محمد سعيد ناود... حلم بين زمنين

بقلم الأستاذ: محمد جميل أحمد - كاتب وصحفي وناقد  المصدر: إيلاف

برحيل الكاتب والأديب الارتري / السوداني محمد سعيد ناود طوت الأيام مشوار العمر

لمناضل زاهد من كبار رجالات العمل التحرري والثقافي في ارتريا.

بيد أن ما يهمنا في هذا الرحيل الذي حدث بهدوء في العاصمة الإرترية أسمرا يوم الخميس 2010/9/16 هو تأمل مغزى حياة هذا الرجل الكبير الذي استعاض عن حلم البلدين (السودان وارتريا) بالكتابة فظل يكتب في بلاده البعيدة حتى الساعات الأخيرة من عمره المديد.

كان الراحل الكبير من الذين انخرطوا باكرا في مشاريع العمل السياسي ضمن صفوف اليسار السوداني، وبطريقة وحدّت في نفسه استقطابا حادا لتناقضات العمل على حدود كثيرة لا يمكن أن يلحمها إلا الحلم.

في السودان حين كان اليسار السوداني من أنشط حركات المنطقة العربية كان ناود يختبر تدريبا قاسيا على المعنى ألأممي للنضال ومزجه بروح وطنية حين كان عضوا في (الجبهة المعادية للاستعمار) السودانية.

وبعد استقلال السودان انشغل بتأسيس مؤتمر البجا (القومية التي ينتمي إليها والتي يتقاطع وجودها على الحدود بين شرق السودان وإرتريا) مع آخرين؛ ذلك الحزب الذي أصبح فيما بعد من أهم حركات المعارضة للحكومة السودانية بشرق السودان.

لكن روح النضال في ذلك الشاب المتمرد في خمسينات القرن العشرين كانت تتوق إلى عمل ذي طابع تأسيسي يتوازى مع تطلعاته وطاقاته المتفجرة فتوجه إلى ارتريا واستقال من عمله في السودان وأسس أول حركة نضال إرتري ذي طابع منظم وهي (حركة تحرير إرتريا) في العام 1958.

ومنذ ذلك الزمن ارتبط محمد سعيد ناود بإرتريا تاركا وراءه في السودان الكثير من المشاريع والاستحقاقات المفتوحة، فقد كان الرجل في نضاله يتماهى مع أسطورة جيفارا في تلك الأزمنة.

كان ناود يمتلك نقاء ً ثوريا (صوفيا) نادرا وهو نقاء يتعذر احترامه في ملابسات العمل المادي والحراك السياسي بكل تناقضاته وحالاته الحزبية المأزومة في منطقتنا العربية.

ففي زمن مبكر مثل ذلك الزمن الذي عمل فيه ناود كان الواقع يتفجر بالتناقضات والتحولات التي لا تحتمل الإصغاء لتجربته المتجردة، ولهذا وبعد تقلبات كثيرة في دروب النضال ضمن تنظيم قوات التحرير الشعبية توجه ناود للكتابة الإبداعية والتاريخية منذ أن أصبح مديرا للمكتب الإعلامي للتنظيم في بيروت طوال السبعينات الميلادية وفي بيروت انخرط محمد سعيد ناود في الانشغالات الثورية للمثقفين العرب الذين وجدوا فيها ملاذا للحرية والحركة والكتابة وظل في بيروت منذ بداية السبعينات حتى منتصف الثمانينات أثناء الحرب الأهلية؛ تلك الحرب التي تسببت في ضياع مسودة روايته الثانية (المغترب).

أصدر ناود في بيروت كتابه الأول (قصة الاستعمار الإيطالي لإرتريا) ثم أصدر روايته الرائدة (رحلة الشتاء) التي تعتبر أول رواية إرترية بالعربية، وتوالت بعد ذلك العديد من الكتب مثل (العروبة والإسلام في القرن الأفريقي) ثم كتبه الأخرى عن قضايا وتاريخ الوجود العربي والإسلامي في ارتريا من زوايا متعددة بالإضافة إلى كتابه الضخم (حركة تحرير ارتريا الحقيقة والتاريخ) الذي يعتبر شهادة نادرة في توثيق وتدوين تجربة النضال للأجيال القادمة من أبناء الشعب الإرتري.

عاش محمد سعيد ناود حياة عاصفة كانت بؤرتها القضية الارترية فيما كان الهامش الحميم للعائلة يتحرك دائما على وقع تحولات هذه القضية حيث توزع أفراد عائلته بين السودان وسوريا وليبيا مع الحراك القلق لمساره في النضال.

كان محمد سعيد ناود سودانيا ارتريا يمتلك حالة فريدة لرؤية لا يراها الآخرون حيال الحيوية الحميمة بين السودان وارتريا بعد أن حفر عميقا في تاريخ هذه العلاقة وماضيها.

ولقد ترك محمد سعيد ناود بمثل هذه الفرادة المزدوجة لروحه الموزعة بين السودان وإرتريا تأثيرا كبيرا على بعض الكتاب السودانيين ممن أدركوا عمق هذه العلاقة من خلاله، كالمفكر السوداني الكبير الراحل (أبو القاسم حاج حمد) صاحب المشاريع الفكرية والمعرفية المرموقة حيال قضايا ومستقبل القرن الأفريقي من خلال العلاقة بين ارتريا والسودان، والصحفي السوداني المعروف (سيد أحمد خليفة) والشاعر الارتري السوداني الصديق (محمد مدني) وغيرهم وكذلك ربطت محمد سعيد صداقات عديدة مع الكتاب العرب لا سيما صديقه الروائي العراقي (عارف علوان) وغيره... هكذا كانت أحلام الزمن القديم في رؤيا محمد سعيد ناود تتبدد على وقع التحولات القاسية التي يمر بها السودان وارتريا الآن، ولهذا آثر هذا الرجل العظيم أن يصمت ليجد ملاذه في الكتابة بحب عن تاريخ هذه القرن الأفريقي المنكوب؛ قرن الحروب والأوبئة والخسارات.

رحل ناود كما رحل من قبل رفيق نضاله الكاتب والمناضل الارتري الكبير عثمان صالح سبي الذي قدم مثله الكثير لإرتريا على صعيد الكتابة والنضال وترك زوجته السورية وأبناءها دون شيء يذكر من حطام الدنيا.

حياة مديدة وعاصفة عاشها محمد سعيد ناود كان ضغط التاريخ وإكراهاته فيها أكبر بكثير من أحلامه ولكنه لم يتخلى عن حلمه على صعيد الكتابة من أجل مستقبل هذه المنطقة عبر رصد تاريخها المشترك.

والآن حيث يرقد محمد سعيد ناود بسلام في أسمرا غاب عن كثيرين ذلك الجهد الخلاق في العواصم العربية ـ التي كانت تمور بأحلام القوميين العرب في ستينات القرن العشرين ـ لمحمد سعيد ناود و(عثمان صالح سبَّي) والنقاشات التي أطلقاها عن الجذور العربية لهوية إرتريا؛ لا بحسبانها هوية مضادة لمكونات الشعب الارتري الأخرى، بل في كونها هوية تاريخية لكل الارتريين.

تلك الجذور التي جذبت تدفق الطلاب الارتريين إلى العواصم العربية في دمشق وبغداد وبيروت، وخلدت رائعة الشاعر العربي السوري الكبير (سليمان العيسى) عن نضال الشعب الارتري التي تغني بها الفنان الارتري العظيم إدريس محمد علي ـ فك الله أسره ـ (إرتريا يا جارة البحر / يا منارة الجنوب / من أجل عينيك الجميلتين / يأتِ زحفنا / من أقدس الدروب).

رحم الله محمد سعيد ناود فقد عاش تحولات كثيرة على مسارات مختلفة في النضال والوعي والكتابة والتحرر. فهو برصيده الأخلاقي والتاريخي والنضالي كان يمكن أن يكون رئيسا فخريا لشعبه مدى الحياة؛ إذ لا يستحق أن يكون محمد سعيد ناود ضميرا وطنيا للشعب الإرتري فحسب، بل أيضا ضميرا أخلاقيا لشعوب القرن الأفريقي التي طالما حلم من أجلها بحياة كريمة ومن أجلها أنفق عمره المديد ولسان حاله يقول (أنا جرَّاءَهم سهرتُ لِيسْتـغشوا * ومن أجلهم أصُيبُ وأخطي) كما قال الشاعر السوداني التجاني يوسف بشير.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click