عثمان سبي ثائر القرن الإفريقي

المصدر: ناود للكتاب

يصادف اليوم الرابع من أبريل ذكرى رحيله المبكر، وغيابه ألقسري الذي جاء قبلأوانه،

أتأمل صورته في خشوع واضطراب.. أنه صخرة صلدة في وجه تلاطم الأمواج، وصراع الحق والباطل، وفي مواجهتها لكيد ألأعداء والمتآمرين.

أتأمل عينيه البراقتان في وحي الظلام الحالك، وقد اشتعلتا شموسا وأقمارا تنير الطريق والسبيل لأجيالنا التي تسير بخطى حثيثة نحو التقدم والنماء فتلك بسمته المميزةوالمعروفة والتي لا تفارقه دوماً أنه عاشق إرتريا والمسكون بحبها حتى الثمالة ولدرجة المستحيل ثائر القرن الأفريقي بامتياز قلّ نظيره فهو أبن أديس أبابا، ومقديشو والخرطوم وأسمرا، في نضاله وصراعه مع الباطل هو "أبو فراس" عثمان صالح سبي.

لقد كان شهيدنا من المناضلين القلائل ومن القيادات النادرة التي وعتلعمق وتجذر العلاقة السودانية الإرترية، بل وأن السودان الحر الديمقراطي يمكن أنيكون سنداً وعوناً ومؤازراً للنضال الثوري الإرتري في مواجهته للاستعمار الأثيوبيالكهنوتي والذي كان يقوم عليه الإمبراطور هيلي سيلاسي والذي نشر الخراب والدمار فيربوع بلادنا بعد أن أفرغها من شعبها.

وبوصول مجموعة الضباط الأحرار بقيادةجعفر النميري إلى سدة السلطة في الخرطوم، استبشرت الثورة الإرترية خيرا بتلكالخطوة واعتبرتها سندا لها في المواجهة المحتدمة بين الثورة الإرترية والإمبراطورهيلي سيلاسي، خاصة وأن تلك الحركة كانت تحمل أفقا ثورياً عريضا، وشعارات تقدمية براقة، التقطتها كل القوى الثورية في العالم معتبرة إياها إضافة حقيقية لمعسكرالقوى التقدمية في مواجهتها للقوى الإمبريالية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والأنظمة الاستعمارية.

والشهيد "سبي" بكل تأكيد كان أول الملتقطين لتلك الإشارات، فهو يكتب للسيد فاروق عثمان حمد الله وزير الداخلية أعدم في يوليو 1972، بتاريخ 1969/9/25م

أي بعد ثلاثة أشهر من قيام ثورة مايو:
منذ الخامس والعشرين من مايو وحتى الآن مضى ثلث العام على تحرككم الثوري المدعومبقوى الجماهير الشعبية العريضة في السودان وقد شكل هذا التحرك طاقة أضافية دافعةلروح المقاومة الشعبية المسلحة في إرتريا.

أن ثورتنا ترى في السودان خلفية حضارية وبشرية وجغرافية لنضالها المستمر ضد قوى التوسع الإقطاعي الأثيوبي المدعومبقوى الرجعية الأفريقية العميلة والولايات المتحدة الأمريكية والصهيونية العالمية.

وقد كانت تجربتنا طيلة الفترة الممتدة منذ نشوء الثورة في سبتمبر عام 1961موالى حين قيام ثورة مايو غارقة في بحور السلبيات والتآمر المكشوف عليها وليس ببعيدعن ذاكرتكم حادث الاستيلاء على أسلحتنا في الخرطوم في شهر مارس عام 1965م.

الإستراتيجي بامتياز:
لقد كان يدرك الشهيد سبي بحسه الإستراتيجي، أن وصولعناصر تقدمية إلى رأس السلطة في الخرطوم هو بمثابة الدافع والمهماز لنضالنا التحرري، يمكن أن يدفع بالعملية الثورية خطوات هامة إلى الأمام، ولكنه أيضا كان يدركوبحسه الفطري، أن هذه القوى الجيدة يمكن أن تواجه صعوبات جمة في حال الإعلان عنوقوفها المبدئي إلى جانب الثورة الإرترية، خاصة وأن السودان يعاني من مشكلتهالمزمنة في ربوع جنوبه، ومايمكن أن يواجهه من تدخل أثيوبي وصهيوني إلى جانب حركاتالتمرد الجنوبية في حينه، وهنا يكتب الشهيد:
ضمن هذه المسألة الصعبة فيمابين مصلحة الثورة في السودان ومصلحتها في إرتريا باعتبارهما يواجهان تحالفا مشتركاًمن الأعداء لايسعني إلا أن أقترح تعاونا سريا محكما بين الثورتين الإرتريةوالسودانية يغطي نفسه بالنسبة لأثيوبيا بمواقف شبه عدائية) من الثورةالإرترية لاتحرج موقف السودان في نفس الوقت مع القوى العربية والعالمية المؤيدة لثورتنا وعلى رأسها "كوبا" و "الصين الشعبية" و "سوريا" ويؤدي تماما إلى الغاية المستهدفة دون ضجيج.

ويضيف: هناك ملاحظات يتوجب أخذها بعينالاعتبار حين التعاون "السري" المرتقب بين ثورتينا أن هناك مخطط تنشط في تركيزهكإستراتيجية متكاملة القوى الصهيونية العالمية وتقدم له التبريرات "الوكالة التلغرافية اليهودية" من خلال مؤسساتها في
"بالتيمور" و "واشنطن" و "تلأبيب" يقول واضعو هذه الإستراتيجية أن هناك إستراتيجية سوفيتية ـ عربية لمنطقة جنوب السويس تهدف مستقبلا إلى الاستعاضة عن سد المنافذ البحرية الشمالية بوجه الملاحة الإسرائيلية بسد المنافذ الجنوبية المقابلة للشاطئين الإرتري واليمني. ويمضون في قولهم بأن البعث في سورية ومجلس قيادة الثورة في السودان مرتبطان بهذهالخطة السوفيتية من خلال تحريكهما للنضال الإرتري الذي يؤدي انتصاره إلى جعل البحرالأحمر " بركة عربية المتطلع نحو العرب دوما ولكن!

منذ انطلاقة الثورة الإرترية بل ومنذ نشوء حركة تحرير إرتريا في نهاية الخمسينات، كان النظروالتطلع إلى الأمة العربية باعتبار حركة الثورة الإرترية جزء لايتجزأ من النضال العربي الذي يهدف إلى تحرير الأمة من الاستعمار وبناء الدولة العربية الواحدة ذاتالآمال والطموح المشترك لكل أقطارها، والشهيد سبي كان الأعلى صوتا والأصدق تعبيراعن ذلك الطموح الذي ظل يراوده حتى آخر يوما في حياته. وفي هذا الصدد يمكن أن نتذكرتصريحه الشهير في مطلع الثمانينات والذي يناشد فيه القادة العرب، والذي نشر فيواحدة من الصحف العربية الكبرى وبالخط العريض: أعطوني مليون دولار وسوف أحررإرتريا)، ورغم أن هذا التصريح كان يمكن أن يؤخذ في إطاره ولكن عمق الخلافاتالإرترية، وتفرغ قوى بعينها لمحاربة سبي وخطه ونهجه تم استقلاله بأسوأ صورة.

ومايؤكد قناعة الشهيد بالدور العربي الذي يمكن أن يكون مساندا ومؤزرا للنضالالإرتري ماذكره الأستاذ أحمد أبو سعده في حوار سابق له مع الشهيد سبي حيث يقول أبوسعده:
سألني عثمان سبي بألم، لماذا، لاتقف الدول العربية معنا، بوضوحوجدية أكثر، باستثناء سورية والعراق؟ من المستحيل أن تتركنا الدول الغربيةوالشرقية لحالنا، وهي التي تعطي لنفسها أسماء كثيرة كالديمقراطية والملكيةالدستورية والاشتراكية وغيرها.

ويتابع الشهيد سبي: السؤال الكبير أين فلسطين؟ واليوم هناك، توجه امبريالي لطمس ثقافة إرتريا، فضلاً عن استعمارها، فكيف لناأن نرضى وأن نقبل بهذا الوضع؟ الواقع الأليم؟

معاناة الشهيد سبي معأخوته العرب من زعماء وقادة وعدم جديتهم في مساعدته يمكن أن نستخلصها من أكثر منموقف، ولكن أوضحها كان من تلك الدويلة التي كانت تلتزم سنويا بمليون دولار للتنظيم، وعند استلام الشيك هناك العمولة 25% في المائة يقتطعها الشخص الذي يقوم بتسهيلالعملية، والشيك لايصرق إلا بعد ذهابة لأمريكا وبالعودة يتم اقتطاع 10% من قيمته كعمولة، ثم 15% من الشيك كأجرة للفندق ـ مع العلم أن الشهيد هو ضيف على تلكالدويلة ـ والغرض من مجيئه استلام المساعدة، وأخيرا يغادر ومعه نصف المبلغ الذي تمرصده كمساعدة لثوار إرتريا). وهنا يسجل الشهيد في دفتر مذكراته ويكتب بمرارةبتاريخ 1982/5/26: إن إحدى الدويلات) التي تذيقنا العذاب لتدفع لنامبلغا سنويا، والأدهى إن إدارة المراسم في هذه الدولة كتبت لفندق الهيلتون تبلغهبإنهاء ضيافتنا ابتدءا من 17 الجاري، ويبدو إن الإنسان يزيد بشاعة كل ما زاد المال، والحقيقة لولا إنني أعالج قضية عامة تتطلب التضحية بالكرامة الذاتية لغادرتالفندق والبلاد فوراً ولكن قضية إرتريا بحاجة إلى مساعدة هذه الدولة.

لقدأرتبط الشهيد سبي بعدد من رفاقه في العملية النضالية وكانت بينهم صداقات ورفاقية،ولكن علاقته بالمناضل محمد سعيد ناود كانت مميزة، وهنا يمكن أن نقرأ ماكتبه الأستاذ أحمد أبو سعده: كان الأخ محمد سعيد ناود، أنسانا طيبا، وله تاريخطويل في الحركة الوطنية، فهو من المؤسسين لحركة تحرير إرتريا، كان صديقاً لعثمانسبي وهذا يتكل عليه كثيراً، وأثناء تلك الفترة بدأت قوات التحرير الشعبية تنموتدريجيا ً.

أما المناضل محمد سعيد ناود نفسه فيقول: على الرغم منمرور أكثر من عشر سنوات على انطلاقة الثورة الإرترية، واحتدام المعارك الكلامية بين حركة تحرير إرتريا، وتنظيم جبهة التحرير الإرترية والذي كان الشهيد سبي ركنا أساسيا فيه ألا أنه لم تتح لنا فرصة الجلوس والحوار والاستماع لبعضنا البعض إلا في العام 1970، وبعد ظهور بوادر الانقسام في الجبهة.

ويواصل المناضل ناود قائلا: عند ظهور إشارات الانقسام في جسم الجبهة بدأنا بالتواصل والحوار مع الطرفين من أجل تدارك الانقسام ومايمكن أن يشكله من حالة تراجع واضم حلال لنضالنا على الرغم من الخلاف العميق بيننا.
وبعد أكثر من لقاء مع الشهيد سبيوبعض من رفاقه تيقنا بأن الطرف الذي يمثله هو الذي يمكننا أن نعمل معه وهكذا تم التلاحم بين حركة تحرير إرتريا وقوات التحرير الشعبية الإرترية.

بالإضافة لما هو منشور حول مؤلفات الشهيد لابد من الإشارة إلى تلك المقدمات لعدد من المؤلفات المترجمة من الإنجليزية والإيطالية إلى العربية والتي أصدرها الأعلام المركزي لقوات التحرير الشعبية والذي كان مقره في بيروت، وكثيرا ماكانت تلك المقدمات لتلك الترجمات تثري تلك المؤلفات وتزيل الغموض الذي يكتنفها ويصحح ماورد فيها من معلومات مغلوطة أحيانا، علما أنها كتبت بأقلام أوروبية تنظر للوضع في إرتريا من زاويتها الاستعمارية ولمصالحها والتي تبرر وجودها في إرتريا. أيضا مقدمات الشهيد تلك، كانت بمثابة المهدئ الذي يمكن أن يخفف من ردود الفعل تجاه تلك المؤلفات خاصة عندما تتناول تلك الكتب قضايا اجتماعية أو قبلية كما في كتاب إرتريا في أفريقيا الإيطالية)، فالشهيد كثيرا ما أشار لذلك وأن كانت فطنة القارئ تدرك خلفية تلك الكتابات من حيث التوقيت الذي كتبت فيه، والوضع السياسي والظرف الذي كانت تمر به إرتريا.

ومن تلك الكتب التي تم التقديم لها حسب ماهو متوفر لدينا:
1ـ قصةالاستعمار الإيطالي لإرتريا ـ تأليف محمد سعيد ناود 1971
2ـ وثائق الأممالمتحدة حول إرتريا.
3ـ وثائق الخارجية الإيطالية جزء أول وثاني
4 ـ التركيب السكاني في إرتريا: تأليف، س.ف.نايدل
5ـ البعثة الإنجليزية إلى ملكالحبشة: تأليف، جيرالد بورتال
6ـ إرتريا في أفريقيا الإيطالية: فردناندومارتيني
7ـ إرتريا اليوم 1894 أنريكو فوكيرا

وكما سبق وأنكتبت في الذكرى العشرين لرحيله ما يحزنني حقا إن المناضل سبي قد رحل وبعد كل هذه المسيرة النضالية المشرفة، رحل وفي كل عام تتجدد ذكراه دون أن يتطوع رفاقه وتلاميذه وأبناءه من خط كلمة عنه ومن دون أن ترى مدوناته ومفكراته طريقها إلى النشر، هذا يحزنني أكثر من حزني على رحيله.

وأنا اختم هذه المشاركة المتواضعة عنالشهيد سبي بمناسبة ذكرى رحيله الذي مر عليه 22 عاما، انه لإجلال لهذا الرجل العظيم، وتكريم لشخصه الكريم أن نرفع له تمثالا ونكتب تحته "الشمعة التي ذابت لتنير الدرب للآخرين"، والتمثال لا اعني به لتخليد ذكراه المجيدة ـ لأنه له نصب في كل القلوب ـ بل ليكون المنارة والركيزة الأولى التي ينطلق منها أبناء شعبنا ليتعلموا كيف يكون النضال والكرامة في سبيل الوطن.

Top
X

Right Click

No Right Click