ذكريات وتجارب - الحلقة السابعة عشرة
بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت
ذكرت في الحلقة الاخيرة اننا، وبناء على التعليمات التي نقلها الينا الزميل رمضان عثمان اولياي، قبلنا التوجه الى اغردات حسب مع
ارجائها ليومين لحين التعامل مع ظاهرة فرقة شرحبيل، ولا يعني هذا اننا تقبلناها بقلب رحب او كما يجب وذلك لشعورنا ان فيها بعض الغرابة، على كل حال تمنينا ان تتعلق ببعثة تعليمية او تدريبية مستبعدين الذهاب الى الميدان والا لأرسلتنا القيادة برا صحبة المناضل عثمان عبد الله حرك، كما ورد سابقا، بدلا من هذه المجازفة. غادرنا (حسن حمد امير، عثمان عبد المنان، رمضان عثمان اولياي وانا) الى اسمرا حيث التقينا بدليلنا الزميل حمدو محمد قعص الذي علمنا منه اننا فعلا في طريقنا الى من اغردات ومنها الى الميدان للانضمام الى القوة المتجهة الى المنطقة الرابعة (البحر الاحمر) بعد ان رفض معظم جنودها من ابناء المنطقة الغربية الذين يشكلون غالبيتها التوجه الى هناك بحجة تحريرهم منطقتهم وعلى الاخرين القيام بنفس الشيء مع العلم ان الجيش الذي حرر منطقة بركة، اذا صح التعبير، كان خليطا من كل المناطق والقوميات الارترية. بلا شك شعرنا بخيبة امل كبيرة بل بصدمة لم تخطر ببالنا مع اننا كنا نعرف انه كانت هناك خلافات او منافسات بين القيادات السياسية لم تخل من نزعات اقليمية حتى بلغت درجة تصويب الشهيد طاهر سالم مسدسه الى الزعيم عثمان سبي في اجتماع واشياء صغيرة من هذا القبيل هنا وهناك ولكننا لم نتوقع ان تنحدر العلاقات الى هذا المستوى، وبصرف النظر عن هذا ماذا عسى تغير اضافة اربعة اشخاص غير مدربين في ميزان القوة الا اذا تبعتها دفعات مماثلة تسد العجز الامر الذي يستغرق زمنا طويلا، وحتى نخرج من التحليلات التي لا تنتهي انشغلنا بما قد نتعرض له في رحلتنا هذه.
تخلف حمدو في اسمرا لمهمة طارئة على ان يلحق بنا في الباص الثاني. وصلنا اغردات على باص الساعة الخامسة والنصف وكان من المقرر ان يستقبلنا شخص من قبل القيادة يسحبنا فورا حتى لا نلفت الانظار. تريثنا في المحطة لبعض الوقت ولكننا ومع انصراف معظم الركاب أخذنا نتحرك ونحوم حوالي المحطة ثم حول المنطقة المجاورة لعلنا نقابل من يبحث عنا ولكن بلا جدوى ما اثار شكوكا ان يكون هذا التجاهل متعمدا وانعكاسا للمواقف التي تحصل في الميدان. ومع اسدال الظلام ستاره وانخفاض نسبة الحركة في الشارع نتيجة حالة منع التجول المفروضة على المدينة، اصبحنا مكشوفين بل عرضة للمساءلة كأشخاص غرباء، فما كان امامنا سوى الافتراق كل اثنين معا. ذهب حسن وعثمان باتجاه وانا ورمضان في اتجاه اخر، وبعد ان فقدنا الامل وشعرنا بالخطر ارتأينا اللجوء الى احد الفنادق بالرغم من علمنا انها تخضع للمراقبة وتقدم لها بيانات نزلائها الى المباحث صباح كل يوم بشكل روتيني وما يترتب على هذا من محاذير.
وفي الصباح وبينما نبحث عن زميلينا وعمن يبحث عنا او يدلنا الى مكان القيادة، لاحظنا شخصا يغمز لنا بطرف عينه ويؤشر بخيزرانة في يده وكأنه يوحي لنا لكي نتبعه، كان طويل القامة اسمر اللون تعلو رأسه عمامة من الحجم الكبير على النمط السوداني ويرتدي ملابس ناصعة البياض وصدرية سوداء. بدا لنا انه رسول من قبل اللجنة فاقتفينا اثره، ومما زادنا قناعتنا انه كان كلما اقتربنا منه يسرع وكلما ابطأنا ابطأ وكأنه يريد ترك مسافة بيننا حتى لا يلاحظه احد، وهكذا بدون ان ندري وجدنا انفسنا داخل السوق. كانت الساعة حوالي العاشرة صباحا وسماء السوق مغطية بالدخان ورائحة المشويات تسد الانوف ذكرتنا برائحة السمك في سوق هتيكة في عداقة بعيد الغروب. كانت هذه اول مرة نشاهد فيها تناول اللحم في وجبة الفطور. توقف الرجل مع اناس يعرفهم واستغرق حديثه معهم زمنا طويلا فأخذنا نتنقل من دكان الى اخر متظاهرين بالتسوق، وبالصدفة توقفنا امام دكان كان فيه الاخ عبد الله طاهر سبى من ابناء حرقيقو قريبي وفي نفس الوقت جاري.
فوجئ برؤيتنا بقدر ما فوجئنا به حيث لم نعرف انه يعيش في اغردات. بادرنا بنبرة مشوبة بالقلق عن سبب تواجدنا في المدينة، ولم يصدق عندما قلنا له اننا في زيارة سياحة. فسالنا اذا ما صادفنا حامد ود شيخ، اخبرناه اننا لا نعرف احدا، وكان وصفه لنا مطابقا لصاحبنا الذي نلاحقه لأكثر من ساعة، ومن باب التأكيد أشرنا له اليه وسألناه ان كان هو من المقصود، قال ’نعم هو بعينه.. انه حامد ود شيخ انه جاسوس خطير‘. خيبة امل جديدة.
كان حامد ود شيخ هذا قد تعرض قبل اسبوع تقريبا لمحاولة اغتيال فاشلة بقنبلة رميت عليه وهو يصلى الفجر في بيته الا انها لم تنفجر. التقيت في السجن لاحقا بالشخص الذي اتهم بالمحاولة يدعى علي قولاي وكان رجلا مسنا بدينا جدا بالكاد يمشي ناهيك ان يلقي قنبلة ويجري. تم تعذيبه لفترة طويلة لحمله على الاعتراف بانه قام بإلقاء القنبلة وهو في طريقه الى المسجد لأداء صلاة الفجر مع انه لم يكن للمباحث دليل او شاهد واحد رآه في الطريق او المسجد، ومع هذا حولته الى المحكمة التي استدعت ابنته القاصر للشهادة ثم حاولت استدراجها بسؤالها عما اذا كانت يقظة عندما ذهب والدها الى المسجد لأداء صلاة الفجر في ذلك اليوم، وكان ردها انها لم تره ولو لمرة واحدة يسجد حتى في البيت. فكان يعتز بشهادتها ويقول ’لله در ابنتي فاطمة (لست متأكدا من اسمها) فقد افحمت المحكمة واكدت ان اباها لم ينبطح ولو لمرة واحدة!‘ تم اطلاق سراحه بعد ان قضى في السجن نحو سنتين.
في مناسبة معينة في ملبورن ذكرت قصة على قولاي للأستاذ محمد احمد نور وسألته ان كان يعرفه فضحك الاستاذ محمد احمد بملء فيه وقال انه يعرفه معرفة وثيقة بل تربطه به علاقة وطيدة وانه كان رجلا غريب الاطوار والاحوال لغزا حير الكثيرين، شجاعا، سريع البديهة، فصيحا، شاعرا، ساحرا وكريما. فيما يتعلق بعلاقته بالصلاة ذكر الاستاذ محمد احمد ان علي قولاي كان شرطيا في البوليس وخرجت مجموعته ذات مرة في مهمة استطلاع في مناطق تتحرك فيها مجموعات من قطاع الطرق، وكان بين افراد الشرطة شخص من قومية الساهو يقيم الاذان لكل صلاة بما في ذلك صلاة الفجر وعلي قولاي لا يصلي ولا يحب ان يزعجه احد في الصباح، ولهذا شكا المؤذن الى المسئول بحجة ان اذانه يكشف مكان الشرطة للعدو ويعرضها للخطر، فمنع المسئول اقامة الاذان في صلاة الفجر فغضب المؤذن وشكا علي قولاي الى احد المشايخ في المدينة وكان ايضا من قومية الساهو فأفتى بتطليق زوجته منه الى ان يتوب، وظل الشيخ يبحث عنه الى ان سمع اسمه في مكان عام فتقدم اليه وسأله بحدة ان كان الشرطي علي قولاي ولما رد عليه بالإيجاب سأله ان كان متزوجا وهنا ادرك علي قولاي الغاية من السؤال فقال له ’كنت متزوجا!‘، فذهب الشيخ منكسر الخاطر وبقى هو في مكانه يضحك.
وفي احدى المناسبات انشد علي قولاي في مكان عام قصيدة يهجو فيها ممثل الامبراطور اسراتي كاسا هجاء مقذعا حتى بلغ خبره اسراتي كاسا فاستدعاه اليه وسأله ان كان حقا نظم فيه قصيدة فقال له ’ نعم وهذا اقل واجب تجاهكم‘ فطلب منه ان يسمعه اياها فارتجل قصيدة بليغة اهتز لها وجدان اسراتي كاسا طربا وامر له بمبلغ مجزي وفي نفس الوقت عنف الوشاة الذين نقلوا اليه خبرا كاذبا، اما علي قولاي فقد قاسمهم مما حصل عليه نظير خدمتهم له!
اما من ناحية السحر والشعوذة والتواصل مع الجن، قال الاستاذ محمد احمد ان علي قولاي اهداه ذات مرة زجاجة عطر فاخر لم يمر عليه مثله من قبل، وعندما انتهى العطر سأله عن عنوان المحل الذي اشتراه منه، فرد عليه ان الجماعة (الجن) جلبوها من شنطة امير سعودي كان قد اشتراها من متجر في جنيف. ليس هذا فحسب، بل انه كان يملك سيارة محترمة وسائق خاص وفي جيبه مبالغ كبيرة من الدولارات وقطع من ذهب يوزع منها يمينا وشمالا مع ان مصدر دخله الوحيد كان راتب المعاش الذي لا يفي بمتطلبات الحياة، ولهذا كثيرا ما كانت تعتقله المباحث تارة بتهمة تزوير عملة وتهريبها واخرى بتهمة اقتناء مجوهرات مجهولة المصدر الا ان وظلت المحكمة تبرئ ساحته لعدم توافر جناية يعاقب عليها القانون. لهذا يمكن القول ان وراء اتهامه بمحاولة اغتيال حامد ود شيخ في ذلك اليوم اسباب لا علاقة لها بالسياسة.
كان هذا بشأن حامد ود شيخ وغريمه المزعوم علي قولاي، اما فيما يخصنا، بمجرد ان سمعنا كلام الاخ عبد الله سبي عن حامد ود شيخ، تراجعنا بهدوء القهقري الى ان دخلنا اول مفترق شارع ولحسن الحظ صادفنا فيه الزميل حمدو محمد والزميلين عثمان وحسن كانوا يبحثون عنا حيث التقوا بعد افتراقنا في اليوم السابق. اوصلنا الزميل حمدو الى دكان في حي اسمه تبة سكر يملكه شخص يدعى محمد ابراهيم ليمان، وفي غرفة صغيرة ملحقة بالدكان قضينا نحو اسبوع فريسة للشكوك وسوء الظن بسبب عدم وجود من نسأله من المسئولين. التقيت بالأخ المناضل محمد ليمان في ملبورن في استراليا منذ بضعة اعوام استعدنا خلالها بعض الذكريات وذكر لي انه كان مسئول الامن في لجنة المدينة وان دكانه هذا كان معبرا لكل من طاردته الحكومة من العناصر الوطنية او كان في طريقه الى الميدان.
لربما بسبب طول فترة الاقامة في محل ضيق، تم نقلنا الى منزل الاخ المناضل ادالا شهابي حيث شعرنا بنوع من الارتياح النفسي والاطمئنان بعد ان اصبحنا في ايدي امينة لان عائلة شهابي اصلها من البحر الاحمر!، وما طمأننا اكثر رؤية قميص معلق مطابق لقميص كان يلبسه الزميل عبده عثمان ادم وكان مميزا، فاستفسرنا عنه من الاخ ادالا وفعلا كان تخميننا ا صحيحا. كان عبد القادر عثمان ادم ضمن مجموعة سافرت قبلنا، كما ورد سابقا، تكونت منه ومن حامد شيخ عثمان شيخ محمد نور، عثمان قفيلا، على محمد عمر حسن حسب الله ويوسف محمد توكل.
بعد فترة انتظار اخرى استمرت لأكثر من اسبوع، طلب منا بعض المسئولين، اعتقد انه كان رئيس اللجنة الشهيد صالح محمد سعيد، الاستعداد للعودة ادراجنا بطلب من قيادة في مصوع. كان هذا الاستدعاء نتيجة تلقي القيادة عن طريق مكتب جدة معلومات تفيد بتحرك القوات من مواقعها وانها في طريقها الى المنطقة. في الحقيقة، وصلت هذه المعلومات متأخرة جدا، فقد ارسلت قبيل تحركها قبل اكثر من اسبوعين شخصا يبلغ القيادة في مصوع بهذه المعلومات الا انه اعتقل فور وصوله مصوع بعد تعرف عليه شخص كان يعرفه في كسلا و سلم نفسه للعدو ولهذا لم تكن القيادة على علم بالمستجدات عندما طلبت توجهنا الى اغردات. والاسوأ من هذا لم تعلم القيادة بدخول القوات في معارك ضارية متتالية مع العدو وانها فقدت العديد من القيادة والكوادر الا بعد وصولنا الى اسمرا. وافادت المعلومات الاولية التي وصلت، ان معظم القيادات بمن فيهم قائد المنطقة الرابعة المناضل محمد علي عمرو استشهدوا وان من تبقى منها قد تشتت تماما نتيجة انسحابات عشوائية. الا ان العم محمد علي احمد كيكيا الذي شاهد جثث الشهداء التي علقت في اغردات تعرف على بعضهم وعرف عددهم والظروف التي واجهتم.
وعلى ضوء هذه المعلومات قررت القيادة ارسال عيون لتقصي الاخبار واسعاف من تبقى من القوات وتجميع من تشتت منها ودخل المدن في اماكن امنة قبل ان يصل اليهم العدو، ولهذا أرسلت جمالا محملة بمؤن وبعض المواد والادوات اللازمة الى الطرق التي كان من المتوقع ان تسلكها القوات، وطلبت من كل اللجان في المدن اعداد مقرات امنة لإيواء من تسللوا الى المدن وعلاج الجرحى منهم. عاد كل الزملاء ومعهم الزميل علي سيد عبد الله الى مصوع للمساعدة في هذا الصدد بينما نزلت انا في قندع لنفس الغاية لعلي اتعرف على جنود يكونون قد دخلوا المدينة، وكانت لجنة قندع المكونة من الكفالييري عمر سفاف، الحاج احمد شري، والحاج بكري صايغ والدكتور احمدين محمد حمد الملقب ب ’حمو‘ قد اعدت مقرا وادوية لهذه الغاية. وللأسف، استفاد العدو من عامل الزمن وتمكن من القاء القبض على عدد كبير من المقاتلين وخصوصا من الضواحي وخصوصا منطقة عد شوما قابلتهم في السجن فيما بعد.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.