سؤال الهوية في القرن الافريقي.. أزمة ثقافية أم مشكلة سياسية؟
بقلم الأستاذ: رائد صالح النينوة - عدن اليمن
في شهر مارس من عام 2015 م وبرفقة مجموعة من الاصدقاء قمنا بزيارة العاصمة الاثيوبية أديس أبابا، هذه الزيارة الاولى ولدت
عندي انطباعا جيدا عن هذا البلد الجميل والشعب الرائع الطيب، ومما لفت انتباهي وجود مطاعم متخصصة بتقديم اطباق ووجبات يمنية، يديرها ويعمل بها اثيوبيون، وازداد اعجابي بازدحام هذه المطاعم بالزبائن الاثيوبيين، عائلات وافرادا، يتناولون وجبة (المندي) (أرز مع لحم تطبخ على الاحجار في تنور) ومنشؤها في حضرموت وشبوة شرق اليمن، بالإضافة الى وجبات يمنية أخرى يقبل عليها الزبائن بنهم شديد، ولتكتمل الصورة قفزت الى ذاكراتي صورة انتشار المطاعم الاثيوبية في العاصمة اليمنية صنعاء التي تقدم وجبات (حبشية) واشهرها وجبة (الزقني) ووجبات اخرى مثل (انجيرو) و (شرو) واقبال الزبائن اليمنيين على تناول هذه الوجبات، اكتمال الصورة بين ضفتي البحر تعبير عن تواصل ثقافي، وقبول بالآخر في ثنائية (الأنا والآخر)، ونشوء علاقة تأثر وتأثير بين عرب وسط وجنوب الجزيرة العربية مع الحبشة (اثيوبيا وآرتريا).
وفرضت هذه الصورة نفسها علىّ مع عودة السؤال القديم - الجديد، سؤال الهوية، ويبدو لي انه سؤال يجد مشروعيته التاريخية والثقافية والسياسية وله مبرراته، يختلط فيها الثقافي بالسياسي، الذاتي بالموضوعي، القبلي بالطائفي، الوطني بالقومي...، ولذلك فإن سؤال الهوية يفرض تحدياً كبيراً بسبب هذه التشعبات، والتكوينات الاجتماعية والطائفية، مما يستدعي الابتعاد عن الاحكام المسبقة والمقولات الجاهزة، فموضوع الهوية في القرن الافريقي، اضافة الى السودان، عومل بكثير من الصمت والتساهل والتغاضي، والاسوأ استخدامه ضمن الصراعات السياسية، وتحديداً في السودان وآرتريا، اما بالنسبة لدول (اثيوبيا، الصومال، جيبوتي) فقد حسمت هذه المسألة بنسبة مرتفعة.
واذا كان سؤال الهوية، سؤال صادم، يجعل البعض يشعرون باختلال التوازن، فإن البحث فيه محفوف بالمخاطر ولا يخلو من اتهامات بالتعصب لهذه القومية او تلك، لهذا العرق او ذاك، لهذه الأثنية او تلك، والحديث عن الهوية يشترط الوقوف على مكوناتها الثقافية والاجتماعية، لأننا قد نجد جماعات ذات امتيازات هائلة، وأخرى تتعرض للتهميش والاقصاء، وقد يصل الأمر الى الاضطهاد، ويظهر الشعور بعدم الانتماء لدى هذه الجماعات المقصية والمضطهدة، وللدفاع عن نفسها ومصالحها يسعى الطرفان للتمترس خلف كيانات تقليدية، قبلية، مناطقية، طائفية، عرقية، ...الخ.
ان الاتصال بين العرب وشرق افريقيا والقرن الافريقي قديم مما قبل ظهور الاسلام، ولم تكن نصيحة سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) الى بعض المسلمين الهجرة الى الحبشة حيث سيجدون حاكم عادل (النجاشي)، الا نتيجة للمعرفة بهذه الاراضي الافريقية، وفيما بعد ومع اشتداد وقوة الدعوة الاسلامية، جاءت الدعوة الاسلامية مع التجار والمهاجرين لهذه البلاد حاملة معها رسالة سماوية وثقافة أمة، وحضارة تُشيد، وفي العصر الحديث كانت هناك علاقات تجارية وهجرات بين العرب في جنوب الجزيرة العربية وشرقها مع شرق افريقيا والقرن الافريقي، فنشطت الحركة التجارية وانتقلت السلع من الموانئ العمانية واليمنية في بحر العرب والبحر الاحمر الى القرن الافريقي، والعكس، كما انتقل البعض كمهاجرين سعياً للرزق، واستقر الكثير منهم في تلك البلاد.
ومع حركة السفن والقوارب لم تكن السلع والبضائع والمهاجرين هي فقط ما يتم نقله، بل كانت تنقل ثقافة تتصل بثقافات أخرى، وتنشأ عملية تبادل ثقافي بطريقة سلمية، وتلاقح وتناقح ثقافي، اساسها انفتاح هذه الثقافات على بعضها، لتتزود من بعضها البعض، ولم تكن العلاقة تصادمية او علاقة الغاء الاخر كما يحدث الان بظهور مصطلحات، الصدام الثقافي وصراع الحضارات، التي تروج له مؤسسات غربية رسمية وغير رسمية، ولهذا ارتوت الثقافات من بعضها البعض، فأخذت الثقافة الافريقية من الثقافة العربية، والعكس صحيح، ليكون نتاج هذا التلاقي والتلاقح ولادة الشخصية التي يمكن ان نطلق عليها (العربية بإرثها الافريقي) او (الافريقية بجوهر عربي) انها الشخصية (الخلاسية) نتيجة تمازج واختلاط ثقافات عريقة جذورها ضاربة في عمق التاريخ.
ومع كل ما سبق فإن المسألة - حسب رأيي - ليست ثقافية بل سياسية بامتياز، تظهر بمحركات خارجية وداخلية لأغراض سياسية، وتزداد حدتها، حين يشعر الافراد والجماعات بالتهميش والاقصاء من الجماعة المسيطرة، وقد ينتاب البعض منهم الشعور بالاغتراب نتيجة عدم تحقيق ذواتهم وعدم تلبية حاجاتهم وعدم اشباع رغباتهم، وكما اسلفت سابقاً، تتجه هذه الجماعات والافراد الى الانكفاء والتقوقع والبحث عن مكونات قديمة تقليدية، قبلية، مناطقية، عرقية، طائفية... الخ، يتمترسون خلفها للدفاع عن انفسهم وعن وجودهم، وقد لا يكون اللجوء والتمترس بكيانات تقليدية فقط، بل قد تسعى هذه الجماعات والافراد الى مفاهيم وكيانات حديثة، قومية، وطنية...
ففي الحالة السودانية: سعت القوى الشمالية على تأكيد الانتماء العربي، والارتباط بالمحيط العربي الاسلامي، اما القوى الجنوبية فقد طرحت الجذور الافريقية وارتباطها بالمحيط الافريقي المسيحي، وكل من الطرفين كان يستخدم الانتماء الثقافي والهوية كأدوات في الخلافات السياسية، الذي تطور الى صراع مسلح انتهى بخروج جنوب السودان من عباءة الحكم المركزي، وظهور دولة جنوب السودان، وهذه قد لا تكون الحالة الأخيرة، فربما تلحق بها كيانات اخرى تسعى للانسلاخ عن السلطة الحاكمة في الخرطوم.
اما في الحالة الإريترية: سنجد تأثير الواقع الاجتماعي على التنظيمات السياسية، ايام حرب التحرير قبل الاستقلال وبعده، حيث ظهر جلياً واضحاً تأثير المكونات الاجتماعية على التنظيمات السياسية بعد الاستقلال، وتبدأ عملية فرز بين القوى المتصارعة حتى افضى ذلك عن تيارين، عربي اسلامي - افريقي مسيحي، وحشد كل طرف قواه وادواته بالاعتماد على المكونات التقليدية والتمترس خلفها، كما كانا يستخدما المفاهيم الحديثة، قومية، وطنية...، فسعت القوى ذات الجذور العربية الاسلامية الى تجاوز الحالة الوطنية والارتباط بالأفكار القومية ونسج علاقات مع الدول العربية والاحزاب القومية العربية، ولم يكن هذا التماهي الكياني مع القومية العربية من باب الايمان بالفكر القومي فقط بل كان ايضاً جزءا من عملية سياسية في إطار صراعها الداخلي الوطني وتأكيد حضورها السياسي في الحكم، وعلى الجانب الآخر كانت القوى ذات الجذور الافريقية المسيحية تؤكد التماهي الكياني الوطني، والارتباط بالمحيط الافريقي، والتأكيد على الذات الوطنية، ولم تكن هذه الرؤية سوى خطوة سياسية من اجل احكام القبضة على حكم ارتريا، وبدأت ملامح السيطرة تتضح، استيلاء فئات متنفذه على معظم المساعدات النقدية التي حصلت عليها إرتريا بعد الاستقلال، لتظهر بيوت تجارية ذات علاقة بهذه القوى السلطوية المتنفذة، بدل ان تذهب هذه المساعدات في مشاريع خدماتية وتنموية يستفيد منها الشعب الإرتيري، وفي هذا النهب تأكيد على العقلية القبلية الطائفية، كون القبيلة تنظيم اقتصادي - اجتماعي يعتمد على غزو التكوينات الاجتماعية الاضعف ونهب ممتلكاتها.
هذه السيطرة الاقتصادية للفئة الحاكمة، بعد السيطرة السياسية، جعلت التكوينات (الاجتماعية - السياسية - الثقافية) تشعر بأنه تم استبعادها اقتصادياً، بعد اقصائها سياسياً، لتزداد حالة الاغتراب عند الجماعات والافراد، ويبرز سؤال الهوية، وقد نسمع مستقبلاً اصواتا تنادي وتسعى لبناء دولها على اسس عرقية او قومية، فقد تسعى قبائل العفر للحصول على حكم ذاتي او الانضمام الى جيبوتي حيث امتدادهم القبلي، وربما تسعى (الساهو) لتحقيق كيان مستقل، والتقراي، او، او، مما يهدد وحدة إرتريا وتفككها..
وللخروج من هذه المعضلة يجب السعي من أجل بناء الدولة المدنية الحديثة، دولة النظام والقانون، التي يسودها العدل والمساواة والمواطنة المتساوية، والتوزيع العادل للثروة، وتكافؤ الفرص..
وليردد اشقائنا الإريتريين، بلغة عربية وايقاعات ورقصات افريقية:
ارتريا يا جارة البحر و يا منارة الجنوب
من اجل عينيك الجميلتين يأتي زحفنا
من أقدس الدروب
يا وردة يعشقها احبتي
يا جنة عشت بها طفولتي
ويردد كل اشقائنا واخواننا في شرق افريقيا والقرن الافريقي، مع الفنان السوداني الكبير ابوعركي البخيت:
الله الله ياخلاسية
يابعض عربية وبعض زنجية
اللـــــــــــــــــه ياخلاسية
لتتعانق الثقافات وتعطينا اطيب الرحيق، بدلاً عن صدام الثقافات وصراع الحضارات.