ذكريات وتجارب - الحلقة السبعون
بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت
لم نخرج من مقر المقاتلين في هذا الوقت المبكر من الصباح تفاديا للإحراج من قبل مسؤولين فحسب، بل ولأننا كنا نتضور جوعا.
سرنا خلف اناس قالوا انهم ذاهبون الى السوق، وصلنا وبالكاد قد دبت فيه الحركة واخذنا مقاعدنا في احد المطاعم.
صدمنا العامل عندما قال ان الفطار لا يبدأ قبل الساعة العاشرة ثم هدأنا عندما اضاف ان كل ما لديهم ”زلابيا“. حتى انا لم اسمع بهذا الاسم ناهيك زملائي الذين كان صم بكم بسبب اللغة، طلبنا بعددنا اربعة لنفاجا انها ”مقلية“ او ”لقمة“ او ”لقمة القاضي“ كما نسميها في حرقيقو، فطلبنا عشرة لكل واحد ثم زدنا مثلها. زلابيا في السودان عبارة عن مهدئ لحين حلول ساعة الفطار اما ا عندنا فهي وجبة فطار كاملة.
من حسن الطالع، دخل المطعم شخص وعندما رآنا شعث غبر ادرك اننا غرباء في المدينة بل وقادمين من الميدان فانضم الينا واخذ يتجاذب معنا بعض الاحاديث وبهذا ادركنا انه ارتري وان له دراية او علاقة بالجبهة فشكونا له عن حالنا واننا مقطوعي السبل، فأشار الينا بالذهاب الى المكتب العسكري لعله يساعدنا ودلنا على موقعه. كان مسئول المكتب محمد ادم بدوي (جبداي) شرحت له وضعي بدون الاشارة الى زملائي حتى لا يجد مبررا للاعتذار. قال ان مهمته تنفيذ توجيهات الميدان فقط، ونصحني بالعودة الى الميدان وإحضار خطاب او توجيه، ما لم يكن واردا في حساباتنا.
كان معه اثناء الحديث العم احمد دنكلي، استمع الى كل ما دار بيننا وعندما هممت بالخروج رقّ لحالي قلبه وعرض على ان يستضيفني في بيته الى ان احدد وجهتي. لم تكن بيننا اية صلة او معرفة حتى لم اسمع به وكان عضو اللجنة الشعبية للجبهة. سألني في البيت عن هوية زملائي الاربعة حيث رآنا معا قبل الحضور الى المكتب وبعده، استغليت الفرصة ورويت له قصتنا بالكامل وان كل ما يحتاجون اليه حاليا مكان يستظلون فيه وقت الظهيرة اما في المساء فيكن ان يتسللوا الى بيت المقاتلين. ادرك العم احمد قصدي فوافق بطيب خاطر وبموافقـة ابنيه عبد الرحمن وعمر على ان يأتوا الى المنزل. وكان كل همنا في هذا الوقت ايجاد حل قبل ان نستنفد ما تبقى من المائة جنيه.
عندما عدت الى جبداي للمرة الثالثة لم يكن يقل جديدا سوى انه سألني اذا كنت لا امانع في اقامة ندوات تنويرية لجماهير كسلا اشرح فيها كيفية اقتحام سجن عدي خوالا وبالأحرى اؤكد فيها ان الجبهة هي من قام بالعملية وليست الشعبية، فوافقت على طلبه بلا أي تردد ايمانا ان ما اقوم به اقل الواجبات الاخلاقية تجاه جنود جازفوا بحياتهم في سبيل إنقاذنا.
كانت جماهير الجبهة في هذه الآونة تعيش نوعا من الارهاصات السياسية والتنظيمية بسبب تناقض الاخبار الواردة من الميدان، فقد كان من السهل ادراك حالة التشوش والارتباك السائدة واحتدام صراع بين اجنحة يحاول كل منها تمرير اسماء عناصرها للتمثيل في المؤتمر، فضلا عن مغادرة كوادر معروفة الميدان في حين يتدافع اليه اخرون اليه ولكل منهم مبرره، واماكن معروفة لكل تجمع او جناح، والاجواء العامة غير مطمئنة.
ومن ناحية اخرى، ففي الوقت الذي كانت تعقد فيه قيادات الجبهة اجتماعاتها في الميدان استعدادا للمؤتمر كان الزعيم عثمان سبي يحول التطورات المتلاحقة في الساحة الى عناوين اخبارية ومكاسب سياسية وضعت القضية الارترية في مقدمة الاحداث العالمية. ومما عزز بروز القضية الارترية وشهرة عثمان حتى اعتبرته بعض وكالات الانباء العالمية الناطق الرسمي باسم الثورة الارترية، ارسال المجلس العسكري الاثيوبي المؤقت وفد سياسي كبير الى كافة الدول العربية يحمل مشروع سلام لحل القضية الارترية، ومشاريع صداقة وتعاون تكون اساسا للتكامل معها في كافة المجالات في استراتيجية واضحة لتجريد الثورة الارترية من التعاطف العربي الهش اصلا. كان هذا الوفد برئاسة رئيس الوزراء الامير ميكائيل أمرو - ابن عم الامبراطور هيلي سلاسي – ويضم في عضويته عدة شخصيات اسلامية بارزة بعضها من اصول يمنية.
استمر الماراثون المحموم بين عثمان والوفد الاثيوبي لنحو شهر، فما كان يغادر الوفد دولة والا حل بها عثمان، واحيانا وصلها قبله اما العراق فقد وصلاه في نفس اليوم. من المفارقات المثيرة، كان العراق اكثر هذه الدول اهتماما بحجم الوفد وتركيبته الاثنية والدينية واكثر استعدادا للتعامل مع المبادرة التي يحملها، بدليل انهم اقترحوا على عثمان عقد لقاء اولي مع الوفد الاثيوبي والاستماع الى ما يحمله الا انه رفض مبادرتهم بشكل قاطع وكانوا قد حاولوا وضعه امام الامر الواقع عندما تناولت بعض الوكالات نقلا عن مسؤولين عراقيين ان اللقاء بين الطرفين قد تم فعلا ما نفاه عثمان فورا وبشدة. ولهذا، عندما عقدت بعض القيادات الحزبية العليا اجتماعا مع عثمان بعد مغادرة الوفد الاثيوبي، عبرت له عن امتعاضها لرفضه وساطتها، وبلغ الحنق ببعضها حد القول ان الاثيوبيين اكثر عروبة من الارتريين شكلا ولغة، فما كان من عثمان الا قال لهم ان القيادة الارترية لم تقل لهم يوما ان الشعب الارتري شعب عربي بقدر ما قالت انه شعب افريقي ذو ثقافة عربية وانهم مع هذا حاولوا بلا جدوى خلق حزب بعثي ارتري.
ومما سمعته من عثمان فيما بعد، انه توقع المبادرة العراقية منذ ان تم انزاله في نفس الفندق مع الوفد الاثيوبي، وانه لم يعترض على هذا املا في ان يستغل تواجده معهم في نفس المطعم والصالة للتنصت على احاديثهم بحكم اجادته اللغة الامهرية وهم له منكرون.
هكذا كان المشهد الاعلامي العالمي الذي ظلت تتابعه الجماهير على مدار الساعة عبر هيئة الاذاعة البريطانية واذاعة صوت امريكا واذاعة مونتو كارلو لأكثر من شهرين. فبينما كان البعض من جماهير الجبهة يعتبر ما قام به عثمان انجازا وطنيا بصرف النظر عن اختلافهم السياسي معه، كان هناك اربك الجماهير حيث اعتبر ما حدث دليلا على فشل قيادة الجبهة والتشكيك في كل ما كان ما يصدر عنها.
ولربما لهذا السبب اعتقد جبداي عندما دعاني للمشاركة في عقد الندوات ان ما سأقوله سيحظى بمصداقية امام الجماهير طالما جاء على لسان شاهد من ”اهلها“!
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.