شاهد على ميلاد جديد: عثمان صالح سبى سفير الثورة الإريترية ومعلمها
بقلم المناضل الأستاذ: سليم حسن إدريس كردى المصدر: الاهرام العربى
تم تأسيس الجناح السياسى لجبهة التحرير الإريترية بالقاهرة، ترأسه المناضل الشهيد إدريس محمد آدم
الحكومة المصرية فتحت التعليم للطلاب الإريتريين فى جميع المعاهد والجامعات المصرية.. فضلا عن الدعم السخى للعتاد الحربى عثمان صالح سبى شخصية نادرة فى الثورة الإريترية، أفنى جل حياته فى سبيل تحقيق وطن للإريتريين، فهو المعلم ومدير لمدرسة حرقيقو، وهى بمثابة مدرسة نموذجية تشتمل على المراحل من الابتدائية حتى الثانوية، فهو مؤسس مدرسة لتعليم الفتيات وتعد من أوائل المدراس التى تعنى بتعليمهن، فضلا عن أن المدرسة لها ملحقاتها كمجموعة من الورش الصناعية والفنية، استطاع سبى فى تخريج عدد من الاجيال، لأن من معتقداته أن بالتعليم هو الذى يقود للثورة ودحر المحتل الإثيوبي، وقد لعب سبى دورا بارزا فى نهضة التعليم وفى عهده تحقق التعليم بنسبة نجاح كبيرة لدى المجتمع الإريترى.
وقد أسس سبى على هذا النهج من التعليم جيلا واعيا مؤهلا، مما صب فى مصلحة إريتريا من الكوادر التى التحقت بالثورة فى الكفاح المسلح، وقد دعم هذه الفكرة المناضل محمد على عمر قائد المنطقة الرابعة، الذى لا يزال فى السجون الإريترية فك الله أسره.
أسهم سبى فى إقامة أول علاقات خارجية تربط إريتريا بالدول العربية، ولا بد من الإشارة هنا للدور الكبير للقائد إدريس محمد آدم رئيس جبهة تحرير إريتريا، ودوره من خلال رئاسته للبرلمان الإريترى إبان مرحلة الفيدرالية، كان يترأس الكتلة الاستقلالية قبل الثورة، وكان وقتها الصراع محتدما بين السلطتين التنفيذية والسلطة التشريعية بين كل من أسفاها ولد ميكائيل وإدريس محمد آدم، كان آدم يتمسك بالعلم واللغة الرسمية التى كانت آنذاك العربية والتيجرنيا بموجب الدستور، فى الوقت الذى كان يسعى فيه رئيس الكتلة التنفيذية إلى ضم إريتريا لإثيوبيا. فى الواقع داخل البرلمان توجد مجموعة مارست عامل ضغط كبير هم: إبراهيم سلطان ومحمد عمر أكتو، وإدريس سليمان، ومحمود حسين باطوق، السيد عبدالله عبدالرحمن، آدم أكدباى، عثمان هندى، شكلت فيما بعد بما يعرف بالجبهة الوطنية داخل البرلمان، وهؤلاء جمعيهم وقفوا ضد الأهداف الإثيوبية.
فى ظل هذا الصراع حاولت السلطات الإثيوبية تصفية إدريس محمد آدم، إلا أنه غادر أسمرا إلى القاهرة، وفى القاهرة التقى إدريس عثمان قلايدوس.
أعلن حامد عواتى الثورة، هو ورفاقه الـ 17، وفيمن انضم إليهم لاحقا ممن عملوا فى الجيش السودانى، وكان ذلك فى سبتمبر عام 1960. باعتباره الآذن لتحرير إريتريا من جيش الاحتلال والمحتل الإثيوبى.
قبل إعلان عواتى ثورته المسلحة، سبقته حركة أسمها حركة تحرير إريتريا وقائدها الشهيد محمد سعيد ناود 1958، وكانت الحركة عبارة عن خلايا سرية، وقتها كان كثير من الشباب قد التفوا حول الحركة، من كل المديريات الإريترية خصوصا مدن مصوع - تسنى - كرن - أغردات، ولكن كالعادة البداية كانت ضعيفة لأى حركة ثورية فى نشأتها.
وفى مارس 1959، وصل محمد ناود إلى أسمرا سرا، وتم اللقاء بيننا فى اجتماعات سرية فى منطقة ستناتا أوتو مخزن "المناضل خيار حسن بيان"، وقد استمر اللقاء لمدة 48 ساعة متواصلة وكان فى غاية السرية حتى الدخول له كان يتم عبر طرق سرية خوفا من الأجهزة الأمنية الإثيوبية، ولقد خرجنا من هذا الاجتماع باللوائح التنظيمية والتخطيط وربط هذه الحراك مع الأفراد وأيضا من مخرجات هذا اللقاء الكفاح المسلح والنضال.
ويعتبر محمد سعيد ناود الذى كان يعمل موظفا فى هيئة البريد السودانية من الكفاءات الإريترية التى يشهد لها التاريخ بأنه من الأوائل الذين كرسوا حياتهم للكفاح والثورة ضد المحتل الإثيوبي.
فى ظل ذلك أيدت الخلايا فكرة الكفاح المسلح وجبهة تحرير إريتريا خصوصا فى المناطق الغربية، وقتها رحب كثير من الإريتريين بهذه المرحلة وأبدوا تأييدهم المطلق لهذا النداء الوطنى، وهنا بدأت جبهة التحرير الإريترية، فى تنفيذ أول عملية عسكرية ضد المحتل الإثيوبى فى مدينة "أغردات" منطقة بركة وهذه المجموعة هى التى نفذت الضربة فى منتصف النهار لأحد اجتماعات الحكومة الإثيوبية، وقد انتشر صداها فى جميع المناطق والمدن الإريترية، فضلا عن أن الفدائيين الذين نفذوا العملية انسحبوا، ومن الذين توفى فى هذه العملية وزير العدل عمر حسنو، وجرح رئيس البرلمان آنذاك حامد فرج، ووقع خلال هذه العملية عدد كبير من القتل والجرحى من ضباط والأجهزة الأمنية الإثيوبية، وقد كان الهدف من هذه العملية تصفية الجنرال "بلطي". ممثل الإمبراطور هيلاسلاسى فى إريتريا، هذه العملية دفعت الشباب الإريترى فى الداخل للالتحاق بالثورة، وكان لها تأثير كبير فى نفوس القيادات فى جبهة التحرير.
جراء ذلك اتهمت واعتقلت السلطات الإثيوبية، محمد حسنو وعبد الرحيم محمد وتم شنقهما فى نفس المدينة "أغردات".
وبعد وصول سبى إلى القاهرة تم تأسيس الجناح السياسى لجبهة التحرير الإريترية بالقاهرة، ترأسه المناضل الشهيد إدريس محمد آدم، وكان بمثابة النشاط الخارجى، وتم إعلان المجلس الأعلى للثورة الإريترية (جبهة التحرير الإريترية)، وهنا بدأ تعريف التنظيم فى الدول العربية.
دشنت الثورة الإريترية مكاتبها فى الشرق الأوسط، ويعتبر مكتب مقديشيو هو الأول فى عهد الرئيس الراحل محمد سياد برى، وقد لعب سبى دور الرجل الخارق فى تأسيس هذه المكاتب بما يملكه من رصانة فى اللغة واللباقة الخطابية، حتى انتشرت المكاتب الخارجية فى كل من "القاهرة، ودمشق، وبغداد وطرابلس"، وشهادتى للتاريخ لعب السودان والصومال دورا كبيرا فى دعم الثورة الإريترية، فالسودان فتح بوابة بدخول الأسلحة عبر ممرات آمنة للثوار، واستقبال الجرحى، ونقل العتاد العسكرى، وأيضا التدريب للكوادر وتسليحها، بالإضافة إلى أن كل الإريتريين الذين كانوا يعملون فى الجيش السودانى تم التحاقهم بالثورة، ويعتبر السودان البوابة الرئيسية للثورة الإريترية، أما الصومال فمنح القيادات الإريترية جوازت سفر دبلوماسية لتسهيل مهمة التنقل عبر العالم، فضلا عن أوامر من سياد برى لجميع البعثات الدبلوماسية الصومالية فى الخارج بتسهيل المهمات لنا، وكانت كل الوثائق السرية للتنظيم ترسل عبر الحقيبة الدبلوماسية الصومالية.
أما الحكومة المصرية، من خلال جهود سبى ففتحت التعليم للطلاب الإريتريين فى شكل المنح فى جميع المعاهد والجامعات المصرية، فضلا عن الدعم السخى للعتاد الحربى، فالقاهرة فتحت العديد من المجالات الثقافية والتعليمية والسياسية، بدرجة كبيرة ومنح الطلاب الإريتريين مجانية التعليم، وكانت الأسلحة التى تصلنا من ليبيا تمر عبر مصر، فضلا عن أن القاهرة كانت تجمع السلاح وتقوم بإرساله عبر السودان للثوار. يضاف إلى ما سبق أن القاهرة قامت بإرسال الأطباء والأدوية للجرحى واللاجئين فى مناطق الحرب، وبفضل جهود هؤلاء الأطباء المصريين فى الميدان تجاوزنا الكثير من المشاكل.
كان يعمل سبى بشكل دؤوب كخلية نحل، فخلق علاقات إعلامية على مستوى فى الشرق الأوسط والعالم، وتعتبر حتى يومنا هذا هى الركيزة التى تعتمد عليها الدولة الإيترية، وكان حلم سبى هو تحرير إريتريا من الاحتلال الإثيوبى.
وبرغم الدعم الكبير عسكريا وماديا التى قدمته بغداد لنا، فإن سبى اختلف معهم عندما طلبوا منه تأسيس كيان وحزب باسم البعث العربى فى إريتريا، والحقيقة رد سبى قوى وبليغ وحمل رسالة نحن الشعب الإريترى فى حالة ثورة، ولا نريد أن تحدث بيننا الانقسامات والانشقاقات، وبرغم الإغراءات المالية الكبيرة التى قدمها العراقيون لعثمان صالح سبى فإنها كلها باءت بالفشل الذريع، وهذا الاختلاف جعل العلاقة بين الإريتريين والحكومة العراقية تصاب بنوع من الفتور.
وبعد الضربات الشرسة والموجعة التى نفذها الثوار الإريتريون ضد الحكومة الإثيوبية، اتخذت إثيوبيا سياسة اتسمت بسياسة الأرض المحروقة للقضاء على المحاصيل الزراعية، وقتل المواشى، وقتل وإبادة الإريتريين دون تمييز، خصوصا الحملات التى نفذت فى أعوام (1967، 1970، 1974، 1975) على التوالى، مما أدى إلى تشريد أعداد كبيرة من المواطنين الإريتريين العزل. تلك الحملات الانتقامية من قبل السلطات إثيوبيا، دفعت الثوار الإريتريين إلى تحرير بعض المدن، وأصبحت الثورة تحقق مكاسب كبيرة على مستوى المواجهة، وفى المقابل تراجع المحتل الإثيوبى، صارت أغلبية المدن الإريترية تتحرر، وسيطرت جبهة التحرير الإريترية على العديد من المكتسبات المعنوية حتى أصبحت تعقد مؤتمراتها فى هذه الأراضى المحررة، وظهر ذلك بارزا فى معركة بارنتو ومعركة مصوع 1978.