الدور العربي في الثورة الإريترية... أفول الجبهة وبزوغ دور عبد الله إدريس
بقلم بروفيسور: إيرما تادِّيا المصدر: الأفريقية
لستُ مٌُتخصصة في العلاقات والسياسيات الدولية، لكن من الضروري الاهتمام بالعلاقات التاريخية بيت إريتريا وبلدان البحر الأحمر
وبقية البلدان العربية، حيثُ حُظيت إريتريا بدعمٍ من سوريا والعراق ومنظمة التحرير الفلسطينية، ثم السودان ومصر واليمن في سياق مختلف.
كان هذا (الدور العربي) واحدًا من مقوّمات الكفاح الإريتري المهمة جدًا، وهو لا يزال مُهمًا إلى الآن، لكن الباحثين الغربيين لم يتطرقوا إليه بعد. ولا أتناول في دراستي هذه أيّ تفصيل من تفاصيل هذا السِجالْ، مع علمي أن ذلك يبدو مُخيِّبًا للآمال أود فقط أن أُشيرُ إلى شهادة شخصيِّة من مؤتمرٍ كنتُ حضرته في تونس نوفمبر 1982، وكان لقاءًا عربيًّا - أفريقيًّا بالغ الأهميِّة، بعد أن انشقت جبهة التحرير الإريترية ومُنيت بالهزيمة على يدىّ الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا والجبهة الشعبية لتحرير تقراى، إذ تزامن مع تشكيل مكتب سياسي جديد لجبهة التحرير الإريترية وبزوغ دور "عبد الله إدريس".
وكان هذا اللقاء محاولة واضحة لإحياء جبهة التحرير الإريترية، بعد انقسامها 1982 إلى فصيلين، بدعم من بعض البلدان العربية وعلى رأسها الكويت. واغتنمت الفرصة لمقابلة شخصين بارزين، هما: إدريس محمد آدم وإبراهيم سلطان، ولأن اهتمامي كان منصبًا على استكشاف مقاومة كل الفاعلين من المسلمين والمسيحيين، قابلت كثيرًا من المناضلين المسيحيين مثل ولد أب ولد ماريام، لكنني لم أنشر هذه المادة، ولم أكتب عن إريتريا المعاصرة (بإستثناء مرّة واحدة في عام 1998)، نظرًا إلى أن اهتمامي ينصب على التاريخ، علاوة على رأيي الشخصي المُتمثل في إنه علينا أن ننتظر سنوا قبل ان نكتُب عن الخلفية التاريخية المُعقّدة للمسألة الإريترية. وسوف يكون لدينا ألوقت في المستقبل، حين تُفتح أمامنا السِجلّات والأراشيف كلها، لنتأمل أكثر في هذه القضيِّة بالغة التعقيد.
لكنني أود أن أشير إلى أنني لم أُغيِّر رؤيتي الفِكريِّة بشأن شرعية الهويِّة السياسية الإريترية وفي ما يخص الماضي الإستعماري، فإنني أُشدِّد على عمليتين: التغيُرات في الجدل السياسي الداخلي، وتفكيك الاقتصاد الاستعماري.
ويبدو أن هاتين المسألتين هما المُشكِلتان الرئيسيتان بالنسبةِ إلى مستقبل الدولة الإرترِّية.
ثانيًا - نقدٌ من الداخل:
يُعنى المبحث الثاني من هذه الدِراسة بالقضايا الأكثر أهمية والمتعلّقة بدولة إريتريا الحالية، ونقاش التطورات السياسية الأخيرة. وأودّ أن أركز على الجدل العلمي الذي هو فعلًا مسألة خلّاقة إذ تعكس أزمة الدولة الأفريقية وعملية تشكلها وطبيعة استقلاها، فهل نتكلم عن أزمةٍ وانهيار في إريتريا ونناقش ؟
هنا، علىّ التركيز أكثر على ظاهرة حديثة جدًا، إذ اعتقد أن ثمة أهمية لتحليل مُفصَّل لبعض الكتابات المهمة مثل كتابة (برخت هبتي سيلاسي): "أمة جريحة: كيف جرى خيانةُ إريتريا التي كانت يومًا واعدةً وعُرِّضَ مستقبلها للخطر" وكِتاب (قايم كبر آب): "إريتريا حُلمٌ مؤجل"، وهما الكتابان الأهم بين كُتبٍ كثيرة.
هدفي الأول هو توثيق الانشقاق والاحتجاج بين الإريتريين أنفسهم، في حين يكمُن هدفي الثاني في فتح نقاش والانخراط في جدلٍ واسع يضم باحثين في هذا المجال، بغية الحصول على مزيد من التوثيق للوضع السياسي الراهن في اريتريا، فمن المهم تسجيل هذا الانشقاق من الداخل، وأرغب في القيام بذلك باستخدام التوثيق المُتاح الذي نُشرَ مؤخرًا خارج إريتريا، وجمْع كثيرٌ من المصادرِالأوليِّة بشأن السياسة الحديثة في بلد ظل مغممورًا لسنوات طويلة، ويتسم بتوازن سياسي بالغ التعقيد تلخصه عبارة (اللاّ حرب اللاّ سلم)، وفي ظل هذا كله يبقى النقاش أمرًا مُرحبًا بِهِ.
أما (برخت هبتي سيلاسي) فهو أكاديمي معروف ومحترم وعالم سياسة وقانونّي، شارك مباشرة في عملية إعداد الدستور الإريتري. كما أدّى دورًا مُهمًا في وضع القواعد القانونية والديمقراطية لبلده. وكتابه المُشار إليه شهادة تاريخية بمنزلة سيرة ذاتية لرجلٍ دعم الكفاح واضطلع بدور مهم في حرب العصابات، فضلًا على كونه سِجلًّا لحياته ودليلًا على انخراطِهِ السياسي والقانوني. وفي الوقت ذاته فإن كتاب (أمة جريحة) هو اتهام صريح للقيادة الإريترية، كما هو وثيقة فريدة تجمع بيتن التجربة الشخصية والبحث العلمي والشهادة الشفوِّية والتوثيق الرسمي. كما يبرز هذا الكتاب بوصفة أهم المذكرات وأكثرها موثوقيِّة ، إذ تعتمد على تجربة (سيلاسي) الطويلة في بلدهن وعلى نشاطه الدولي باعتباره مستشارًا، وعمله في أثيوبيا. وهو سيرة ذاتية بالغة الغِنى لسياسيٍّ وباحث لايزال فاعلًا. وسأناقش ما اعتبره الأجزاء الأكثر أصالةً في هذا الكتاب، أكان في مقارباته أم في محتوياته.
نال الكتاب بعد نشره اهتمامًا شديدًا في أوساط الجمهور الدولي، وكان الكاتب واضحًا حين أعلن منذ البداية ما يراه من أن: "إريتريا بعد استقلالها كان بمقدورها أن تكون أمة واعدة، لو لم تتدهور إلى دولة مشلولة بسبب نظامها المعادي للديمقراطية، نظام الحزب الواحد، الذي يقودة الرئيس أسياس أفورقي، وبضعة رجال عطشى للسلطة".
من هذا المنظور يهدُف الكِتاب إلى (فهم ما هو خطأ في إرتيريا وسببه)، إنظر الفصل الرابع تحت عنوان (خداع أبيض... الخطيئة الأصليِّة في السياسة الإريترية) واستقصاء (الفرصة الضائعة للتغيير الديمقراطي والسلمي) وانظر الفصل العاشر (بيان برلين ومجموعة الخمسة عشر: فرصة ضائعة)، وذلك لإداركه أن الحقيقة تُحرر المرء.
يصور الكاتب إريتريا ما بعد الاستقلال، بأنها تعاني أزمة حادة، وتعيش بواسطة جهاز إنعاش اصطناعي،. ففي إريتريا الحاليِّة كما يقول (برخت هبتي سيلاسي): " باتت الامور أسوأ من ذي قبل، وشعبها فقد ثباته وجلده، كما فقد الأمل".
ما أحسب أن الأكثر ابتكارً ا في هذا الكتاب، هو عدم اقتصار الكاتب على مُساءلة السياسة الحاليِّة. فالمقاربة المُبدعة، بالنسبة إلى ناشط يابفق وعضو في الجبهة الشعبيّة لتحرير إريتريا، هي في مساءلته عن طبيعة حرب العصابات ذاتها، معتبرًا إياها مُنطلقًا سلبيًّا للديناميّة السياسية في الدولة الجديدة. وهو يعلن ويكشف عن (الرقابة التي فرضها على نفسه - من قبل - كي لا يذكر لأى أحد الجرائم التي اقترفتها الجبهة الشعبيّة ضد بعض المقاتلين في صفوفها، وقد شعر بالذنب حيال ذلك فراح الآن يجهر بالحقيقة ويكسر الصمت، ولأن سياسية الجبهة الشعبية لم تكن علنية يومًا ما، فإن ذلك ما جعل الساحة الراهنة تحتشد بأسرارٍ وألغاز كثيرة.
يحلل الكاتب في الفصل الرابع من كتابة، هو فصلًا فيه الكثير من التحدي، إذ يناقش خلاله أيدولوجيا ما قبل الاستقلال في سياق الواقع الحالي وانقشاع الأوهام، ليبيّن ما بين تلك الأيدولوجيا والواقع الحالي من تعارض. إذ جذبت دعاية الجبهة الشعبيِّة لتحرير إريتريا الكثير من الشاب كمقاتلين بين صفوفها لتحقيق الاستقلال والحُرِّية، ووعدت الجماهير بمستقبل أفضل وهي وعود لم تتحقق قط. بل واخفقت الحكومة في مجالات كثيرة مثل غياب الحريات والسلطة المُفرطة والسيطرة على الاقتصاد وعلى أوجهِ الحياةِ الاجتماعية كُلِها، والخدمة العسكرية الإلزامية التي لا تنتهي وسواها. وللأسف، لم تنتهِ هيمنة النظام المتسلط، بل زادت ضراوة في العام 1994، وفي السنوات اللاحقة لها بعد تأسيس حزب الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة.
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
* بروف إيرما تادِّيا - أستاذة في قسم التاريخ والثقافة بجامعة بولونيا الإيطالية.
* المقال منقول عن كتاب (العرب والقرن الأفريقي - لمجموعة من المؤلفين) وناشره المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات بالدوحة - الطبعة الأولى أكتوبر (2013) - بيروت.