة شخصية أو موقف شخصي، على الرغم من الأهمية الأكيدة التي تتسم بها حياة فكرِّية صادقة وموثوقة.
لا يقّل أهمية من نقد سلاسي ذلك النقد الذي أودُّ أن أُشيرُ إليه هنا في الخاتمة، الا وهو النقد الذي يوجهة (قايِّم كبريآب)، وهو أيضًا معروف بأعماله السابقة في معسكرات اللاجئين ودراساته الاجتماعية عن إريتريا، بما في ذلك عمله الأخير المعني بكفاح إريتريا التحرري.
أما هذا الكتاب الجديد (حلم مؤجّل)، فهو مسحٌ للسياسية الإريترية، يُبيِّن بوضح أصل (انقشاع الوهم) والسبيل المُفضي غلى (الخضوع لسلطة الطغيان) ويصف إريتريا بأنّها واحدًا من البلدان الأشدّ انعدمًا للامن في أفريقيا، والأشدّ انغلاقًا وقمعًا في العالم. وهي بلد سلطة الرجل الواحد، الرئيس، الذي يسجل (كبريآب) نقدًا حادًّا لدوره واحتقارة المثقفين وحرِّية الفكر.
ويسعى الكاتب في ذلك إلى تفسير سبب تحول إريتريا إلى مثل هذا النظام القمعي، وإلى مثل هذا النظام السياسي الذي يتسم بمثل هذا التدهور، أما المصادر والوثائق التي يُقدمها قايم كبريآب فلا تترك أى مجال للشك. فهي متسمدة من هيئات دولية معروفة مقل منظمات حقوق الإنسان والبنك الدولي والأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية، فضلًا عن تجربته العلميِّة ومعرفته بالبلد ومشاركته الشخصية في السياسية الإريترية مع الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا. وأنا أشارك تكيستي نقاش رؤيته بأهميِّة الكِتابْ بالنسبة إلى الإريتريين وبقية شعوب أفريقيا، على الرغم من بعض الانتقادات الموجهة له.
يُفسر كبريآب السبيل المفضي إلى المأزق أي (الطريق المسدودة) بالتركيز على عوامل كثيرة، تعود إلى حرب العصابات الطويلة بين عامى 1961 و 1991، التي انخرطت فيها إريتريا ضد اثيوبيا، والدور الكبير الذي أدّته السلطة العسكرِّية، وثقافة عدم التسامح مع الآخر والحط من شأنه.
وتلك كانت الأعراض الأولى التي أعقبها واقع أكثر حِدّة. وإذا ما كان كتاب سيلاسي قد عمل على (بذور الديكتاورية) فإن كبريآب يستبق ما ناقشه سيلاسي أيضًا في (أمة جريحة)، إذ تبدو الحوادث التاريخية لحرب العصابات كأنها استطالت في الأعوام اللاحقة لتملي التجربةُ السلبية النتائج المستقبلية، تلك النتائج سلبية تماًا كما كما التجربة. فمنذ بداية الاستقلال 1993، بات الوضع حرجًا جدًا، إذ تدهورت أوضاع البلد الاقتصادية أكثر فأكثر منذ عام 1991، وخيّمت الأزمة المالية وساد الركود وفُرضت الشروط الإنسانية المحفوفة بالمخاطر والعزلة، وانعدمت الآمال بالمستقبل، وغد الوضع السياسي مرتبطًا ارتباطًا مُحكمًا بالأزمة الاقتصادية، من دون أن ننسى أن تفسيرًا آخر للمأزق أو الطريق المسدودة، يعود إلى المجال السياسي والسلطة الشمولية التي مارسها الرئيس على البلاد، وإلى غياب الدستور والصحافة والنظام القضائي المُستقلين. وهكذا كانت ثمة عزلة وهجرة للمثقفين، جراء الحكم الأوتوقراطي الذي تُمارسه الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة فتدهور جهاز الحكم الحزبي وغابت الأحزاب السياسية.
مرّة أخرى، تكمن المشكلة في كيفية فهم وتفسير هذا الاتجاه السلبي المستمر من قبل الجبهة الشعبية للديمقراطية العدالة (الحزب الحاكم في ارتيريا) الذي أصبح كارثة كاملة. وهذه مهمة صعبة على الكاتب، كما هي صعبة على أي أحد آخر.
كانت نقطعة الانعطاف هنا هي الحرب ضد أثيوبيا (1998-2000)، ومن ثم الوقوع في أزمة اقتصادية أعمق وتدهور الصادرات، (كانت أثيوبيا الدولة الأهم التي تستورد من إريتريا، وهذا ما أدّى إلى توقف تلك المداخيل والتحويلات المتصلة بها)، كما عانت ابلاد من شُحٍ في الغذاء الذي يستورد إلى حد بعيد من أثيوبيا، بجانب أن الخدمة الوطنية المديدة لجميع الأشخاص من (18-50) سنة، حرم الاقتصاد الإريتري من قوة العمل الضرورية للتنمية.
مثلت هذه الحرب بداية انشقاق حاد بين السياسيين والمثقفين، إذ ظهرت جماعات منشقة عن الحزب الحاكم بصورة علنية منذ عام 2001، مثل مجموعة الـ(15)، حيث قررت أن ترسل رسالة مفتوحة إلى عضوية الحزب تعترف فيها أن حزبها مارس أمورًا غير مشروعة وغير دستورية، وتدعو الشعب إلى الوحدة، فكانت النتيجة أن سُجنوا، ولم يُنظر إليهم حرية التعبير والممارسة السياسية.
والحال، أن مسألة التوثيق تمس أول ما تمس الحرب التي دارت رحاها مع أثيوبيا بين عامى (1998-2000)، والتي تسببت في أزمة اقتصادية عميقة لا تزال قائمة حيث تدهورت الصادرات إلى أثيوبيا التي كانت تعد أكبر دولة تستورد من إريتريا، الأمر الذي أدّى إلى خسارة هذه المداخيل وتوقف التحويلات الماليِّة، وانعدام الغذاء الذي كان يستورد من أثيوبيا بشكل أساس.
أمر آخر مهم في هذا الصدد وهو الخدمة الوطنية المديدة غير المحددة بسقف زمني وتشمل كل الفئات الواقعة في الحيِّز العمري ما بين (18-50) سنة، بجانب أن الحرب أحدثت شرخًا كبيرًا بين المثقفين والسياسيين إذ ظهرت جماعات منشقة علانية منذ العام 2000، مثل مجموعة الــ(15) التى دعت في رسالة مفتوحة إلى إطلاق الحريات واتهمت الحكومة بخرق الدستور ومصادرة الحريات والحقوق المدنية فانتهى الأمر ببعض أعضائها إلى السجن ولا يزالوا.
تمس مسالة التوثيق لهذه المرحلة من حكم الجبهة الشعبية للديقراطية والعدالة أول ما تمس الحرب مع أثوبيا والتي رفضها معظم أعضاء اللجنة المركزية في الحزب، فكانت حرب الرئيس وحده. هذا في ظل غياب الدستور والقانون والديمقراطية بطبيعة الحال.
نجمت عن الحرب مشاكل أخرى، مثل تدهور العلاقة مع المانحين الدوليين والمنظمات الدولية غير الحكومية بازدياد الرقابة المفروضة على النشاط الأجنبي في إريتريا.
الحكومة الاريترية لا تفرض سيطرتها على الحياة الاجتماعية والسياسية فقط، بل على القطاع الخاص أيضًا، وقد أسس الرئيس 1995 صندوق ائتمان نصب نفسه على رأسه فاحتكر النشاط التجاري والاقتصادي فتدهور تدهور مريعًا.
يقول كبريآب: تمثلت الإخفاقات الرئيسة على الصعيد السياسي في العجز عن إطلاق عملية تحول ديمقراطي، والتحول من تنظيم عسكري ثوري إلى حزب مدني، وظلت حكومة الجبهة الشعبية تنكر وجود معارضة ولا تعترف بها امعانًا في تكريس ثقافة عدم التسامح والحط من شأن الآخرين. وبالتالي اخفقت في تشكيل أمة واحدة.
في ختام الدراسة اسمحوا لي أن أشير إلى أطروحة روفاييل روّا المسومة بــ(اريتريا... ولادة أمة، إخفاق دولة)، إذ يقول: "إذا ما فكرنا في الأمة الاريترية من ناحية الفشل والنجاح، فإن ذلك لا ينطوي على حكم خارجي بل على تحليل لمستقبلها تبعًا للعوامل والوسائل التي والسياقات التي حددت ولادتها. أما بخصوص البنى الايدولوجية فعلينا أن نتسائل: هل الأمة الاريترية على الصعيد المفهمومي، ظاهرة تاريخية مرتبطة بسنواتِ ما قبل الاستقلال أكثر منها بالسنوات اللاحقة ؟
(لاحظوا أن هذه الأطروحة كُتبت في عام 2009) على كلٍ، أنا أشاطر روفاييل روا هذه الأفكار.
هل ثمة درس للمستقبل ؟
إن من الأهمية بمكان أن تتسم خطاباتنا بمزيد من النقد للدولة الإريترية. غير أن هذه الانتقادات الداخلية لم تُغير، إلى الآن، من الأساس الجوهري لدولة الاستقلال الإريترية، ولا من طبيعتها الجوهرِّية.
--------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
* بروف إيرما تاديّا - أستاذة التاريخ والثقافة في جامعة بولونيا الإيطالية.
* المقال منقول عن كتاب (العرب والقرن الأفريقي - لمجموعة من المؤلفين) وناشره المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات بالدوحة - الطبعة الأولى أكتوبر (2013) - بيروت.