اللجوء تضحيات شعب من أجل الاستقلال - الجزء الاول
بقلم الإعلامي الأستاذ: أبوبكر عبدالله صائغ - كاتب وصحفي ثقافي مهتم بالتأريخ
لو أردنا أن نتحدث عن اللجوء واللأجئين الارتريين أولاً وقبل كل شيئ يجب أن نتحدث عن الظروف القاهرة التى أجبرت الإرتريين
لمغادرة بلادهم سواء كانوا في شكل أفراد أو جماعت، اللجوء فرضته الضربات والملاحقات والإغتيالات التى كانت تقوم بها القوات الاثيوبية والعصابات المنظمة التابعة لها والتى كانت تأتي من العمق الاثيوبي، لتنفذ الإغتيالات بحق قيادات سياسية إرترية كانت تنشط في مقاومة المشاريع التى كانت تهدف الى ضم إرتريا لإثيوبيا.
إن إغتيال الشهيد/ عبدالقادر كبيرى نهاراً في شوارع أسمرا كان الهدف منه زرع الرعب والخوف في أوساط القيادات السياسية التى كانت تطالب بإستقلال إرتريا من جهة وإسكات الصوت الارتري الحر الذى كان يسعي لإيصال القضية الارترية الى العالم عبر طرحها في هيئة الامم المتحدة للمطالبة بالاستقلال الناجز، وإن إغتيال كبيري مثل إنذاراً مبكراً لكل القيادات السياسية التى كانت تطالب بالاستقلال وتعمل من اجل تنظيم القوى السياسية الفاعلة في إطار تحررى، والعملية كانت عملية إرهابية بحتة خلقت جواً من الخوف وتمخضت عنها هجرة بشكل فردى للقيادات السياسية التى كانت تساند الاستقلال، فمثلاً من مصوع وعبر القوارب هاجرة قيادات سياسية الى السعودية واليمن وهذه الهجرة كانت غير معلنة، أيضاً الفترة التى أعقبت الانتهاء من إنعقاد الدورة الثانية للبرلمان الارتري شهدت هجرة فردية لمعظم منتسبي البرلمان من إقليم سمهر وخاصة مدينة مصوع وضواحيها وإن كتلة إقليم سمهر في البرلمان الارتري كانت تعد الثانية بعد كتلة تدلا بايروا ولذلك لجأ معظم أعضاء تلك الكتلة.
في تلك الفترة حدثت تطورات سياسية مهمة تمثلت في تأسيس حركة تحرير إرتريا وتشكلت الخلايا السباعية في الداخل الامر الذى زرع الرعب في أوساط سلطات الاحتلال الاثيوبي ثم تأسست جبهة التحرير الارترية في الخارج وإنطلقت شرارة الكفاح المسلح في الداخل، كل تلك التطورات جعلت القوات الاثيوبية تنفذ حملة إعتقلات واسعة عبر إستهداف واضح للقيادات السياسية مما أجبرتهم لمغادرة إرتريا سراً وعبر مختلف المنافذ ومثال على ذلك مغادر رئيس البرلمان الارتري الشهيد/ إدريس محمد أدم والزعيم الوطنى الكبيرالشهيد/ إبراهيم سلطان والشهيد/ ولدأب ولدماريام وغيرهم من الوطنين الذين كانوا تواقون الى الاستقلال.
الفترة بين أعوام 1957م - 1960م شهدت نزوح لقيادت سياسية الى السودان، نتيجة لإنطلاق الثورة الارترية وتطورها عمدت القوات الاثيوبية الى إرتكاب إبادات جماعية في بعض القرى في الريف الارتري ومن الصعب الان تعداد الذين قتلتهم القوات الاثيوبية في تلك المجازر الجماعية، السياسة الاثوبية كانت تعتمد خطة إجبار الارترين الى النزوح من بلدهم والقضاء على كل القرى التى تدعم الثورة ومناطق الرعي ومناطق الزراعة فمثلاً في الشرق كان التركيز في مناطق قمهوت وشعب وعايلت وأيضاً كانوا مركزين على منطقة بركة بإعتبارها مهد الثورة لوجود ثروة حيوانية ضخمة لايمكن أن أصفها لك الان وثروة وزراعية هائلة وخيرات كثيرة، أيضاً تهجير الارتريين الذين كانوا منضوين في قوات البوليس وملاحقتهم وإبعادهم الى العمق الاثيوبي.
في عام 1967م هو العام الذى حصلت فيه عملية التحرك الاثيوبي المنظمة بعد تكوين وإعداد قوات "الكمنديس" وهى قوات خاصة شكلت للقضاء على الثورة الارترية من جهة وتهجير الشعب الارترى عبر إرتكاب إبادات ومجازر جماعية في الريف والمناطق المستهدفة من قبل القوات الاثيوبية، قوات الكمديس كانت تتكون من الارتريين والاثيوبين، حيث كانوا يتحركون في المناطق الريفية البعيدة ويرتكبون أفزع الجرائم والمجازر عبرقتل كل إنسان حي أو حيوان حي يقابلونه في طريقهم، وأتذكر إن الاثيوبين كانوا يستهدفون القضاء على الثروة الحيوانية عبر قتل كل قطيع يجدونه أمامهم من الابقار والماعز والابل، أيضاً عملية الابادة كانت تتم عبر طائرات "إف 5" الاميريكية التى تم تركيب رشاشات بداخلها لإصطياد كل شيئ حي يتحرك أمامهم، وتلك الطائرات كانت تقصف التجمعات الحيوانية والبشرية في بركة حول الابار والمناطق الزراعية والسكانية ومناطق الرعى، سكان تلك المناطق أصيبوا بالرعب والخوف من نوايا القوات الاثيوبية وخاصة إن الثورة في تلك الفترة لاتملك سلاح يردع تلك الطائرات التى كانت تستهدف المواطنين العزل وثروتهم الحيوانية مما أجبر السكان الى مغادرة قراهم والهروب لإنقاذ أنفسهم، حصلت في تلك الفترة مذابح وإبادات جماعية على الارض في مناطق عد قدد - بركة لعال - شُقلقل - عد عيسي وعد كوكوى - وحركوك - وفي مناطق شيتل - ومنصورة، وإمتدت عملية الابادات الجماعية بدون تميز ورافقها قهر شديد الى مناطق القاش حيث إعتدت القوات الاثيوبية على منطقة كركون التى كانت تشكل منطقة للإعتماد على الذات بمواشيها وأهلها وزراعتها وقتلوا منهم حسب ما يقال حوالى 250 شخص، أذكر أيضاً حادثة تكومبيا والإبادة الشاملة التى إرتكبت هناك في قرى شمبارى- وأوقاروا - وعد سيدنا همد في كورندا، وإمتدت عملية الابادة الجماعية التى كانت تركبها قوات الكمنديس الى مقرايب والى عمق بركة وشملت أيضاً عد أكد حيث قتل فيها حوالى 70 شخص في عنسبا حيث كانت متهمة قرية عد أكد بإنها تشكل اليد اليمني للثوار في منطقة زرا ومناطق أسماط وأروتا وغيرها زهى كانت إمتداد لمناطق الساحل عن طريق بركة، لا يمكن إحصار الارواح التى أزهقتها قوات الكمدوس في تلك الابادات الجماعية بالارقام.
أول عملية لجوء جماعية الى السودان تم في شهر مارس من عام 1967م بمنطقة قلسا والعدد كان كبير بحيث تجاوز مئة ألف لاجئ، وهولاء الأجئين كانوا مهمشين وخاصة إن السودان في تلك الفترة لم يكون له خبرة ولم يشهد لجوء جماعي بهذا الحجم و الثورة إمكانياتها لاتسمح لها بإستضافة مثل هذا العدد الكبير ولاتوجد منظمات إنسانية تقدم الدعم والمأوى لهم، كانت أحوالهم صعبة جدأ والانساني العادى لايمكن إحتمالها، وكان هنالك تخوف شديد حتى لا تلاحقهم القوات الاثيوبية وخاصة إن السودان في تلك الفترة كان لا يجاهر بمعارضة إثوبيا التى كان تسيطر على منظمة الوحدة الافريقية والمخططات الاثيوبية كانت تجد التأييد من قبل الدول الافريقية، والسودان وضعه كان حرج جداً، واللأجئين الارتريين كانوا ضحية في تلك الفترة.
وأتذكر في منطقة كان هناك معسكر أقيم في غرب قلسا من قبل السلطات السودانية لإستقبال الأجئين الارترين دون التعهد بتقديم أي مساعدة وأخيراً ونتيجة لتدخل بعض الواسطات قيل يجب أن يكونوا هؤلاء اللأجئين بعيدين عن منطقة الحدود لعوامل كثيرة جداً حيث تم التفكير في نقلهم الى منطقة القضارف،وفي منطقة في تلك الفترة كان الارتريون يملكون أعداد ضخمة جداً من المواشي والأجئين الجدد إستطاعوا أن يستقورا في تلك المناطق ويحولوها الى مناطق حضرية مثل مناطق ودالحليوا - ودالحورى - وأم سقطة - وأم بروش - وسالمين وإمتدادا على نهر النيل مناطق السوكى - وحمدنا الله وكثير من المناطق في الدندر.
الظروف الحياتية والمعيشية في تلك المناطق صعبة جدأ ولايمكن سرد قصصها الان بكل بسهولة في هذه العجالة ولتذكرنا تلك الفترة اليوم بالتأكيد نتعجب كيف إستطاع الارتريون أن يعيشوا في تلك المناطق الوعرة التى كانت تمتلئ بالافاعى والحيوانات المتوحشة، ونتسأل كيف كان الانسان يحمي نفسه وأسرته ومواشيه في تلك المناطق الوعرة، الكثير من الناس راحوا ضحايا في تلك المنطقة دفع الارتريين ثمن غالى جداً حتى تمكنوا تأمين أنفسهم وأسرهم ومواشيهم في مواجهة الظروف الصعبة التى كانت تحيط بهم، حيث تعرضوا لأحوال صعبة جداً وجراحات ومأسى حيث فقد الكثيرين أبنائهم في تلك المناطق مأسي لا أرغب في تذكرها الأن.
ورغم ذلك حاول الإنسان الارتري بعد مغادرته لوطنه أن يتأقلم مع الظروف التى واجهته حيث عمل بجد لإستصلاح الاراضي الزراعية وتمكن من قتح معابر في الغابات وأزال الحشائش الضارة التى تشكل مسكن للافاعى والافات الاخرى، بإرادة قوية واجه تلك الصعوبات وإنتصر عليها وإستطاع أن يبنى قرى أثبه بالمدن الكبيرة وشكلوا في معسكرات تلك كيانات كبيرة، خلال جواتي في تلك المناطق سمعت حكاوى من هولاء اللأجئين حيث كانوا يقولون لنا هذه غابة إسمها كان كذا وتحولت الأن الى حي يعج بالحياة وهكذا حكاوى،أما المواشي فحدث ولاحرج فكانت تنفق بفعل الامراض والجفاف وإنعدام الرعاية والوحوش وغير ذلك، تلك كانت أحوال الهجرة الاولى الجماعية التى بدأت عام 1967م.
أما الهجرة الثانية التى بدأت عام 1975م كانت عبر طريقين، الجهة الشرقية حيث بدأت قوات الاحتلال الاثيوبي بحملات قتل جماعية وتهجير مخطط له في مختلف المناطق حيث شهدت مدينة حرقيقو إبادة جماعية عشوائية إستهدفت المواطنين العزل، وهاجر على إثرها سكان إقليم سمهر والساحل عبر رحلة طويلة ووصلوا الى مدينة بورتسودان وجزء أخر منهم عبر القوارب الى السعودية، لاجئين الهجرة الثانية كانوا أفضل حالاً من الذين هاجروا في هجرة اللجوء الأولى لأن معظمهم هم من سكان المدن ولجوء بكل خيراتهم ومعهم بعض ممتلكات الثمينة وكان لهم أبناء أقارب يقيمون في عدة دول منها المملكة العربية السعودية أعانوهم في محنتهم،حيث سكنوا في بورتسودان في مختلف الاحياء وساهموا في بناء مدينة بورتسودان وسواكن وغيرها من المدن بولاية البحر الاحمر.
أما الطريق الثانى للهجرة الثانية التى بدأت عام 1975م نتيجة لحرب المدن التى كان تستعد لها الثورة لتنفيذها وإن الثورة التى كانت تتمركز في الريف وصلت الى أطراف المدن الكبرى، ولذلك كان طريق تسنى على قدر وأم حجر منفذاً غادر عبره سكان عنسبا والقاش وبركة عبر تلك المنافذ الى الحدود السودانية، أيضاً سكان إقليم حماسين وسراي وأكلى قزاى الذين كانوا يملكون إمكانيات مادية هاجروا وإستقروا في المدن السودانية عبر مختلف المنافذ وخاصة المنافذ الغربية.
واللاجئين الارتريين الذين سكنوا المدن السوداني في الإقليم الشرقي أسهموا في بناء تلك المدن بأموالهم التي كان يرسلها لهم أبنائهم الذين يعملون في مختلف الدول العربية والاوربية وأمريكا.