شهادة شخصية عن التنوع الثقافي والتعايُش الديني في إرتريا 1-2
بقلم الأستاذ: تسفابرهان ردي ترجمة الأستاذ: منصور علي المصدر: الأفريقية
نشأت في منطقة لم أكن أرى فيها اختلافًا في الدينِ واللغة أو العرق. ربما لأنني نشأت ضمن منطقة
تميّزت بتنوّع أنماط حياتها الثقافية والاجتماعية أو بالأصحّ، لأنني انحدر من عدةِ سُلالات. وكم كان مُدهشًا عندما وجدت مرة رجلًا مُسنًّا من المتحدثين بـ"الساهو،" ممن اندمجوا بالكامل ضمن ثقافة التقري ولغتها، يتحدّث إليّ بتلك اللغة المحليّة لساعاتٍ بشأن اسرتي، لدرجة بدا لي أنه يعرفهم أكثر منيّ.
أتذكّر، كذلك، أنني نشأت في طفولتي جوار مسجد ـ كان قريبًا جدًا من منزلنا. اعتدت حينها على محاكاة وترديد "الله أكبر"، عند كل أذان للصلاة. أقرب أصدقاء أسرتي الذين اعتبرهم بمثابة أفراد من الأسرة، حسب تقاليد تنشئة والديّ، هم من "الجبرتا" المسلمين، الذين يقطنون في منطقة "عنسبا"، المجاورة لمسكننا. أمّا أقرب أصدقاء والدتي، فأصله من "الـمَنْسَعْ" وتعود أصوله إلى "بيتْ شحقن" و"عدْ إبراهيم".
جاء إلى منزلنا إبّان مرحلة حرب التحرير بحثًا عن مأوى، ومنذ ذلك الحين ظلّ يزورنا ويقيم معنا على مدى العشرين سنة الأخيرة. كان يداوم على صلواته في منزلنا ويستيقظ باكرًا لأداء صلاة الفجر، أمّا خلال فترة شهر رمضان، فكانت والدتي تقوم في المساء بإعداد طعام الإفطار له.
إلى جانب كل ذلك، أتذكّر أنه كان مولعًا بي ويناديني تحببًا بـ "ولدي.. ويجي". أتذكّر أنّ اسمه كان عمر؛ رجلٌ حكيم، يقرأ الدعوات والآيات لساعات في الليل. في الحقيقة كانت قراءته الليليّة تلك تُضايقني أحيانًا، خاصةً حينما كنت أصحو بسببها. غير أن والدتي كانت تأمرني قائلة: اصمت! إنك بذلك تشوّش عليه الابتهالات.
تخيّلوا أن كل تلك المشاهد السابقة احتضنها كوخ شعبي صغير يضمّ أسرة مكوّنة من عشرة أفراد، حيث كان معظمنا يلتحف البلاط الأرضي، باستثناء إخوتي الصغار الذين كان بعضهم ينام إلى جانب والدتي، وبعضهم الآخر عند والدي. أمّا عمر، فقد كان ينام وسطنا شأنه شأن حالنا.
أزعم أنني كنت محظوظًا لأنني نشأتُ وأنا أتحدّث ثلاث لغات، وكنت أتحدثُها لدرجة أنني لم أكن قادرًا التمييز بينها، إلاَّ في أوقاتٍ نادرة عندما اضطر لسبب أو لآخر، تبديل لغة الحديث.
على سبيل المثال، عندما كنت أتحدث بـ "التّقرنية" تجد في المقابل من يتحدث بـ "البلين،" فيما يكون هناك شخص آخر (في نفس الوقت) يتحدث بـ "التّقري". مع ذلك، كان تواصلنا سلسًا، نتبادل الأفكار بمزج ثلاث لغات وكأنها لغة واحدة. لا أحد كان يُجبر للحديث بلغة أو أخرى، بل ولم نكن نشعر متى نقوم بتبديل لغة حديثنا.
تتضمن شبكة أقاربنا الممتدة، بما في ذلك أسرتي المباشرة، أناسًا يتبعون الإسلام والمسيحية بكل طوائفهما. الحق، فنحن نتمتّع بحرية اختيار معتقداتنا، فوالديّ من المسيحيين الأرثوذوكس، وأنا كاثوليكي، فيما يعتنق أخواني وأخواتي ديانات أخرى. والأغرب من ذلك، وجدت في مدينة "نقفة"، أقرباء لنا ممن عاشوا في "رُورَا" بمنطقة الساحل في شمال إرتريا، قد اعتنقوا الإسلام.
إضافة إلى ذلك، لدينا عائلات تربطنا بها صلة قرابة وثيقة يتحدثون بلغة "البلين" ولكنهم لا يتحدثون "التّقرينية" إطلاقًا، وفي المقابل هناك أيضًا عائلات تجيد الحديث بـ "التّقرينة" فقط، ولا تجيد البلين.
تمتد جذور أسرتي إلى منطقة المرتفعات في إرتريا، لا سيما منطقة "زَاويل كِيلْكيِلتي" القريبة من "حِمْبِرتي" في منطقة حَمَاسين ثم في "هضبة سَراي"و"أَكُلي قوزاي". عرفت تلك الامتدادات العائلية مؤخرًا بفضل وثيقة جمعت عام 1954، وبات بإمكاني تعقُّب شجرة عائلتنا ومعرفة تاريخها.
أتذكّر، أيضًا، عندما كنت يافعًا، التحقتُ بمدرسة كاثوليكيّة، كانت تحتضن أطفال من خلفيات دينيّة متعددة. ورغم هذا التباين، كنّا نصلي معًا لأن تقاليد المدرسة كانت تقتضي أداء نفس الصلوات التي تتوسل الثناء والشكر للربّ.
بعد ذلك، درستُ السنة الأولى من الدراسات الفنية في مدينة "نقفة"، واعتدت عند التحضير للامتحان مراجعة مسوّدات الدراسة بواحدة من الغرف التي أنشئت في باطن الأرض في فترة الكفاح المسلّح. أحببت تلك الغرفة بسبب جمالها وهدوئها، ولما تتيحه من خصوصية للقراءة.
عند جلوسي في تلك الغرفة، كنت دائم التفكير في الكفاح المسلّح وفي الطاقات التي كان يمنحها للناس لبناء مثل تلك الغرفة، وأفكّر في حيوات المناضلين الذين عاشوا بتلك الملاجئ التي شُيّدت في باطن الأرض. كنت أفكّر أيضًا في مصائر الشهداء الذين دفعوا أرواحهم من أجل جعل إرتريا دولة مستقلة.
كما أنني زرتُ، في فترة اقامتي بتلك الغرفة، معظم الخنادق التي شُيّدت حول مدينة نقفة، بما في ذلك "جبل دَنْدَنْ"، و"فِيدل بي"، و"طَابا دُوبلي"، و"فارنيلو"، وزرت المدرسة الثورية في "تسابرا" والمدرسة الفنية السابقة في "ويينا"، التي بنيت في 1985. إلى جانب ذلك، زرت المعالم الأخرى بـ "نقفة"، مثل مسجد المدينة، الذي ظلّ ثابتًا كالطود رغم تعرضه للقصف الجوي والقصف بمدافع الهاون في فترة حرب التحرير.
* نُشر أصل هذا المقال باللغة الإنجليزية في موقع عواتي