ذكريات وتجارب - الحلقة الخامسة والاربعون
بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت
شهد النصف الثاني من عام 1967 احداثا كثيرة اهمهما حرب السادس من يونيو التي جرت بين بعض الدول العربية واسرائيل.
اعتبرت اثيوبيا هزيمة الدول العربية انتصارا لها على امل انقطاع الدعم العسكري للجبهة ولاسيما من سوريا والعراق، بل احتياج هذه الدول الى دعمها السياسي في منظمة الوحدة الافريقية لاستعادة اراضيها المحتلة. وبالتالي ان بمقدورها استغلال هذا التطور والخلافات الداخلية السياسية التي بدأت تعصف بالجبهة لتصفية القضية الارترية عسكريا وسياسيا.
وتنفيذا لهذا المخطط، فبينما كان جيشها يقوم بتطبيق سياسة الارض المحروقة بكل ما تعني الكلمة على طول الشريط الساحلي، طرحت الحكومة مبادرة ’سلمية‘ لحل القضية الارترية من خلال اعادة نظام الاتحاد الفيدرالي، فبعثت وفود ديبلوماسية وسياسية للتأثير والمساومة مع بعض الدول المتعاطفة مع القضية الارترية، ووفود مماثلة الى الميدان للاتصال بالقيادات العسكرية، كما ارسلت بعض الشخصيات لإقناع ذويها من السياسيين للعودة الى الوطن منها، منهم على سبيل المثال، السيد حسن سلطان شقيق الزعيم ابراهيم سلطان والسيد ادم محمد ادم شقيق الزعيم ادريس محمد ادم. بقى الاول في القاهرة وعاد الثاني بلا نتيجة.
فوجئنا ذات ليلة بدخول الزعيم الوطني محمد عمر قاضى الى العنبر الذي كنا فيه في سجن اسمرا، فاستقبلناه بحفاوة وطبعا بلا ضيافة، واخلينا له انا وزميلي عثمان رمضان مرقدينا لنمضي ليلة ليلاء. ذكر انه حكم عليه بثلاثة ايام بسبب تلاسن جرى بينه وبين رئيس محكمة اثناء دفاعه عن موكله وان الخبر تم نشره في جريدة الوحدة. ولكنه، عندما استلقى على مرقده كاشف، وبدون مواربة، الزميل احمد شيخ فرس المجاور له انه جاء حاملا معه قرار العفو عن مجموعتنا شريطة تأييدها وانخراطها في مشروع ’الحل السلمي‘ الذي تدعو له ’باعتباره السبيل الوحيد لتحقيق الشعب الارتري استقلاله الوطني الكامل‘ وانه شخصيا التقى بهذه الخصوص ببعض قيادات المناطق من ضمنهم قائد المنطقة الرابعة - البحر الاحمر - محمد على عمرو.
اوضح له الزميل احمد شيخ بإيجاز اننا لن نشارك في مؤامرة تحاك ضد شعبنا لتجريده من سلاحه ومن ثم التنكيل به، وانه لشرف لنا ان تعدمنا الحكومة اليوم ولا نرى ابناءنا غدا معلقين على حبال المشانق، فتحول النقاش الى جدال ساخن منتهيا بمشادة اقرب الى خناق حول على اثرها كل منهما وجهه عن الاخر فنام العنبر بعد سهرة اجبارية.
حوالي الساعة التاسعة اعطى الاستاذ محمد عمر قاضي الحارس اشارة لانتهاء مهمته وغادر في اقل من ساعة بعد ان قضي في السجن ليلة واحدة وليس ثلاثة ايام كما زعم. كانت هذه المرة الاولى والاخيرة التي رأيته فيها، بالنظر الى عوامل كانت تشى ان وراء الاكمة ما وراءها لم اقتنع بما برر به سجنه اولها إحضاره بعد الثامنة ليلا بينما ينتهي دوام ادارة السجن في الخامسة، ثانيا وضعه في عنبر خاص بذوي الأحكام الكبيرة، وثالثا لان العنبر كان مكتظا ولا يستوعب أي نزيل وخصوصا اذا كان في حجمه وبمعنى اخر انهم لسبب ما رادوه ان يكون قريبا منا!
فيما يتعلق بما جرى بين الاثنين، لم احبذ شخصيا خوض الزميل احمد شيخ في موضوع بهذه الاهمية مع شخص لم تكن له به ولا بأخلاقه معرفة ناهيك تجربة سابقة وبهذه العجالة، وكان الاحرى به، طالما جاءت الاثارة من الطرف الاخر، الاكتفاء بالاستماع وسبر ما خفي لتكوين صورة كاملة تساعد على تكوين موقف جماعي والنظر في امكانية استغلالها بدون خسارة. وفي نفس الوقت كنت استغرب انى للأستاذ محمد عمر قاضي هذا الحماس والثقة الكبيرة في التزام الحكومة بتعهداتها مع انه كان اول واكبر ضحاياها حيث قضى عشرة اعوام من عمره في غياهب السجن. فعندما ذهب الى الامم المتحدة لتقديم شكوى ضد الانتهاكات الاثيوبية لنظام الاتحاد الفيدرالي، سعت الحكومة من خلال بعض الدول والدوائر الى اعادته خشية تأسيس نشاطا سياسيا في الخارج، وفي سبيل هذا تعهد الامبراطور هيلي سلاسي بعدم المساس بسلامته وحريته اذا ما عاد الى اثيوبيا. وبالرغم من النصائح والتحذيرات التي قدمتها له جهات صديقة، انطلت عليه الخديعة فعاد الاستاذ محمد عمر قاضي الى اديس ابابا ومنها الى اسمرا حيث تم اعتقاله والحكم عليه بحجة ان تعهد الامبراطور كان في اطار الاراضي الاثيوبية اما الاراضي الارترية تخص دولة اخرى!
بجانب هذا، يمكنني القول ان الاستاذ محمد عمر قاضي لم يظهر لم يبد اللباقة والحنكة السياسية والديبلوماسية التي تمكنه من انجاح المهمة التي تجشم دخول السجن من اجلها، والتي تتناسب مع تجربته الطويلة. لم يتريث لحين التعرف على افراد المجموعة جيدا، التأكد من حالتها النفسية والمعنوية، مدى استعدادها لتقبل مشروعه، البحث عن شخص يساند رأيه يعزز به موقفه. على العكس، كان ارتجاليا كشف غايته منذ الدقائق الاولى ومع اول شخص تصادف وجوده بجواره وبأسلوب فوقي يتسم بالعصبية، وعندما سمع ما لا ينسجم مع توقعاته تخلى عما جاء من اجله في مدة لا تتجاوز ربع ساعة. والاسوأ، انه غادر بدون ان يسلم او يودع من جاء يحاورهم ناهيك تنويرهم بمستجدات الاحداث وهو ابسط الواجبات.
من باب التأكد، سألت الصديق صالح بشير عن انطباعه ازاء هذا الموضوع بعد الحديث القصير الفاتر جدا الذي دار بينه وبين الاستاذ محمد عمر قاضي قبيل خروجه. فذكر لي انه بالفعل كان يحمل عرضا، وكان ينوي، قبل طرحه على المجموعة، مناقشته معه، بحكم العلاقة بينهما، ولكنه تسرع في توقيت طرحه وانهاء مهمته لأنه مندفع بطبيعته. من المفارقات العجيبة، التقى الاثنان في الخرطوم بعد مرور نحو ثمانية اعوام من هذا التاريخ اذ تمكنت الجبهة الشعبية من اخراج الاستاذ محمد عمر قاضي من اسمرا تقريبا في ذات الاسبوع الذي حررنا فيه جيش التحرير الارتري من سجني عدي خوالا واسمرا في يوم واحد. السذج فقط هم من يصدق ان العدو يكون صديقا مهما خدمته وقدمت له من ولاء.
حسب العرف الذي اصبح قانونا لما تقتضيه المصلحة، كنا ندفع ضريبة الدخل الى الشاوشية والحراس فور استلام ما يحضره الاهل قليلا كان او كثيرا. وبالكاد وصلنا احد الايام الى العنبر ومددنا ايدينا لتناول لقمة حتى داهمنا بعض الحراس في حالة من التوتر للسؤال عن هوية الاشخاص الذين زارونا وعما احضره كل منهم بالضبط. تبين لنا من سير الحديث مع المدير ان الشاويش الذي اعطيناه بعض الطعام قبل اقل من ساعة سقط ميتا وانهم يعتقدون انه مات مسموما. فبدأ كل منا يتحسس نفسه وزملاءه اذا شعروا او ظهرت عليهم اية اعراض، واخبرنا المدير اننا نخشى ان يكون البعض ممن اعطيناهم شئيا الا يكونوا قد اكلوه فأسرعنا الى العنبر لنجدهم بخير وقد التهموا كل شيء، وقضينا مساءنا نراقب حالتنا الى ان انقضى اليوم بسلام. لم تثبت التحقيقات والفحوصات الاولية وفاته بسبب تناوله مادة مسمومة، الا اننا لم نسقط الاحتمال عن بالنا فاتخذنا بعض الاجراءات منها حث العوائل على اليقظة.
لأول مرة مضت علينا بضعة اسابيع عجاف لم يزرنا فيها احد، وكان الزائر الاول والوحيد بعدها سيدة طلبتني وحدي دون البقية عكس ما تعودنا عليه، لم اعرفها حتى قال لي الابن جمال عبد القادر بدير الذي رافقها، وكان دون العاشرة، انها الخالة بخيتة عبد الله، سلمت عليها بحرارة وعندما شعرت انني لم اعرفها قالت انها والدة ادريس ومحمد نور وابلغتني تحيات ’الوالد‘ لم افهم المقصود ورجحت من طريقة نطقها انها من قومية الجبرتة وانا لا اعرف احدا بهذا الاسم، فقلت في نفسي انها استخدمت جمال لصغر سنه وسيلة للوصول الينا وعلى هذا استقر رأيي حتى ذهبت.
اخبرت الزملاء بما حصل وانني اشك في كونها بريئة وبالتالي ضرورة التخلص مما احضرته، وضعنا الاناء جانبا لعل الله يأتينا بخير منه، وعندما انتهت ساعة الزيارة بدأوا يطالبونني بمحاولة استحضار كل الاقارب والاسماء لعلي اتذكرها فلم افلح، وكلما نظروا الى الفتة التي يسيل لها اللعاب وفي نفس الوقت الوحيدة المتوفرة ازدادوا اصرارا، وفي الاخر قالوا ’لا يمكن ان تفكر امرأة بمثل هذه الاجادة ان تفكر في الشر، واذا فيها باسم الله تكفيها‘. قابلت هذه السيدة الخالة الوالدة بخيتة عبد الله العم محمود ادريس عمريت والد الاخوين ادريس ومحمد نور في السعودية اواخر السبعينيات واستعدنا الذكريات. رحمها الله وجزاها خيرا فقد كانت الخالة بخيتة سيدة فاضلة.
لم يستطع المقدم بلطي التخلص من عقدته تجاهنا حتى ينسانا، فاستدعانا ذات يوم الى مكتب المدير. اعتقدنا ان حديثه سيتعلق بمحاولة الاستاذ محمد عمر قاضي الفاشلة وربط رفضنا السريع والحاسم برفض مماثل من الجبهة واعتبار هذا دليلا على وجود تواصل او تنسيق بيننا، او سيتعلق بإعدام الجبهة العميل محمد عبد الله في نفس الفترة بعد ان تسبب في اعتقالنا ومصادرة كمية اسلحة. لم يتطرق لا الى هذا ولا الى ذاك مكتفيا بالقول متحسرا ’فعلا انكم افلتم، لقد عرفنا ما كنتم تنوون القيام به - كنتم تخططون لتنفيذ تفجيرات داخل القاعدة البحرية في يوم عيدها‘. لما لم يجد من يرد عليه انصرف، وحتى هو لم يكن يتوقع ان يسمع شيئا.
درجت القاعدة البحرية على اقامة عيد لها في مدينة مصوع يحضره الامبراطور هيلي سلاسي ومعظم الوزراء ورجال الدولة من العسكريين والمدنيين ووفود دولية والسلك الديبلوماسي، تشارك فيه قطع حربية من الاسطول السادس الأمريكي، ومن الاساطيل البريطاني، النرويجي، السوفياتي، الإسرائيلي، الهندي مع تمثيل رمزي او غير منتظم من بعض الدول الاوربية والاسيوية وحتى من الدول المجاورة ينتهى بمناورة كبيرة تشارك فيها كل القطع وتوزع على اثرها الجوائز. في الحقيقة لم تكن هناك خطة من هذا القبيل كما زعم بلطي وان كانت هناك رغبة، وكل قاله كان مبنيا على التحاق الشهيد ابراهيم عافه وقبله الشهيد على ادريس انرعلى من القوة البحرية الى الجبهة.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.