ثائر القرن الإفريقي في ذكرى رحيله عثمان سبّى الرجل الذى قال لا لإسرائيل
بقلم الأستاذ: بلال مؤمن - كاتب و محرر مصري المصدر: أصوات أونلاين
كان هذا الوطن ضحية شرود القلب العربي عن أطرافه، فحتى منتصف القرن التاسع عشر
كان البحر الأحمر بمثابة «بحيرة عربية» خالصة، نتيجة للنفوذ المصري على شواطئ إريتريا واليمن. وفي غفلة من الزمن وقعت إريتريا فريسة في أيدي الأحباش الذين أرادوا استئصال النفوذ والثقافة العربيين من أفريقيا، ثم أطبقت عليها مشاريع الاستعمار الغربي التي سعت لتأمين طرق تجارتها في البحر الأحمر، فأطلقت أيدي اثيوبيا في إريتريا كما أطلقت أيدي الصهاينة في فلسطين.
المؤمن بعروبة وطنه:
لم تحظ قضية إريتريا عروبيا باهتمام كبير، فقد ضاع الوطن والهوية وسط زخم من التجمعات الاثنية والقبلية، وغابت إريتريا بتاريخها وانتماءاتها تحت نير الاحتلال الإثيوبي الذي أحرق الأرض وجرّف العقول، وتاهت العروبة بين العديد من القوميات والقبليات واللغات المحلية.
لكن شابا إريترياً لم يتجاوز الثلاثين من عمره قرر أن يحمل قضية بلاده ويسبح بها إلى الشاطىء الآخر من البحر، وحده دون أبناء جيله، آمن الفتى «عثمان صالح سبّي» بعروبته وإسلاميته، فعرف كيف يطرق بوطنه أبواب كل بيت عربي، وأن يجلب الرصاصة، والبندقية، وقطعة الخبز لرفاقه المناضلين.
كان عاشق إريتريا والمسكون بحبها حتى الثمالة، ثائر القرن الإفريقي بامتياز قل نظيره.. فهو القاهرة ومقديشيو والخرطوم وأسمرا هو المثقف والمصلح والثائر، جمع في نضاله بين إصلاح محمد عبده، فعمل على توثيق تاريخ بلاده في مؤلفاته الثقافية المتعددة، وإقامة المعاهد العلمية، وإرسال البعثات التعليمية سرا إلى القاهرة، وبين ثورية جمال الدين الأفغاني فأنشأ التنظيمات الثورية السرية، وأقام الأحلاف، ودعا لحمل السلاح، وجال الأقطار في سبيل جمع الرصاصات والبنادق وتأييد قضية بلاده في الاستقلال الوطني.. غير أن لكل ذلك حكاية.
في عام 1931م ولد عثمان صالح سبّي في قرية «حرقيقو» في الساحل الإريتري العربي، والتحق بمدرسة حرقيقو التي افتتحت سنة 1944م على نفقة صالح باشا أحمد كيكيا، والذي كان من الأثرياء المرموقين في ذلك الزمان حيث درس المرحلتين الأولية والمتوسطة. وعلى نفقة الباشا صالح كيكيا درس المرحلة الثانوية في أديس أبابا ثم التحق بكلية المعلمين هناك أيضا وأتم بها الدراسة، وعند عودته من أديس أبابا تم تعيينه أستاذا بالمدرسة التي درس بها في حرقيقو، وفي مطلع الخمسينات من القرن الماضي تم تعيينه مديراً لنفس المدرسة.
أثناء دراسته في أديس أبابا تعرف سبّي على الكثير من أبناء القوميات المقهورة والمهمشة في أثيوبيا مثل الأورومو، والهرريين، والصوماليين وغيرهم. وبالتعاون بينه وبينهم قاموا بتأسيس «جمعية العروة الوثقى» للدفاع عن حقوقهم. وفي هذا المناخ بدأ وعيه السياسي في النضوج.
آمن سبّي بضرورة العمل على تحرير وطنه من الاحتلال الاثيوبي، وبأن ثمة مسارين لعملية التحرر.. أحدهما عسكري، أما الآخر فهو إثارة الوعي العام بمثالب الاحتلال وأهمية التحرر الوطني عن طريق التعليم، وعندما رأى بأن فرص التعليم في إريتريا شبه معدومة نتيجة السياسة الأثيوبية شرع في تهريب طلابه من قرية حرقيقو إلى مصر. كان يبعث بهؤلاء الطلاب إلى السودان سراً، حيث يقوم الأستاذ صادق عبد الله عبد الماجد بالسودان باستقبال هولاء الطلاب القادمين من إريتريا وإيوائهم لمواصلة سفرهم إلى مصر.
رحلة كفاح:
لم يكن اختيار سبّي لمصر مصادفة، وهى التي أصبحت الراعي الأول لحركات التحرر الوطني في ستينات القرن الماضي، كما كان على وعي بزخم الحركة الطلابية الإريترية بالقاهرة، وحين استشعر ملاحقة السلطات الأثيوبية له خرج عثمان سبّي من حرقيقو صوب «عصب» المدينة الساحلية على البحر الأحمر، ثم غادر منها عبر البحر صوب اليمن ومنها إلى جدة ثم انتقل إلى عاصمة الصومال مقديشيو في العام 1960 ليؤسس جمعية الصداقة الصومالية الإريترية، لكن الأهم كان اللقاء الذي جمع بينه وبين الزعيم إدريس محمد آدم حيث بدآ معا الإعداد لتأسيس جبهة التحرير الإريترية التي وضعت الشعب الإريتري برمته أمام تاريخ جديد من البطولات والمآثر.
خاض عثمان صالح سبّي معركة الاستقلال ضد أثيوبيا ومن خلفها العديد من دول الاستعمار الأفريقي السابق التي قدمت الدعم لاثيوبيا ومن خلفهم الكيان الصهيوني، وكثيرا ما ساوموا سبّي على التقارب مع الكيان الصهيوني والاعتراف بدولته مقابل تقديم الدعم، لكن إجاباته كانت قاطعة: نحن عرب ومسلمون ولا نساوم على قضايا أوطاننا.
كان سبّي سفيرا لقضية وطنه لدى الشعوب العربية التي طرق أبوابها جميعا في سبيل التأكيد على عروبة بلاده، وللحصول على دعم العرب في تأييد حق إريتريا في الاستقلال، كان يعرف أن البندقية هي الأمضى والأنجع واللغة التي يمكن أن يفهمها الأعداء، دون أن يغفل أهمية التنظيم والتأطير لقضية الاستقلال، فيذكّر رفاقه بأنه إذا لم يلتفت العرب إلى إريتريا بشكل جدي، فلن يكون لها الوجه العربي بعد الاستقلال.
فخرج من اليمن إلى السعودية ومنها إلى مصر، وكانت القاهرة قبل وصوله تشهد حركة سياسية نشطة للطلاب الإريتريين انبثق منها البيان الأول لإعلان ميلاد نواة ثورة شعبية مسلحة لتحرير إرتيريا سميت جبهة التحرير الإريترية تيمناً بجبهة التحرير الجزائرية في نوفمبر من عام 1960.
في القاهرة تم تكوين مجلس أعلى لقيادة الجبهة بقيادة الزعيم الوطني إدريس محمد آدم، وإدريس عثمان قلايدوس سكرتيراً عاماً وعثمان صالح سبّي مسئولاً للعلاقات الخارجية وشئون الثورة، وبهذا تأسست أول مؤسسة سياسية إريترية تتبنى الكفاح المسلح طريقاً للاستقلال.
وفي سوريا حيث طابت لعثمان سبّي الإقامة، أسس مكتبته الضخمة، التي ضمت أرشيفا وطنيا لإريتريا كان هو الأهم،بما حواه من وثائق وخرائط جغرافية وتاريخية وطنية، تلك الوثائق التي حاول نقلها الى داره في بيروت في زمن الحرب الأهلية اللبنانية، لكنها وقعت في أيدي بعض الكتائب المسلحة. وقد حاول سبّي أن يفتديها بالمال، إلا أن بعض الأجهزة الأمنية الأثيوبية سبقته في الحصول عليها، ليبدأ عثمان سبّي جمع أرشيفه ومكتبته من جديد.
أثمرت جهود سبّي الدبلوماسية في العالم العربي تأييد العديد من الدول التي قدمت المال والسلاح والدعم السياسي في المحافل الدولية، وكان على رأس تلك الدول مصر وسوريا والعراق، كما أثمرت العديد من العلاقات والصداقات الشخصية المميزة ببعض الشخصيات السياسية الفاعلة كالرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، والأمير تركي الفيصل الذي رعى صديقه وآمن بعدالة قضيته، وتطوع برعاية أسرته الفقيرة بعد وفاته.
هكذا استطاع سبي بمشاركة زملائه ورفاقه فرض الثورة الإرتيرية وقضيتها العادلة في المحافل الدولية حيث سمح لأول مرة لوفد إريتري بإلقاء كلمة عن القضية الإريترية بالجمعية العامة للأمم المتحدة بعد قيام الثورة، وفي الرابع من إبريل 1987 توفى المناضل الإريتري عثمان صالح سبّي بالقاهرة، حيث نقل رفاته إلى العاصمة السودانية الخرطوم، ليوارى الثرى في مثواه الأخير، قبل أن يحقق حلمه الذي عاش عمره كله من أجله وهو أن يرى استقلال إريتريا وعودتها إلى الحضن العربي.