تأملات بشأن إريتريا ونشوء دولة جديدة في القرن الأفريقي... القوميون الإريتريون - الحلقة الخامسة
بقلم بروفيسور: إيرما تادِّيا المصدر: الأفريقية
تقاسم هذه المشاعر القومية كثير من الإرتريين، إضافة إلى عددٍ من الإيطاليين الذين يعيشون في إريتريا وكانت بعض الأحزاب
المدعومة من مستوطنين إيطاليين دليلًا واضحًا على هذه الظاهرة، وثمة وثائق كثيرة بشأن هذا الأمر.
كان حزب الإستقلال عبارة عن تحالف أُسس عام 1949 من أحزاب إيطالية وإريترية متعددة، وكان هذا الحزب إيطاليًا من ناحية دعمة وتنظيمة وبنيته، وهو مثال للحزب المدعوم كليًّا من الدولة الاستعمارية، وهنا لا بد أن نشير إلى أن أيدولوجية (تصفية الاستعمار) في حالة إرتريا كانت تعكس نوعًا من المصالح المشتركة بين المُسْتعمِرين والمُستعمَرين، وهذا أمر غير معتاد في التاريخ السياسي الأفريقي، ففي أربعينات القرن المنصرم دعم المستوطنون الإيطاليون وقسم كبير من الإريتريين فكرة الكفاح الرامي إلى تأسيس دولة مستقلة، وأخفق هذان الطرفان، وكان ذلك مثالًا لــ(وعي بناه الاستعمار) لم يحلله الباحثون كما ينبغي، باستثناء المقالات التي كتبها (نقاش) مؤخرًا وسبق أن أشرت إليها.
الأمر الثاني: ما أفهمه هو أرث الماضي، وحقيقة أن إريتريا تُعيد أصولها إلى زمن بعيد وصولًا إلى القرن العشرين والحكم الإستعماري، لا يمكن أن يفسرا كفاح الإستقال إلاّ جزئيًا، فهما ليسا سوى جزء من المسألة.
ما أود مناقشته وتأكيده وما أحسبه الأمر الرئيس في دراستي هذه، والأمر الذي حللته على نحوٍ مُفصّل بالإستناد إلى مصادر من الإرشيف والتوثيق الشفوي والعمل الميداني داخل البلد، يمكنني أقول أن استقلال إريتريا أكتمل في العام 1993 في سياق مُميّز ألاّ وهو سياق أفريقيا ما بعد الاستقلالز وليس الأمر مجر مسألة تأخُر تصفية الاستعمار أو تأجيل لها دام ثلاثين عامًان قياسًا إلى مستعمرات أفريقيا السابقة. أما المحطة التي شكلت منعطفًا لدى القومية الإريترية فنجمت عن فشل إيطاليا في دفع الإستقلال، الأمر الذي أدّى إلى بزوغ وعى سياسي جديد كان متمحورًا، على الرغم من عدم مناهضته إيطاليا لكنه عمل على تأجيج العواطف المناهضة لأثيوبيا.
أخرّت السياسية الدوليِّة وما ترتب عليها من بناء ديناميات جديدة في القرن الأفريقي، أخرّت عملية صُنع الهوية القومية في إريتريا، إلا أن مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية أكتسبت أهمية متفردة في إعادة صوغ القضية الأرضيِّة وبالتالي السياسيات الدولية إزاء القرن الأفريقي برُمّتِها.
وفي ستينيات القرن الماضي أَجّج تنافُس القوى العظمى على المنطقة الصراع، إلى أن جاء تفكك النظام الدولي السائد حينها، بسياسيات جديدة في القرن الأفريقي.
بطبيعة الحال، أسهمت عوامل عديدة في هذه السيرورة، وإريتريا الحاليِّة هي خليط مُعقد من موضوعات مختلفة، قديمة وجديدة، ألخّصها على النحو التالي:
- دولةً قامت على كفاحٍ تحرري مديد له بُعده الأفريقي، ضد الهيمنة الأثيوبية، في سياق أفريقيا المُستقلة.
- إريتريا مثالًا لما يُعرف بالدولة الناشئة بعد دول ما بعد الاستعمار.
- دولة كفاح قومي أُبتدر في خمسينات وستينات القرن المنصرم وشكّله الاستعمار، لكن دون المنظور المناهض للاستعمار والذي تغيّر جذريًّا في سياق الكفاح.
- هي ثمرة للسياسيات الدوليِّة والحرب الباردة في حقبة تمتد من ستينات القرن العشرين إلى تسعيناته، وكذلك للسياسيات الإقليمية والديناميات اللاحقة التي كان لها أهمية مماثلة في المنطقة، فكان نتيجة ذلك تطور القومية الإرترية خلال ثلاثة عقود تبعًا لتوازن القوى الدوليِّة والاستراتيجيات المحليِّة.
- هي نتيجة لتضافر قوى الهيمنة الداخلية المحلية، ,أيدولوجيا تقرير المصير، والعلاقات السياسية الخارجية، والمنظمات الجماهيرية، والحركات المناهض لمنقستو هايلي ماريام والسلطة العسكرِّية المحلية، والسيطرة المحلية للتنافس على الموارد الاقتصادية والفضاء السياسي، كما هي نتيجة لكفاح اكتسب شرعيته الخاصة.
غيّرتْ التحالفات الداخلية والعلاقات الخارجية طبيعة الكفاح والسياق السياسي لحرب العصابات تغييرًا تامًا. ويبدو الاستعمار وكأنه ظاهرةً لا أهمية لها. ما يحظي بأهمية على هذا الصعيد - في واقع الأمر - هو ذلك التحليل الذي يؤكد محاولة إريتريا الوقوف في وجه "الهيمنة الإقليمية الإثيوبية أو معارضة السيطرة البلدان الأستراتيجية الدولية".
ناقش كُتّابٌ كُثُرْ أهمية تطورات الكفاح الإريتري المُسلّح أواخر ستينيات القرن الماضي ثم ضد نظام منقستو في سبعيناته. وثمة أمور كثيرة كُتبت أيضًا بشأن الخلاف بين فصائل حرب العصابات في إريتريا بعد السبعينات، لكن تلك الكتاتظل محض وصف أقرب منها إلى التحليل، كما أن هنالك أبحاثًا أخرى تتبنى وجهة نظر آحادية الجانب وتمثل نوعًا من الرؤية الشاعِّية للكفاح الإرتري، فالحركات الإريترية ذاتها تُعيد إنتاج الأساطير لدى تحليلها القضيِّة الإريترية، وبالتالي لا زلنا نفتقد إلى عمل جدِّي يركز على دور الدولة الإريترية وطبيعتها، وعلى الرغم من التفسيرات المختلفة الكثيرة، فإن البحث لا يزال جاريًّا.
بشأنِ السيناريو الدولي، جرت مناقشة واسعة لدور القوى العظمي، وهناك أبحاث ونقاشات كثيرة تتناول دور الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق في الصدد الإريتري، بجانب دور البلدان العربية خلال مراحل الكفاح الإريتري المسّلح المختلفة، ولكن يجب القول إن الدور العربي في هذا السياق ليس معروفًا كثيرًا. ولهذا الأمر أهميته في مناقشتنا، وأودُّ أن أُشدِّد على غياب التحليل الذي يتناول ما إذا كان للبلدان العربية دور وعلاقات جدّية فيما يتعلق بإريتريا - في الدراسات والأبحاث الأوربية - على الأقل.
ومؤخرًا، كان ثمة بحث قدّمة (أَوِت.ت. ولد مايكل) لا بُدّ لي من الإشارة إليه، يذكر فيه: "كيف انجذبت بلدان عربية عديدة إلى القرن الأفريقي، وذلك لأسباب مختلفة، وكان أحد أهم مداخلها إلى المنطقة الحركات الإريترية الراميِّة إلى تحقيق الاستقلال عن أثيوبيا، كما لجأ القوميون الإريتريون الأوائل إلى الدعم العربي وذلك عبر تقديم قضيتهم على أساس أنها كفاحًا عربيًّا علمانيًّا وتقدّميًّا، فضلًا عن كونها كفاحًا إسلاميًّا (على الرغم مما في ذلك من تناقض) فأثيوبيا التي يكافحون هيمنتها كانت أيضًا في ذلك الوقت دولة مسيحية إقطاعية ورجعيِّة.
من جهة ثانية، ينبغي أن لا ننسى أثر صراع المصالح بين مصر وأثيوبيا (أيدولوجيًّا وعلى مياه نهر النيل) بجانب دور التوسع الوهابي السعودي في القرن الأفريقي، والتنافس السوري العراقي في حمل لواء العروبة والترويج لها على حساب مصر وضمن عدائهما (العراق/ سوريا) للسعودية المحافظة، على الكفاح الإريتري، وشدّ كل تلك البلدان إلى شمال شرق أفريقيا عبر سيرورة معقّدة ومُتبدّلة دامت ما يزيد على نصف قرنٍ من الاضطراب.
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
* بروف إيرما تادِّيا - أستاذة في قسم التاريخ والثقافة بجامعة بولونيا الإيطالية
* المقال منقول عن كتاب (العرب والقرن الأفريقي - لمجموعة من المؤلفين) وناشره المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات بالدوحة - الطبعة الأولى أكتوبر (2013) - بيروت.