بعد ان وداعنا القائد والرمز اعود الى المنفى

بقلم الأستاذ: محمد امان ابراهيم انجابا

لقد وفقنى الله وكنت احد المشاركين فى وداع الرمز القائد احمد محمد ناصر حقا كان الحدث تاريخى

فلن يمحوا من الذاكرة.

بالرغم ان الفقد جلل والحزن عميق بفقدان قامة وطنيه تتمثل فى رمزية احمد ناصر. الا انى كنت سعيدا لمشاركتى فى وداعه وهذه السانحه التى اتيحت لى لم تتح للكثيرين الذين كانوا يرغبون فيها فان لحظات الوداع من اصعب اللحظات ولكنها توصلك الى قناعه ان الفقيد انتقل الى جوار ربه ومثل هذه المشاهد والاحداث لن تتكرر مرة اخرى. فحضورى ومشاركتى فى التشييع خفف علىّ الحزن و لم اكن اعتقد انى ساتمالك نفسي قبل المشاركة فى الوداع وبحمدلله كنت اقوى من الحزن الذى كان يملئ قلبي... لقد جفت دمعتى وكنت اكثر تماسكا من غيرى. الا انى فى بعض الاحيان كنت اشعر بالضعف والانكسار ولم استطيع ان احبس دمعتى عندما كان يتحدث رفاقه واصدقائه عنه و ينبشون الذاكرة ويتحدثون فى عمق علاقتهم وصلتهم بالراحل ومواقفه التاريخيه.

كان يمثل لى الرمز احمد ناصر جذوة الثورة فكنت استمد واستلهم منه النضال فكنت استحقر نفسي والجهد الذى اقوم به عندما ارى رجل يتفانى و يضحى ويقدم برغم ما يقال فيه ويسئ اليه فلن يتوقف من النضال ولن يلتفت الى الوراء وايضا برغم من تقدم سنه ومسئولياته الاسريه... لاكثر من ستون عام لم يكل ولم يمل ولم يستريح من النضال الا فى قبره!!! وكان شعلة تحترق وتضئ للاخريين متواضعا ومتاسمحا وعفيف اليد واللسان. كنت اسمع عنه منذ ان كنت طفلا وعاصرته شابا وقابلته وجها لوجه فى احد المحطات النضاليه فلم اعتقد ان الرجل الذى قاد جبهة التحرير الارتريه واحد قادة المعارضة ورموزها ان يكون بهذا التواضع والتسامح!!.

فالحزن عميق والفقد كبير وجلل فان فقدنا لرجل كقامة احمد ناصر لم يكن سهلا علينا ولم يكن سهلا على كل من عرفه واحتكوا به فى ميادين العمل النضالى والثورى فاننا فقدنا انسان بمعنى الكلمة يحمل هما ومشروعا وطنيا ونضالا مريرا وعبئا ثوريا وجرحا غائرا ممتدا لاكثر من ستون عام...

فكنت سعيدا لانى شاركت فى وداع رمز وطنى من الرعيل الاول قامة من طراز عبدالقادر كبيرى وابراهيم سلطان وحامد ادريس عواتى رجل قاد الثورة فى مرحلة تاريخيه حرجه حقق فيها بعض الانتتصارات برغم الانكسارات التى واجهت الجبهة... كان صدره مليئا بالاحداث والمشاهد وسير الابطال والرجال الذين صنعوا معه الثورة وصنعوا لنا وطن. رحل دون ان نستطيع ان نسترق منه هذا المخزون التاريخي والارث الثورى.

لم اتخيل ان هناك رجل كان يقود الثورة ويقاتل العدو بشراسه يزرف الدمع ويبكى مثل الطفل وينحب مثل النساء. فان دمعة الرجال وبكائهم ليس بالامر السهل ولكن لفقد احمد ناصر ذرفت الدموع وتوارى الرجال من الانظار لكى يكملوا حزنهم فى الخفاء بكى الجميع دون استثناء من قامات الرعيل الاول. عندما كنت اجرى بعض اللقاءات كان يعتذر لى كثير من المناضلين من رفاق احمد ناصر لانهم لم يستطيعوا ان يتمالكوا انفسهم ويقاوموا حزنهم... فكانت هناك مشاهد وصور حزينة جعلتنى اتوقف كثيرا على حياة هذا الرجل وما كان يمثله ولم استطيع ان استوعب كل هذا الحزن عليه الا من خلال حفل التأبين واللقاءات التى اجريتها وحينها تفهمت ماذا كان يعنى احمد ناصر لهؤلاء الرجال وماذا كان يمثل هذا الرجل فى الثورة والنضال...

فمن خلال وداعه تجسدت مفاهيمه واكتملت رسالته وإلتئم الجرح الارتري ولو لحين وتتراصت الصفوف والكل بكى احمد ناصر انتظرنا المسيحيين خارج المسجد ليشارك معنا فى نقل الجثمان الى محطة الاستراحة الاخيرة وايضا كانوا بجوارنا ونحن نقيم صلاة الجنازة ومن ثم شاركوا معنا فى تشييعه وذهبوا معنا الى صالة العزاء وشاركونا فى الطقوس الاسلاميه واستمعوا الى تلاوة القرآءن الكريم وهجروا منازلهم واتوا بكل ما يملكون من طعام فغطوا معظم تكاليف ومصروف العزاء واستضافوا فى منازلهم من حضروا لوداع الراحل من دول اخرى وكانوا مرابطين بجوار ذوى الفقيد.

فالاجواء كانت اجواء وطنيه بامتياز وكان المشهد مشهد ارترى. مشاعر مختلطة الحزن بالفرح. فتجسد الفرح فى اكتمال رسالة القائد احمد وانها بلغت غايتها... فى اطارى الشخصى تطلعت على حياة الرمز احمد محمد ناصر من خلال وجودى فى لحظات الوادع. فكان كتابا مفتوحا قرأته عبر رفاقه واصدقائه وزملائه...

فان الهم الذى كان يحمله الفقيد طيلة الستون عام تجسد فى لحظة وداعه وكانت الحشود تمثل نموذجا للمجتمع الارترى المصغر وكان التعاضد والتماسك سيد الموقف...

فى بعض الاحيان لم اشعر انى فى مأتم وفراق رمز وانما كنت احس نفسي انا فى مؤتمر وطنى جامع لكل القوة السياسيه والمدنيه والشعبيه. ومن جميع الفئات العمرية هكذا العظماء يلتف حولهم الناس فى حياتهم ومماتهم.

فكان الهم الذى يؤرق القائد احمد وحدة الارتريين وكان دوما يوصينا بالتمسك بالخط الوطنى وعدم الانحراف منه مهما كانت الظروف والدواعى. لقد حقق ما اراد فى حياته ومماته... فكنت اتذكر وصايا القائد الراحل وأقراء رسالته من بين الوجوه التى قدمت الى وداعه فكم كنت عظيما ايها الرمز وان نضالك وثورتك وجبهتك التى كنت تنافح من اجلها لن تموت...

بكل صدق عن مشاعرى الخاصه لم احس ان احمد ناصر تم دفنه خارج الوطن او بعيد عن شعبه نعم تم دفنه فى ارض غير الارض التى كان يقاتل ويقدم من اجلها وهذه حسرت الجميع عليه. الا ان الحشود والجموع الارتريه التى حضرت وشاركت فى وداعه كانت حقا حشود نوعيه وعدديه مقدرة. عندما اقف فى مقدمة الصف كنت لا استطيع ان اصور بكمرتى المتواضعه نصف الحشود برغم من ارتفاع المكان وعلو الكميرة التى كنت اصور بها.

لم اعتقد اذا ما تم ترحيل جثمانه الى ارتريا ان تقام له مراسيم وتشييع بهذا المستوى وان يكون الحضور بهذا الكم والنوع من الارتريين...

كانت هناك ثلاثة رسائل من خلال الوداع:

الرسالة الاولى: ان القائد احمد ناصر كان يسعى من اجل الوحدة وجمع الصف الوطنى الارترى ربما الكثيرين كانوا ينظرون اليه فى حينها سياسيا حالما او انه انسان غير واقعى ومازل يفكر بعقلية الجبهة. ولكن من خلال الحشود التى شهدناها فى وداعه فكان القائد احمد ناصر صائبا فى توجهه وصادقا فى رسالته فنحن من كنا مخطئون وتائهون. فتقييمه للشعب الارتري تقييما صحيحا ونابعا عن خبرة متراكمة. لقد اصطف وتوحد الجميع فى وداعه. فكان الجميع يتحدث بارتريته ووطنيته. وان دعوة الفقيد هى التى جعلتهم يشاركون وداعه. وايضا الجميع كان يدعوا الى خيار الوحدة وان لا خيار لنا سوى رص الصفوف ووحدتها... التحمنا وتراصينا وتكاتفنا. لم تكون هناك خصوصيه لاسرته فى وداع الفقيد فكان الشعور الطاغى على الجميع جميعنا يستحق العزاء فكان كل شخص يعزى الاخر ولم نلتفت الى ذويه واقربائه... سؤال كان يروادنى بينما كنت اتطلع على وجوه الحضور هل هناك شخص اخر فى الوقت الراهن يستطيع ان يجمعنا كهذا؟؟؟

هاهى رسالة الفقيد تجسدت وترسخت على ارض الواقع وبلغت ذروتها فان احمد ناصر جمع الارتريين فى غيابه فهنيئا لك فى مرقدك واستراحتك الابديه ايها الرمز وان تحقق هدفك السامى فى حايتك ومماتك.

الرسالة الثانيه: لقد وضع النظام الارتري فى اختبار صعب وامتحان امام مناصريه واحرجه امام المجتمع الدولى وامام كل الداعمين للثورة الارتريه ابان الكفاح المسلح وايضا امام من يعرفون دور وحجم القائد الراحل احمد ناصر. هذا الحدث توقف عليه كل اصدقاء الثورة الارتريه ومن كانوا بالقرب من الشعب الارتري وثورته.

ان النظام الارتري نظام متبلد ونظام يحركه الحقد الشخصى المتمثل فى اسياس افورقى وهذه الحقيقه اكدها لنا رحيل الفقيد. نظام لا يعرف يكسب المعركة وانما نجاحه يتمثل فى ضعفنا وهشاشة المعارضة. والا كان كسب الجولة وسحب البساط من تحت اقدام المعارضة الارتريه اذا ما كان اقبل على خطوة بطلب ادخال جثمان الفقيد الى ارض الوطن بغض النظر عن موقف ذوي المرحوم. فأتته الفرصة ولم يستطيع ان يستفيد منها... فكان حقد اسياس افورقى على الجبهة وعلى قيادتها اكبر من كونه رئيسا لدولة رموزها يدفنون خارج التراب الذى ضحوا من اجله (القائد ابراهيم سلطان القائد عثمان صالح سبي القائد محمود حسب القائد سعيد صالح القائد ادريس هنقلا والقائد عبد الله ادريس وغيرهم من ضحوا من اجل ارتريا استقلال ارتريا وتحرير ترابها واخيرا يضاف الي القائمة القائد احمد ناصر... الاعلام الارتري لم يعير اى اهتمام لرحيل احمد ناصر رجل قاد ثورة تحرريه وقائد يمثل مرحلة تاريخيه بعينها. فاى وطن هذا واى دولة تلك!!!

فان عدم الاشارة لرحيل احمد ناصر والتجاهل التام له من قبل النظام وان التكريم والتشريف والحداد والتشييع من قبل الجماهير الارتريه يؤكد مكانة هذا الرجل لدى شعبه وما يمثله من رمزيه ثورية. فان احمد ناصر صار هاجسا للنظام فى حياته ومماته وسقط اخر قناع للنظام وجعل نفسه فى موقف يحسد عليه...

هل يستطيع اسياس وزمرته يختزلون تاريخ الثورة الارتريه؟ هل يستطيعون ان يبتروا فترة تاريخية هامة من تاريخ الشعب الارتري ومن يمثلونه امثال احمد ناصر؟ هل يستطيع النظام وزبانيته ان يحجبوا الشمس بغربالهم؟!!...

الرسالة الثالثة: الحشد الذى شهد وداع القائد احمد ناصر وافقده خصوصيته الاسريه لم يكن من فراغ وانما لتوجهه ورؤيته التى كان يسعى لتكريسها وتجسيدها على ارض الواقع...

فاذا كان احمد ناصر يعمل من اجل قبيلته او منطقته او اسرته لما كان حظى بهذا الوداع المهيب لما كان الجميع تكفل بعناء السفر من اجل وداعه وتشييعه... ولما اقيم له خيم عزء فى جميع مناطق العالم...

فكانت هناك خلافات حادة عصفت بالثورة الارتريه وكثيرين من سلكوا طرق مختلفه بعض الانشقاقات والكثيرين من تلك اللحظة لم يلتقوا و انقطعت صلتهم بعضهم البعض ولكن احمد ناصر تمييز عن غيره فى الخصومه والجميع شهد له بذلك فى حفل التأبين واللقاءات الخاصه التى اجريتها برغم ان بعض المناضلين الذين اختلفوا مع احمد ناصر فى مرحلة ما الا انهم كانوا يتواصلون معه وكانوا فى وداعه يتقدمون الصفوف ويبكونه اكثر من اهله وعبروا عن مشاعرهم الصادقه فى فقدهم والفراغ الذى تركه الراحل. فسهروا ورابطوا لاربعة ايام لم يروا فيها منازلهم فهذه كانت رسالة لمن يمارسون العمل الوطنى ان الرؤي والاختلاف لا تجعلنا نمضى فى الخصومه بعيدا مهما كانت درجة الاختلاف. وهذا يشير الى ان القائد احمد ناصر كان قائدا فعليا وحقيقيا من خلال ممارساته وسلوكه الشخصى..

فان الشعب الارتري شعب عظيم وشعب فريد يستطيع ان يتجاوز كل المحن والظروف وثقة الفقيد فيه لم تكن نابعة من فراق وانما من خلال تجربة وممارسة فعلية. ففى وداعه لقد تجاوز الجميع كل الظروف والتحديات التى نواجهه فى الساحه فكانت كل دعوات المشاركين فى التأبين الى نزع الشقاق والتفرقة والدعوة الى العمل سويا وتجاوز الخلافات الثانوية والابتعاد عن الانانيه الشخصيه. الدعوة الى اكمال الطريق الذى سلكه الفقيد وان نحقق التغيير المنشود. ربما البعض يصفها بعواطفه عابره وهى فى الاصح كانت مشاعر صادقه ورغبة حقيقه من خلال سرد مواقف الرجل فالهم الجميع رغبة الوحدة والتماسك.

فالعبرة لمن يتعظ وان التاريخ لن يرحم احد مهما كانت المواقف السياسيه ودواعيها فعلينا ان ننظر الى الوقت القريب من تاريخنا فمن تبنى نهجا معوجا وطريقا وعرا دفعوا الثمن ولم يرحمهم اهلهم ولم يرحمهم التاريخ...

من يسلك ذات الطريق من اجل تحقيق غاية شخصيه بتبنى قضايا ميته وقضايا ذات تاثير سلبي على الوطن وينحرف عن المسار ستكون نهايته كنهاية المسريحه التى شهدتها ارتريا ابان الكفاح المسلح وستؤدى باصحابها الى الانزواى والانكفاء والاحتراق النهائي من المشهد السياسي.

وان الشعب الارتري اقوى مما يحاك ضده بدواعى الحقوق. التاريخ كتاب من يجيد قرأته سوف ينتصر ومن يخفق فى قرأته سوف يسقط كما سقط غيره.

فان نيلسون منديلا لم يكون زعيما عالميا لانه اعتقل وسجن لربع قرن من الزمان وانما لدوره الوطنى وانقاذ جنوب افريقيا من انهار الدم ومن الانتقام العنصرى جعله رمزا عالميا!!!

وايضا الفقيد احمد ناصر لم يحظى بالاجماع الوطنى لكونه كان معارضا للنظام القائم بل لدوره الوطنى ورؤيته لمستقبل ارتريا التى تتمثل وتتجسد فى الوحدة الوطنيه التى كان يسعى لترسيخها على ارض الواقع. لقد كرم من قبل الجماهير الارتريه العريضة فى المنفى وايضا من قبل القوى السياسيه الارتريه المعارضة.

فلم يقوم بدفنه ووداعه ال بيته وعشيرته وقبيلته وانما جموع الشعب الارتري هكذا التاريخ يعلمنا برحيل العظماء من بنى البشر فهل من متعظ؟!!!

لقد كنت غائبا عن الساحه فى الايام السابقه لمشاركتى فى وداع الرمز الوطنى احمد ناصر وغادرت الى السويد وبينما نحن نشييع الفقيد سمعنا بان هناك سمنار فى لندن ولم استطيع ان ادلوا بدلوا لوجودى فى عزاء فقيد الوطن وقمت بتغطية الحدث وان شاء الله ساقوم برفع بقية المواد فى الايام المقبلة حتى الجميع يقف على وداع الراحل...

واود ان اوصى الاخوة الشباب المتحمسون للمشروع الوطنى ان لا يلتفتوا الى الوراء فلا يصح الا الصحيح وان الشعب الارتري مازال بالف خير وان دعوات الخيريين والصادقين من هذا الشعب اقوى واكبر واعظم من دعوة الانكساريين والانهزاميين والمتخندقين فى خنادق القبلية والمناطقية والطائفية. كرثوا جهودكم فيما يفيد الاخريين دعوهم وشأنهم فيما يخضون فان الطفيليات لا تستطيع ان تعيش فى المياه العزبة. وان هذه الظواهر تتم معالجتها بايجاد المشروع الوطنى الجامع فمقابل هذا المشروع تموت وتزول مثل هذه الظواهر السالبه وتذهب فى مهب الريح فمهما كانت القوة التى تقف خلفها. نعم سوف تحدث ضجيجا فى الساحه ولكن لن تطول ولن تجد صدى على مستوى الساحه...

فان الجسد الميت فمهما نفخ فيه من روح لن يعود الى الحياة مهما صاحبه صراخ ونباح.

سخروا اقلامكم وجهدكم من اجل العمل ووحدة الصف وانزعوا الشقاق والفرقة فيجب علينا ان نمضى على الطريق الذى مضى عليه فقيدنا احمد ناصر...

فلم ينكسر ولم يستسلم واستراحه فى قبره من النضال. دعونا نكمل المسيرة ونحقق التغيير الذى كان يحلم به ويسعى من اجله الفقيد.

Top
X

Right Click

No Right Click