أريتريا وأسئلة الدولة
بقلم الأستاذ: عبدالقادر محمد عمر أفندي - كاتب وناشط حقوقي إرتري - لندن، المملكة المتّحدة
بعد مرور أكثر من ربع قرن من الاستقلال واكثر من ذلك من حكم الاستبداد والديكتاتورية
مازال الشعب الاريتري يقاوم ولا يستسلم استسلاما طوعيا وأخلاقيا للواقع المرير، بل يمارس المهادنة والتعامل مع ظرف استبدادي تاريخي معقد وباشكاليات متناقضة ومتضاضة في كثير من الاحيان.
هذا القبول الواقعي الاضطراري فرضته ظروف الثورة في أواخرها ونتائج مرحلة التحرير، وظلت نوازع العودة الي قيم الثورة والحرية والعدالة والمساوة في الحقوق المدنية متوهجة وساطعة حتى هذا اليوم. فالثورة الاريترية المجيدة بكل المقايس تم وأد طموحاتها وأحلامها بمجرد وصول النظام الحالي الي السلطة مسلحا بأجندته المعلنة أو المخفية والتى أدخلتنا في نفق مظلم يتخبط فيها الشعب الي هذا اليوم دون أن يرى نورا يلوح في نهاية هذا النفق وقد أحرق خلفه النظام ماضي هذا الشعب الملهم ومستقبله المشرق في مؤامرة قلة وجودها في تاريخ ثورات التحرر بسبب حاكم مستبد ومنفرد.
النتائج كارثية بكل المقايس وعلى مختلف الأصعدة، فضعفت ثقافة تكوين دولة عصرية متوازنة، وأنقلبت الأفكار والثقافات الثورية وحل محلها أفكار الفرقة والتخلف والانحدار، اي أن مجتمعنا عاد الي أحوال ما قبل الثورة، فلا هو الذي تمسك بمبادء الثورة وافرازاتها وزخمها ولا هو الذي ساهم في بناء دولة ذات مؤسسات تستوعب طموحاته واحتياجاته. فالشعب الذي كان شعاره (كل شيء الي جبهة القتال) من أجل الاستقلال أصيب بخيبة أمل كبيرة عندما لم يتمكن أو يمكن من بناء دولته التى تسوعب عظم تضحياته، بل على العكس تماما عرض هذا النظام شعبه للهجرة والتشرد والانكفاء.
يعلمنا التاريخ دائما بأن علاج الديكتاتورية ليس بالاصلاح والاستصلاح كما يفعل المزارعين في أرضهم عبر وسائط عضوية أو كيميائية، بل علاجه هو بالاستئصال كورم خبيث وزرع مكانه دستور توافقي يحمي حقوق الجميع. فالسلطة المطلقة لا شك بأنها فساد مطلق وبالنتيجة سببت حروب ومأسي وتشرد في تاريخنا الاريتري القصير. ونقول للمطبلين والمنتفعين من المستبد بأن ووجوده مؤقت وبأنكم لن تفوزوا بشيئ معه بل على العكس تماما، سوف تغرقون معه كما غرق فرعون وجنوده وأن عرشه الذي تحملونه فوق رؤوسكم سوف يتأكل ويسقط على رؤوسكم، فانتهو هو خير لكم قبل فوات الأوان.
فرأس النظام أوصلنا الي انعدام التراضي السلمي للسطلة، حيث أن ثقافة شعب ما بعد الثورة وخاصة جيل ما بعد الاستقلال لا يعرف الا نمط واحدا للحكم وهو الديكتاتورية والحزب الواحد وهو الذي يفترض أن تقوم الدولة على اكتافه، بل فضل الهجرة والتشرد على بناء دولة مزعومة حرمته من طموحاته وقوت يومه.
فالدولة لا تبنى أمة بل الامة هي التى تبنى الدولة. وهنا نتسائل: اين هذه الأمة التى سوف تبنى دولة ؟؟ فالنظام المنفرد ليس من مصلحته بناء الدستور ورعاية التطور والازدهار أو بناء دولة نموذجية وعصرية ذات ملامح واضحة تتعايش مع الجميع عبر نظام حكم رشيد. بل يفضل الاستمرار بالاحادية التى لا تقبل القسمة الا على نفسها وكما انه تجاوز مرحلة الاصلاح والاستيعاب. فهل يفعلها الشعب الاريتري من جديد ويعلن ثورته المجيدة الثانية ؟ ولكن هذه المرة ليس الا عدو خارجي ولكن على نظام داخلى سرق من عمره عقود ومن خيراته وشبابه الكثير الكثير.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.