في ذكري رحيل المناضل الكبير/ محمد سعيد ناود - الجزء الثالث
بقلم الإعلامي الأستاذ: أبوبكر عبدالله صائغ - كاتب وصحفي ثقافي مهتم بالتأريخ
ويقول عن المناضل/ محمد سعيد ناود صديقه الكاتب العراقي/ عارف علوان الذى كان يعمل معه
في مكتب الإعلام التابع لقوات التحرير الشعبية ببيروت.
عملت معه حين كان مسؤولاً للإعلام في جبهة التحرير الإرترية (قوات التحرير الشعبية) فكان أحياناً يتسلل إلى الداخل الإرتري، وعندما يعود يجمعنا حديث طويل عن إريتريا لساعات طوال، لأنه يلتقط بعين الكاتب الشاردة والواردة في حياة المجتمع الذي يعشقه، سكان المدن والقرى والرحل، ثم يخرج بمؤلف صغير أو كبير، يتناول عادات أو تاريخ أو جغرافية البلد، حتى أنه أسس بمؤلفاته العديدة، إلى جانب الشهيد عثمان صالح سبي، الرف الأول في المكتبة الإرترية.
ورغم أنني كنت أجمع بين الجد والهزل في تلك المرحلة من حياتي للتعويض عن فترة معتمة في تاريخ العراق، غير أن محمد سعيد ناود قدم إلى بيروت يحمل على عاتقيه تأسيس أول حركة وطنية لتحرير إرتريا بمنهج تنظيمي ورؤية واضحة، لذلك ظل الجد والمثابرة يلازمانه حتى آخر يوم من حياته.
لم تكن من عادات ناود البوح عمّا يكتب. كان يفاجئنا بمؤلف جديد فنذهب به إلى المطبعة. كان يغيب مدة طويلة داخل البيت ليخرج علينا بانتاجه.
في إحدى المرات سلمني نص طويل، قال إنها رواية، أضاف: قبل إرسالها للطبع أود أن تقرأ النص لأنها المرة الأولى التي أخوض في هذا المجال.
كان "صالح، أو رحلة الشتاء" أول عمل أدبي إرتري، وهو سيرة ذاتية ابتعدت كثيراً عن صاحبها، تسرد قصة عائلة تنتقل بين شمال إرتريا والسودان لجناية القطن أو حصاد الحبوب، ثم تعود إلى وطنها محملة بالذكريات الدرامية التي ينقلها إلى القارئ الصبي "صالح".
اولاً: فرحت بالرواية كون ناود يطرق هذا الباب، وتواتيه الجرأة على الذهاب إلى الأدب للمرة الأولى.
ثانيا: كون إرتريا لم تشهد من قبل الرواية بمفهومها القائم على الأحداث المصنفة والمتسلسلة ضمن سرد جزل، يتخلله ذكر العادات والتقاليد الشعبية.
ثالثاً: حفزني العمل على التخطيط للرواية لأنني انشغلت بالمسرح والقصة القصيرة آنذاك. إنتهي حديث الكاتب العراقي عارف علوان.
هذه الحديث هو المدخل الذى سوف أبدأ به للكتابة عن بعض المواقف التي كان يحكيها لي المناضل الفذ الراحل/ محمد سعيد ناود.
الزمان كان عام 1974م المكان بيروت حكي لي المناضل الراحل يوماً ما موقفاً يدل على نزاهته وشفافيته وصدقه حيث قال:
حضر المناضل الراحل عثمان صالح سبي في عام 1974م الى بيروت للإجتماع بأعضاء المكتب التنفيذي لقوات التحير الشعبية المقيمين في بيروت وكعادته نزل في فندق مريديان بيروت، وذهب اليه المناضل ناود لمقابلته بإعتباره عضو المكتب التنفيذي ومسؤول مكتب الاعلام ودار بينهم حديث طويل وبعد ذلك غادر المناضل ناود الفندق متوجهاً الى منزله المتواضع في إحدى حارات بيروت.
في اليوم التالي إنعقد الاجتماع بحضور المناضل الكبير الشهيد/ سبي وفي نهاية الاجتماع غادر الجميع الي أماكن إقامتهم وطلب سبي من ناود الانتظار لكي يخرج معه، يقول ناود إنتظرته في الاستقبال حتى ينزل سبي من الفندق وغادرنا المكان معاً.
قلت له والحديث لناود الى أين ذاهبون قال سبي الى منزلك اليوم وجبة الغداء عليك!
يقول ناود: تفاجأت من قراره المفاجئ للذهاب معي للمنزل حيث قال له يا سبي إذا كان هذا هو الموضوع يفضل أن تعود الي الفندق وترتاح وسازوره الفترة المسائية.
ولكن سبي كان مصراً للذهاب مع ناود والتعرف في مكان إقامته ومشاهدت منزله، تراجع ناود أمام إصرار سبي وقال له المنزل ليس بعيد من هنا ولكن ما رائك نستقل سيارة أجرة وفعلا ركبا تاكسي ووصلا اليالعمارة التي يقيم عليها ناود حيث كان يسكن في شقة صغيرة في الطابق الأرضي "القبو"، صالة صغيرة ومطبخ وحمام وغرفة فقط، مساحة الصالون تكفي لوضع طاولة وكرسي وبه رفوف لوضع الكتب، المطبخ به غاز صغير يعمل بالكيروسين يطلق "بابور" وأدوات مطبخ وثلاجة وهكذا أشياء.
عندما دخل سبي الى غرفة ناود أصيب بالذهول وتعجب كيف يعيش ناود في مثل هذه الشقة الصغيرة وهو عضو المكتب التنفيذي ومسؤول مكتب الإعلام وغيره من أعضاء المكتب والمسؤولين يعيشون في فنادق وشقق فاخرة.
قال له سبي: غداً تغادر هذه الشقة وتستأجر شقة أخرى أخي تناسبك. رد عليه المناضل ناود يا سبي هذا المنزل يكفيني ويناسبني لأن الأموال التي سوف نخسرها في لإجار شقة تكون عوناً للمقاتل الذي يقاتل في الميدان، وأضاف قائلاً ناود: إن الذين يبذرون أموال الشعب الإرتري غداً التاريخ سوف لن يرحمهم والشعب الإرتري شاهد عليهم.
بهذه العبارات انتهي الحديث بينهم ورفض ناود مغادرة الشقة التي كان يقيم عليها والتي كتب فيها الكثير من إعماله الأدبية والتاريخية وكتبه السياسية.
يذكر إن الزعيم الوطني الكبير عثمان صالح سبي كان يلقب صديقه المناضل ناود بـ "العنيد" وهذه الوصف قراته في مذكرات سبي التي كتبها بدءاً من عام 1983م وحتى عام 1985م وهذه المذكرات كانت مع إبنته هدي عثمان صالح سبي التي كانت تقيم في دمشق وتتردد في مكتب الجبهة الشعبية الكائن في ساحة الميسات بدمشق، حينها الرفاق بفرع الإتحاد الوطنى لشباب وطلبة إرتريا بسوريا كنا نصدر مجلة باسم "دندن" نشرنا من هذه المذكرات بعض الصفحات ثم قررنا التوقف عن النشر حتي لا تثير حساسيات الكل كان يتحاشى إثارتها والبلاد كانت مقبلة على البدء في إعداد دستور.
أما مذكرات الشهيد/ عثمان صالح سبي التي كتبها قبل عام 1983 م فقدت في بيروت عند الاجتياح الإسرائيلي عام 1982م حيث يشير إليها في مذكراته اللاحقة ويقول كانت في "الصندوق الأسود".
لا أحد يدري أين هو الأن الصندوق الأسود الذي يحوي مذكرات الزعيم الراحل عثمان صالح سبي.
نواصل بإذن الله... في الجزء القادم