العرب وتداعيات الصراع من شبه الجزيرة الكورية إلى البحر الأحمر
بقلم الأستاذ: حامد الكيلاني - كاتب عراقي المصدر: العرب
تكدس القواعد في جيبوتي وتأخر العرب في الوصول إليها أو دعمها لانشغالهم بتداعيات الحروب والواقع السياسي في بلدانهم، لن
ينفصلا عن مؤثرات أي تصعيد في منطقة البحر الأحمر.
الربع الأخير من القرن العشرين شهد انتهاء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي وتوقيع اتفاقيات متعددة لإعادة بناء الثقة بمعاهدة الحد من انتشار السلاح النووي وتخفيض مخزونه الاستراتيجي والتدقيق في كفاءة المنشآت النووية التقنية لمعالجة أخطاء صغيرة قد تسبب ضررا بالغا وفادحا. ومثال مفاعل تشرنوبل واقع ينبغي على العالم ومنظمته المعنية عدم تجاهله أو الركون إلى التقارير الخاصة للخبراء المحليين في المواقع المختلفة.
في تلك الفترة ورغم الحروب الإقليمية كالحرب الإيرانية العراقية في الثمانينات وما جرى من تفتيت وانتهاكات واسعة في يوغسلافيا مثلا، فإن الإنسانية عموما ارتفعت لديها مناسيب الأمل ورفعت شعارات نحو حياة أفضل وكأنها تودع ماضٍيا طويلا من انهيارات العقل والفكر البشري الذي انساق خلف إرادات شخصية عمّمت وجهة نظرها بالقوة على شعوبها، أو بتأجيج العواطف الوطنية إلى درجة الاتقاد، حيث لا تنفع مراجعة وتحسب لمخاطر وشيكة، وعندها تنشأ الحروب بما تجرّه من ويلات على جميع الأطراف.
العالم بنظامه السياسي العام يتألف من دولة عظمى أو دول عظمى ودول قوية، ودول ناهضة ودول نامية واعدة، ودول نامية تحبو على مضمار فيه عداؤون متفوقون وبسرعات مثالية. واقع الدول ليس هبات إنما بناء وتراكم منجزات وثورات علمية وتنموية واكتشافات واختراعات صنعت تلك التقسيمات التي تستند على قوة الاقتصاد والنفوذ وقوات مسلحة من جيوش ومؤسسات أمنية زاخرة ليس فقط بالقادة وإنما بالعلماء والخبرات، ومن يطلع على بعض التفاصيل يندهش لمستوى الاندماج بين مستلزمات التطور العسكري والمدني الذي يتصل حتى بخدمة الفنون والثقافة والسياحة.
الشعور بنسيان الماضي كان لغة طاغية تصاعدت وكأن جزءا كبيرا من الألم تراجع إلى الخلف تاركا للاستقرار في العلاقات الدولية توجّها آخر، سماته تبادل المعرفة والثقافات وتحطيم الحدود الفاصلة بين الدول، حدود كالأسيجة في القوانين والجغرافيا لكنها حقيقةً عوائق أمام التقدم الهائل والانفتاح في زمن التسوّق الإلكتروني للبضائع الكبيرة والصغيرة وأيضا بضائع التسلية والألعاب والخيال.
الحدود في زمن ثورة التكنولوجيا تخضع لمشيئة القرار السياسي ونوعية التوجهات، ومهما تشدّقت بعض الدول بوطنيتها الخالصة وتعاملت معها بطريقة العصبية القبلية، إلا أنها مع ذلك تتعاطى مع حاجاتها ورغباتها بتناقض صريح. الدول لم تعد جزرا معزولة، بل إن العالم ومنه الدول الكبرى التي تتأثر ببطء الحركة أو شبه انعدامها لدى بعضها، والأمر أشبه بالعبء على مجمل حركة الحياة، لأن هذا العبء يتبلور بالتدهور في المفاهيم إلى أن يصبح خللا بنيويا كالإرهاب أو العقائد المنغلقة وعندها لا فرق بين تنظيم مسلح أو دولة أو كيان أو حزب، فالجميع في المحصلة يصبح عقبة تعيد إلى الأذهان أن الفروقات في العيش وتكدس تعاليم الموت والخوف والعنصرية بكل ألوانها والاستئثار والأنانية والتسلط والعنف هي مشاهد معادة من قسوة التاريخ تحاول أن تتمدد في الحاضر لتلقي به إلى ردهة طوارئ لا نهاية لها.
كوريا الشمالية تضغط على الولايات المتحدة الأميركية في لغتها وتلوّح بالتهديد النووي. الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالمقابل أوجزها ”برد لم يعرفه العالم سابقا“.
لماذا تتجرأ بيونغ يانغ وزعيمها كيم جونغ أون على تجاوز المعايير الفاصلة بين الدول خاصة في التعامل بين مكانة الدول على خارطة العالم؟ ولماذا الإصرار على اختبار صبر أميركا كدولة عظمى أو صبر الرئيس ترامب واستفزازه بمبالغة قد تفسّر لنا أسباب التهور أو الاندفاع الكوري الشمالي.
عمليات المكياج للنظام الشيوعي بعد تفكك الاتحاد السوفييتي لم تغير شيئا رغم تغير التسميات والماركات واستعارات النظم الاقتصادية والتجارية والتنموية وافتتاح مطاعم الهمبرغر أو ارتداء الجينز أو الاستثمار في الممنوعات القديمة للرأسمالية.
كوريا الشمالية جزء من المحور الروسي الصيني الإيراني، بهذا التحديد تتحمل الصين قسطا كبيرا من الضغوط الأميركية والدولية على كوريا الشمالية لأنها تصرح بأنها الخاسرة الوحيدة من العقوبات التجارية على بيونغ يانغ التي خفّضت من حجم الصادرات الصينية والتبادل التجاري بينها وبين كوريا الشمالية، حتى أن الصين أوصلت رسالة إلى أميركا والرئيس ترامب بما معناه أنها ليست وصيّة على تصرفات القيادة في كوريا الشمالية، لكن ذلك لن يشفع كثيرا في تفهم الموقف الصيني، لماذا ؟
الصين باستعراضها العسكري الأخير، وهي دولة غير ”استعراضية“ لأنها تميل إلى التكتم والسرية والعمل الدؤوب وبه خرجت إلى العالم كدولة اقتصادية تنافس أميركا في حجم إنتاجها وتعدده وأسواقه.
الاستعراض العسكري بالصواريخ النووية والتقليدية رسالة غير تقليدية لصين القوة العسكرية، قوة العدد البشري اعتمدته كمفتاح لسر قوتها وحوّلته إلى حل سحري مختلف لمعاناة دول عديدة ترزح تحت ثقل الزيادات في المواليد وقلة الموارد المعيشية والمشاكل المستعصية للتعايش بين المكونات الدينية والقومية.
الصين في الأسابيع الأخيرة كانت مثار اهتمام العالم لإنشائها أول قاعدة عسكرية خارج أراضيها في جيبوتي في البحر الأحمر، وهي دولة عضو بجامعة الدول العربية استقلت عن فرنسا في العام 1977 وتشكل مع إريتريا وإثيوبيا والصومال منطقة القرن الأفريقي الاستراتيجية بالغة الأهمية، وجيبوتي دولة فقيرة في مواردها لكنها كانت تحتاج إلى قرون استشعار مبكر لمكانتها الجيوسياسية كدولة على رأس مضيق باب المندب في الجهة المقابلة لليمن.
جيبوتي تحولت خلال 3 عقود تقريبا إلى بلاد للقواعد العسكرية الفرنسية بحكم عائديتها الاستعمارية ثم البريطانية، وبعدها الأميركية وأخيرا الصينية، وجيبوتي لا تستثمر حتى القواعد المتعددة في فرض شروطها واستحقاقاتها المالية المفترضة. على كل حال الصين بعد ترحيل جاليتها من العاملين في اليمن إلى جيبوتي تفطّنت إلى أهمية الموقع الجغرافي كمحطة تواصل مع أفريقيا كمنجم استثماري بعيد المدى.
العراق بعد استقلال جيبوتي كان على دراية بأهمية القرن الأفريقي عموما وجيبوتي خصوصا، والدولة العراقية تبنت دراسات معمّقة سياسية وفكرية لأهمية التواصل ودعم حركات التحرر فيها، كما فعلت مع إريتريا. وتم تعيين سفير عراقي في جيبوتي في عهد رئيسها حسن جوليد وباختيار دقيق لشخصه ليكون عونا في إدماج الدولة الفتية بالمشروع العربي النهضوي الذي كان العراق يتبناه.
ولأن السفير هو أحد أصدقائي المقربين فقد تحدثنا حينها طويلا عن حجم المساعدات العراقية شبه المفتوحة لجيبوتي تحقيقا للتنمية المنشودة، ومنها إنشاء مدرسة ومستشفى وبناء جامع بطلب خاص من الرئيس الجيبوتي، وتوفير دعم مالي والنهوض بأعباء تدريب التخصصات المطلوبة مع مساعدات مختلفة شملت طائرة مدنية أو أكثر وأجهزة طبيّة وغيرها.
ومن بين المعوقات كان تعريب اللغة الرسمية لأنها فرنسية، ورغم إجادة الرئيس الجيبوتي للعربية فإنه كان يستعين خلال اللقاءات البروتوكولية بمترجم، وبسبب الانتقادات المستمرة خاطب الرؤساء والملوك في القمم العربية التي شارك فيها فيما بعد بالعربية، وكان ذلك إنجازا لم يلتفت إليه الكثيرون.
لغة كوريا الشمالية في التهديد ليست من فراغ. روسيا تتبنى التهدئة وتبدي تحسّسا للفواصل بين مكانة الدولة العظمى والدول الأخرى وتحث أميركا على عدم الانجرار إلى لغة التهديدات. إيران لا تكف عن دفع كوريا الشمالية للمواجهة لأن الصدام يصب في خدمة مشاريعها وتأخير محاسبتها على كل جرائمها وتمدد إرهابها ومناوشاتها ومناوراتها وتهديداتها التي لم تستثن البحر الأحمر ومضيق باب المندب.
تكدّس القواعد في جيبوتي وتأخر العرب في الوصول إليها أو دعمها لانشغالهم بتداعيات الحروب والواقع السياسي في بلدانهم، لن ينفصلا عن مؤثرات أي تصعيد في منطقة البحر الأحمر بسبب الحرب المحتملة بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة الأميركية. علينا عدم نسيان أن فترة المناورات والاستعراضات العسكرية والتهديدات النووية وهلوسة النظام الإيراني وميليشياته والتدخلات الروسية والأزمة القطرية هي فترة يجب على العرب أن يستعدوا فيها لكل طارئ.