ذكريات وتجارب - الحلقة الثالثة عشرة

سماديت كوم Samadit.com

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

تحدثت في الحلقة السابقة عن الصعوبات التي واجهتنا في صياغة كلمتين سياسيتين والتدرب عليها ثم التحايل لإلقائها في احتفال المولد

النبوي الشريف في حرقيقو. اما من ناحية مدى تأثيرها، فيمكن القول، وحسب استطلاعنا وانطباعنا، لم يتجاوز مفعول رمي حجر في ماء راكد، وبطبيعة الحال، لم نتوقع اكثر من هذا، حيث كان التعويل على ان يضيف التحاقنا الفوري بالجبهة نوعا من الاهتمام ما لم يتحقق بالسرعة المأمولة بسبب عدم امتلاكنا مالا يغطى يغطي الحد الأدنى من نفقات السفر، إضافة الى عدم معرفة الطرق والوسائل البديلة، فكان الحل التريث لحين توافر الشرطين.

لعله كان بعد نحو أسبوعين من تاريخ الاحتفال عندما ناقشني الأستاذ صالح عبد القادر بشير حول مضمون ما جاء في الكلمتين وعما كنا نهدف اليه تحديدا، وكانت العلاقة بيننا، ولاسيما منذ الاضراب المدرسي الذي قمنا به وتفاعله معنا، تتسم بالأريحية. أوضحت له صراحة اننا ندعو الشباب للالتحاق بالجبهة ونحن في مقدمتهم وخصوصا بعد الدعوة الضمنية التي قدمناها امام الملا. فحاول اقناعي بالعدول عن الفكرة والتركيز على التعليم حتى يكون مستوى ما نقدمه للوطن مستقبلا اكبر واهم مما يمكننا تقديمه في الوقت الراهن. تمسكت برأيي ونقلت رأيه الى الزملاء الذين التقى بكل منهم على انفراد، وكلهم عبروا عن ذات الرغبة، فطلب امهاله بعض الوقت حتى ينظم لنا طريقا آمنا يوصلنا الى كسلا ومن ثمة يمكننا الاتصال بالمكتب. وافقنا على اقتراحه ولكن على الا تطول المدة، وحقيقة كان السبب الأساسي لقبولنا، إضافة الى عامل الامن والسلامة، احتمال تحمله جزء من المصاريف.

اعتبرنا عدم رده بالسرعة المتوقعة نوعا من المماطلة حتى يخمد حماسنا، لذا بدأنا في البحث عن وسائل أخرى. وفي هذا الاطار، فاتحت ذات مرة الأخ عثمان سيد علي (جدة - اربع موراهو) عما نفكر فيه وكان شخصا طيبا ودودا يقدر الظروف. كنا، في بعض الأحيان، نقضي معه في دكانه (محل صياغة بالقرب من مدرسة الأمير مكنن في عداقة) معظم وقت استراحتنا المدرسية ولم نلحظ منه أي تضايق لا من طول المدة ولا من عددنا. ابدا الأخ عثمان تعاطفا بل وحماسا مع الفكرة وذكر ان له صديقا في مدينة تسنى يدعى محمد افندي يملك محل صياغة وانه شخص يعتمد عليه يمكنه مساعدتنا وخصوصا اذا جئناه من جهته.

وقبل الاسهاب في السياق، لابد لي من الإشارة الى انني التقيت الاخ عثمان سيد علي بعد مرور اكثر من عشرين سنة من هذا التاريخ. عرفته عن قرب عندما توليت سكرتارية لجنة حرقيقو الخيرية في جدة وكان من القلة القليلة التي دعمت وتعاملت مع اللجنة بسخاء من نفسه ومن غيره لأكثر من خمسة عشر سنة. اما الموقف الشخصي الذي لم اتوقعه ولن انساه له كان في اجتماع خاص بإعادة بناء وتعمير البلدة عقد في منزل الاخ المهندس صالح احمد زبير. بعد الاستماع الى ما قيل وشرح سألني عما انوي عمله شخصيا، وعندما اخبرته نوع البيت الذي انوي بناءه وتكلفته المالية وانني سأدفع مبلغ خمسين الف ريالا مقدما لمقاول مبتدئ لاعتبارات مقتنع بها وتذكر في موضوعها، قال لي ايجازا، ’سجل اسمي في أي شيء تقوم به ثم اشعرني‘. وهكذا بنى عثمان بيتا كلف حوالي مائة وخمسين الف ريال سعودي والمرة الوحيدة التي اثار فيها الموضوع كان لتقديم الشكر يوم استلامه. واذا كان هناك شيء اسعدني كثيرا في مشروع البناء، ان الله لم يخيب ظن هذا الشخص وامثاله الطيبين فينا، فلهم كل شكر وتقدير.

ومن محاسن الصدف، في الوقت الذي كنا فيه على وشك التحرك اعتمادا على وصية الأخ عثمان سيد على، علمنا ان طريقتي الختمية والاحمدية تنويان المشاركة في حولية السيد الميرغني في كرن وانها بدأت في تسجيل الراغبين من أعضائها. اتفقنا على الاستفادة من الفرصة كتمويه عكس فيما لو سافرنا بطريقتنا الخاصة، وفي نفس الوقت نوفر مصاريف المبيت في اسمرا. ولهذا سجل الزميلان على سيد عبد الله وحسن حمد امير في قائمة الختمية وانا ومحمد سعيد برحتو في قائمة الاحمدية.

وقبل أسبوع تقريبا من الموعد حصل ظرف عائلي طارئ منع محمد سعيد من السفر فحل محله الزميل محمود عثمان حمد (الدنمارك) وفي ذات الوقت اصبت انا بمرض الحصبة ما يستدعي تقليديا البقاء تحت بطانية لأكثر من أسبوع وعدم التعرض للهواء، ولحسن الحظ خفت عني الحمة قبل يومين من الموعد فتوكلت على الله وبهذا اكتشفنا ان علاج الحصبة هو التعرض للهواء وليس العكس.

ابلغنا الأستاذ صالح بشير عزمنا على السفر مع المجموعة المسافرة الى كرن ومن هناك نستقل باصا متجها الى تسني، واننا نحمل اسم شخص نأمل ان يساعدنا، لم يبد الأستاذ صالح أي اعتراض بعد ان وضعناه امام الامر الواقع فأكتفى بإعطائنا بعض الارشادات العامة. عرفنا فيما بعد ان مرد تأخره في ارسالنا كان عدم حصوله على معلومات عن مصير مجموعة كان قد أرسلها منذ بعض الوقت والظروف التي واجهتها وهم: الشهيد حامد محمد عثمان، عثمان قافيلا، عبده عثمان ادم، يوسف محمد توكل والشهيد علي محمد عمر حسن حسب الله.

عشية يوم السفر ودعنا بعض الزملاء ووزعنا عليهم بعض الملابس التي اعتقدنا اننا لسنا بحاجة اليها اذكر منهم الزميلين عثمان محمد عبد المنان وامير محمد عمر كيكيا، وفي الصباح غادرت الباصات لتصل مدينة كرن في العصرية. وحاولنا من فورنا، بدون جدوى، إيجاد مكان نبيت فيه بعيدا عن البقية، فقضينا ليلتنا معهم ثم انسللنا بعيد صلاة الفجر وغادرنا المدينة في اول باص متجه الى تسني التي وصلناها حوالي الثالثة عصرا.

كانت المحطة شبة سوق شعبي محاطة بمحلات تجارية فجلسنا في احدى القهاوي المنتشرة نستطلع المنطقة حتى حددنا موقع دكان الأخ محمد افندي، وحسب الوصف، تأكدنا انه موجود. بعد ان عرفته عن نفسي ابلغته سلام الأخ عثمان سيد على وشرحت له اننا طلبة نرغب في العبور الى السودان في طريقنا الى القاهرة للتعليم. وبما ان القهوة التي تركت فيها الزملاء لم تبعد من الدكان سوى عشرات الأمتار كان قد رآنا قبل ان اصل اليه. كل ما قاله ان كافة المنافذ الحدودية مراقبة يصعب اختراقها ومن افلت من الحكومة تلقفته الجبهة. فقلت له اننا فعلا ننوى الانضمام الى الجبهة، وعندئذ اقفل باب النقاش تماما.

رجعت الى الزملاء بخفي حنين. بينما كنا نتسلى بمراقبة الباصات القادمة والمغادرة لعل وعسى تحمل لنا شيئا بدون ان نعرف ماهية هذا الشيء، نزل من احدى الباصات القادمة من كسلا شخص بدا لنا مألوفا ولم نميزه الا بعد ان اصبح على بعد بضعة خطوات منا، في حالة مزرية ثيابه مهلهلة نتنة ومجمل منظره اقرب الى شخص خرج من قبر دفن فيه بلا كفن. ذكر الزميل عامر احمد منسعاى انه اعتقل في كسلا، وبعد ان صادر البوليس كل ما كان معه من مال وملابس، رموه في احدى مراكز الشرطة حيث لا تتوفر ادنى متطلبات الانسان من مرافق وغذاء، ثم ابعدوه الى الحدود، وروى قصصا مرعبة جدا حطت من معنوياتنا حيث كانت معلوماتنا عن السودان وأهله وردية جدا.

واول ما دخلنا في استيضاحه عن الطرق التي وصل بها الى كسلا، سلم علينا شخص لم يعرفه منا احد، سحب كرسيا وانضم الينا في نفس الطاولة، وسألنا بابتسامة مفتعلة عن طلباتنا من مشروبات. شكرناه على ضيافته وحاولنا تجاهله الا انه اقترب اكثر وذكر انه من مصوع وان اسمه ابراهيم شريف ويعمل في شعبة محاربة التهريب في وزارة المالية برتبة شاويش. فعلا سمع بعضنا عنه وخصوصا عندما اصابه بعض المهربين من الرشايدة بضربة سيف قطعت جزء من اذنه، وشخصيا كنت اعرف شقيقته الخالة اسماء شريف في حرقيقو قبل ان تنتقل مع ابنائها محمد واحمد شريف الى مصوع حيث كان لهما كش للسجائر في موقف الباصات في مصوع. ثم حاول التعرف على اسمائنا فاكتفينا بالقول وباقتضاب اننا ضيوف عابري سبيل. فبعد ان ركز على وجوهنا اشار الى الزميل على سيد عبد الله وقال له ’الست انت ابن سيد عبد الله سيد مكنون‘.. الخ، ثم اضاف بدون مواربة انه يعرف اننا ننوى التسلل الى الأراضي السودانية، وانه جاء لكي يسدى الينا نصحا بان هذه المحاولة تنطوي على عواقب وخيمة، وبما أنه يعرف اهلنا لن يسمح لنا بالمضي في هذه المغامرة حتى لا يحملوه المسئولية كما فعل علي ابراهيم بشير بسبب مرور ابنه عمر بهذه الطريقة قبل شهر، وهكذا عرفنا ان الزميل عمر غادر البلاد. عبرنا له عن تقديرنا واحترامنا لمشاعره الطيبة تجاهنا وتجاه اهلنا محاولين عبثا إقناعه اننا جئنا فقط للزيارة وسنعود ادراجنا بعد يوم او يومين.

كادت الشمس ان تغيب قبل ان يغرب ابراهيم شريف عن وجوهنا وبقى صامدا لا يتململ ولا يتحرج من طول تجاهلنا وسوء طريقة تعاملنا حتى استنتجنا انه مخبر او مكلف للعب دور معين والا انى له ان يعرف اسماءنا ووجهتنا، فقررنا مجاراته الى اطول مدة. واخيرا اقترح علينا الذهاب الى فندق نستريح فيه، تجاوبنا معه على امل ان يتركنا وشأننا فننطلق الى ما نشاء. اوصلنا الى فندق قريب وقبل ان يذهب وعدنا بالعودة بعد ساعة حتى نتعشى معا.

سألتنا احدى العاملات في الفندق وهى تدلنا الى غرفنا عن جهة قدومنا، فأخبرناها اننا جئنا من كرن، فقالت متضاحكة انها حسبتنا قادمين من مصوع. مفاجأة! وعندما سألناها بنفس الملاطفة عن سبب افتراضها اننا من مصوع، قالت ’طلبت منا المباحث اخطارها اذا نزل في الفندق اربعة شبان قادمين من مصوع‘. وبهذا كشف المستور، وكان الزميل حسن حمد امير قد لاحظ ان موظف الاستقبال الذي اخذ اسماءنا كان يحمل مسدسا. وقبل انهاء مناقشتنا حول ما قالته العاملة والوضع الذي وجدنا فيه انفسنا، عاد ابراهيم الله الشريف واصطحبنا الى احد المطاعم حيث تناولنا ما لذ وطاب من الاطعمة على حساب المباحث، وحوالي الثامنة ليلا عدنا الى الفندق لاستكمال النقاش.

واذ نستعد للخروج الى السوق بحثا عن مهربين او من يعرف مسالك الطرق الى كسلا، داهمتنا مجموعة من المباحث برئاسة شاويش وقامت بتفتيشنا جسديا وما كان بحوزتنا تفتيشا دقيقا. لم تجد شيئا ذا قيمة الا بعض الكتب المدرسية تعمدنا احضارها. وبدأ الشاويش يحقق معنا ابتداء بالبيانات المسجلة في سجل الفندق ولماذا قلنا اننا قدمنا من كرن مع اننا قدمنا من مصوع. لحسن الحظ لم نغير اسماءنا، اما بالنسبة لموضوع جهة القدوم اخبرناه اننا فعلا من مصوع ولكننا جئنا الى تسنى من كرن. سألنا عن السبب في عدم حضورنا احتفالات الحولية طالما جئنا من اجلها والمغادرة صبيحة نفس اليوم. وهنا جرى نقاش مطول واعطينا لكل شيء تفسير بينما كان له تفسير اخر، لم يجد في تواجدنا في البلدة ما يكفي لاعتقالنا ومع هذا نقلنا الى مركز الشرطة.

هذه المرة كان المحقق ضابطا برتبة ملازم. اعطيناه نفس الردود لنفس الاسئلة واخيرا قال انه لا يستطيع اخلاء سبيلنا الا بكفالة شخصية، ذكرنا اننا ضيوف ولا نعرف احدا في المدينة. واخيرا سألنا اذا كنا نوافق على ان يوفر لنا هو ضامنا، وافقنا على عرضه لأننا لن نتحمل تبعات ما يحصل له اذا وجدنا مهربا. كنا في غرفة الانتظار عندما دخل علينا الضابط ومعه الضامن - الشاويش ابراهيم شريف! سأل الضابط ابراهيم امامنا اذا كان مستعدا لضماننا حتى صبيحة اليوم التالي. اعتذر ابراهيم بحجة انه عسكري والقانون لا يسمح للعسكريين ضمان متهم ولكن يمكنه إيجاد ضامن مدني. وافق الملازم على اقتراح ابراهيم وغادر الاثنان الغرفة.

عندما استدعانا مرة اخرى الى مكتبه بعد اكثر من ساعة، وجدنا معه ابراهيم شريف وعلى جانبه محمد افندي!! سألنا الضابط ان كنا نعرف محمد افندي فأجبناه بالنفي، فعرفنا به وذكر انه الشخص الذي سيضمننا وامرنا بالانتظار ريثما ينهى بعض الاجراءات وبقى محمد افندي معنا. عندئذ اخبرنا ان المباحث اخبرته انها كانت تراقبنا عندما اتصلنا به فور نزولنا من الباص وانها اجبرته على ضماننا حتى صباح الغد والا سوف تحمله المسئولية، وناشدنا الا نقوم بأية خطوة لأنه هو الذى سيدفع الثمن وكان في حالة يرثى لها خوفا من الحكومة وعدم الثقة فينا. تعهدنا له بالالتزام بكلمتنا بعد ان كنا نفكر في الهرب في اية لحظة تسنح لنا فيها فرصة او، على الاقل، الاختفاء في المدينة وان لم نكن نعرف كيفيتها. لم التق بالأخ محمد افندي بعد هذا الموقف المحرج الا عام 1978 في كسلا حيث اسس محل صياغة كبير. اقام لي مأدبة غداء دعا اليها بعضا من معارفه ومعارفي استعدنا خلالها مرارة هذه التجربة فقال انه فعلا كان يخشى الا نوفي بعهدنا!

عندما سمح لنا الضابط بالانصراف في منتصف الليل بعد التوقيع على الاوراق، رفضنا مغادرة المركز ما لم يعطنا خطاب تعريف يحمينا من الاعتقال في الطريق بسبب حالة الطوارئ ومنع التجوال التي كانت تخضع لها المدينة. كنا ندرك انه لن يبقينا في السجن بدون تهمة محددة وفي نفس الوقت يمكننا الاستفادة من الخطاب للتحرك كيفما شئنا بحثا عن شخص يمكن الاتفاق معه للمساعدة في عبور الحدود حتى في موعد اخر، لان اتفاقنا مع الملازم نص على مغادرة المدينة في الساعة السادسة من صبيحة اليوم التالي. تجولنا لبعض الوقت في شوارع خالية من أي تحرك بشرى سوى مخبرين فعدنا الى الفندق لنفاجا بتعليمات جديدة من المباحث تطلب منا عدم المغادرة والحضور الى رئاسة الشرطة في الثامنة صباحا من اليوم التالي.

كان مدير شرطة تسنى في هذا الوقت الميجر عبد القادر محمد علي من الّد اعداء الجبهة. فعندما تم ابلاغه بإطلاق سراحنا بضمانة ومغادرتنا في اليوم التالي، طلب احضارنا الى مكتبه ليحقق معنا شخصيا. استمع الى روايتنا وردودنا بشك وحكم مسبق واضح وبعد ساعة من الاستجواب امرنا بالانتظار تحت ظل احدى الاشجار داخل السور وهو عبارة عن زريبة كبيرة محاطة بأشواك واسلاك شائكة. التقينا بمواطنين بعضهم محجوز وبعضهم مراجع وحاولنا ان نعرف منهم مدى تواجد وتحرك الجبهة في المنطقة ولكن بدون فائدة، غالبا بسبب الخوف وفقدان الثقة في الغريب. لقد تم اطلاق سراحنا مع غروب الشمس مع التـأكيد على مغادرة المدينة صبيحة اليوم التالي في الساعة السادسة.

حضرنا الى محطة الباصات قبل الساعة السادسة صباحا ولكننا حجزنا في باص الساعة السابعة حتى نعرف اذا كان هناك مخبرون يتابعوننا. بدأ الباص في اطلاق صفارته ايذانا بالتحرك، ثم بدأ يزيد من ضجيج محركه وتدريجيا بدأ يتحرك ثم يتوقف كأنه ينذرنا وعندما لم نهتم به توقف كليا ونزل منه شخص جاء يسألنا عن سبب عدم ركوبنا الباص الذى اوشك على الانطلاق، اخبرناه اننا حجزنا على الباص التالي. بالطبع لم يستطع اجبارنا على الركوب فأومأ الى زميل له في الباص فنزل وجلس الاثنان على طاولة مقابلة لنا. بهذا تأكدنا اننا فعلا تحت مراقبة ولا يمكننا ان نتخلف في اية محطة قادمة.
عندما توقف الباص للاستراحة في مدينة هيكوتا، التقينا بعسكري يدعى درويش موسى عاش في حرقيقو لفترة طويلة، لم يتعرف على احد منا فذكرناه ببعض زملائه من العساكر منهم ابن عمي عثمان محمد عمريت، الشهيد ابراهيم عيسى، احمد محمد منتاى، وادريس ياريبو فانفتح وبالرغم من ضيق الوقت اصر على ان نحتسي معه كوب شاهى، انتهزنا الفرصة فأبدينا له رغبتنا في قضاء بضعة ايام في المدينة حتى نتعرف على معالمها وعندما اشار الى الوضع الأمني وقال انه غير مستقر وخطر جدا بسبب تواجد الجبهة المستمر، المحنا له اننا ننوى الانضمام اليها. نفر منا الرجل وقال بكلمات متقطعة انه لا يعرف عن هذه الامور شيئا ونصحنا بالا نفكر فيها ولم يكن هناك متسع من الوقت للاسترسال معه.

اختفى المخبران بعد وصولنا اسمرا او ربما استبدلا، وكلما اقتربنا من مصوع تصاعد شعورنا بالفشل الى درجة كنا نتفادى من يعرفنا وكأن كل الناس مشغولة بأمرنا. في محطة عداقة الجنوبية (حافة الدناكل) توارينا عندما جاء باص شركة حرقيقو، وبينما ننتظر على مضض باص شركة حرقوت الذى غالبا يكون خاليا من الركاب، مرت بنا سيارة تاكسي مسرعة جدا توقفت بعد مسافة ثم عادت الينا كان يقودها الاخ عثمان حسن نائب (حليباي) وبجانبه امرأة، كان عثمان يتميز بالطيبة والروح المرحة او كما يقال ’اخو اخوان‘ مع الجميع، ذكر انه كان مسرعا ليلحق مجلس عزاء لوفاة العم حسن محمد نائب - نائب المدينة. كان حزننا كبيرا لفقدان البلدة شخصية وواجهة محترمة مثله، من خلال حديثنا مع عثمان تعرفت المرأة علينا فالتفتت الى الزميل حسن وقالت ’ويو إللّي حسن ود حمد امير تو.. أسناي ربي ديب امك اب سلام بلسيك وحالك ما أسناي اب دحنو فقرا‘ - يا الاهي هذا حسن ابن حمد امير، الحمد لله الذي اعادك الى امك بسلام والحمد لله على خروج خالك بسلام - كاد حسن ان ينفجر ولكنه تماسك وكظم غيظه. وعلمنا منها ان الحكومة اعتقلت اولياء امورنا ثم اطلقت سراحهم بكفالة.

استنتجنا من حديثنا مع الاستاذ صالح بشير فيما بعد ان الميجر عبد القادر، قام اثناء انتظارنا في الحوش، باتصالات مع مباحث مصوع بحثا عن سوابق او شبهات حولنا حتى بلغ الامر محافظ الاقليم الاخ سيد محمد سيد احمد الذى استفسر من الاستاذ صالح عبد القادر بشير الذى صادف تواجده معه في المكتب عن الموضوع، فذكر له صالح ان كل ما يعرفه عنا اننا مجرد طلبة ذهبنا الى كرن للمشاركة في الحولية وربما رأينا استغلال المناسبة لزيارة تسنى ايضا.

وعلمنا منه ايضا، كما ذكر في الحلقة السابقة، ان الشهيد الامين عثمان نائب الذي كان يعمل مخبرا ذكر له ان الحكومة وضعتنا تحت المراقبة منذ القاء الخطبة في احتفال مولد النبي (صلعم) اعتقادا ان محتوى ومستوى ما قلناه اكبر بكثير من سننا وان وراءنا عقول كبيرة، وان بعض المخبرين اقتفوا اثرنا الى كرن ثم تسني. هذه الخفايا وغيرها ستذكر في موضوعها.

ذكر الاخ العزيز الاستاذ احمد طاهر بادوري في كتابه رحلة مع الذاكرة ان المناضلين الكبيرين عثمان سعيد كراس وعثمان عبد الله بلح كانا ضمن هذه المجموعة التي حاولت التسلل الى السودان، وهذا غير صحيح ولذا وجب التنويه.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click