ذكريات وتجارب - الحلقة السابعة والخمسون
بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت
من المؤشرات التي دلت على اطمئنان الادارة على سلمية السياسيين وحسن سلوكهم، انها استبدلت رئيس العنبر الذي عينته عندما
جمعتهم في هذا العنبر قبل شهر تقريبا من مجيئي بآخر سياسي وهو المناضل يوسف عمر حسب الله من ابناء مدينة تسني. على كل حال، لا تختلف مهام وواجبات رئيس العنبر عما كانت في سجن اسمرا الا في ناحيتين اضافيتين لا تتوفران في اسمرا. الاولى، حصر اسماء من يرغبون في الذهاب الى المستودع لأخذ شيء من مقتنياتهم وغالبا لا تكون اكثر من قطعة صابون او ملابس داخلية وبعضهم لمجرد الفسحة لدقائق، والعملية الثانية تنظيم عملية الحلاقة حيث يحلق للسجين بسكين الا لمن لديه اعفاء من دكتور (ممرض) او تصريح من ضابط وحتى من شاويش وفي هذه الحالة يحلق له بموسى. بما ان هذه العملية الشهرية مستمرة من ناحية، وعدم وجود أي عذر من ناحية اخرى كنت ممن يبادرون للحلاقة بسكين مع العلم ان هذا التصرف كان يغيظ بعض المسؤولين الذين يعتبرون عدم استعطافهم والتملق لهم للإعفاء نوعا من المكابرة.
مما لا شك فيه ان الكبت وطول الفراغ مع انعدم أي نشاط ذهني او بدني كما هو حالنا يؤديان الى القلق والاكتئاب بمختلف اعراضها، ولهذا لم يكن مستغربا ان يكون هناك بيننا شخص ينطوي على نفسه واخر سريع الاثارة والانفعال لأتفه الاسباب. فعلى سبيل المثال، بينما يقوم معظم المساجين بتنظيف مراقدهم وتعريض كل ما لديهم من فرش وبطانيات للشمس بشكل اسبوعي او اسبوعين بغية التخلص من القمل والبراغيث كان هناك من لا يعبأ بتأثيرات هذه المشكلة ولا يقبل مساعدة مجاوريه المتضررين منه الا بعد تحايل واسترضاء وهذا ان قبل.
اما بالنسبة للصنف الثاني، فقد قيل لاحدهم ذات مرة اثناء توزيع الطعام في المساء، ومن باب المزاح، ان قطعة اللحم التي صرفت له صغيرة، فما ان سمع هذا التعليق حتى طار بصحنه نحو الشاويش المشرف ولكنه كان قد خرج واقفل الباب ما زاده حنقا، فنادى الرقيب المناوب فقيل له انه لن يكون هناك من يستمع الى شكواه الا في الغد. احتفظ الزميل بلحمته كما هي وفي اليوم التالي باشر نضاله من اجل استرداد حقه المسلوب بدء من الشكوى الى الرقيب الاول الى ان وصل الى الضابط المناوب. توقع الضابط ان تكون الشكوى على مستوى شخصية الزميل واذا به يصدم، فحاول ان يجد لنفسه وللزميل مخرجا فقال له بلطف ’من حقك ان تطالب بحقك، فلو كانت اللحمة موجودة لقمنا بوزنها وتأكدنا من صحة ما تزعم، اما وقد فات الاون... ‘ وقبل ان يكمل كلامه فاجأه الزميل الضابط بإخراج اللحمة من جيبه وهي ملفوفة في ورقة، فذهل الضابط ولم يعرف كيف يتصرف او يرد فأضطر الى إحضار ميزان صغير وعندما وزنت، بالطبع، كانت اقل من وزنها المفترض الامر الذي عزاه الضابط الى الجفاف الذي اصاب اللحمة لأكثر من اثنتي عشر ساعة.
ولم يكن خافيا على احد انه لا يمكن تفادي مثل هذه الحالات والاعراض الا من خلال قوة معنوية ذاتية متجددة وهذه لا تتوفر في كل انسان او خارجية مستمدة وهذه غير متوفرة للجميع حيث المادة المقروءة الوحيدة كانت عدد من المصاحف والانجيل فقط، وحتى هذه لم يستفاد منها كثيرا بسبب ارتفاع نسبة الامية. فعندما علمت ان زملاءنا في العنابر الاخرى يتعلمون الكتابة والقراءة وحل المسائل الحسابية بالكاتبة على افخاذهم بعود مسنن حتى تقشرت جلود بعضهم بعد ان تعذر عليهم الكتابة على الارض بسبب الحصى الذي يمنع ازاحة ولو سنتمتر منها، راقتني الفكرة وعرضتها على بعض الزملاء، قبلها بعضهم من باب المجاملة بينما افتى الاخرون ان كشف الفخذ حرام مع انه اصلا مكشوفة بسبب قصر السراويل، فاستسلمت للأمر الواقع حتى خطر ببالي ما كان يجب التفكير فيه منذ البداية.
ذهبت مع مجموعة من الزملاء الى المستودع بقصد الاستطلاع وهناك اخذت اقلب محتوى كرتون جلبته معي من سجن اديس ابابا حيث يسمح دخول الكتب بدون قيد او شرط. رآني مساعد امين المستودع وكان من المساجين القدامى، نسيت اسمه، مترددا بين ان كتابا كنت ممسكا به ام اعيده الى مكانه، فسألني ان كنت اريد اخذه، وعندما رددت عليه بالإجاب طلب مني وضعه جانبا على ان يحضره لي فيما بعد. استنتجت من سرعة تجاوبه ان الامر لم يكن بالاستحالة التي كنت اتصورها، ولاحظت في نفس الوقت ان امين المستودع الشاويش عطا محمد يمزح وينكت مع المساجين وكأنه احدهم، وعندما رد على سلامي بحرارة وكأنه يعرفني تشجعت واقتربت منه اكثر وسألته ان كان مسموحا اخذ كتاب. كل ما قاله لي ان آتي في يوم اخر وحدي وآخذ ما اريد بدون ان أسأله وانه سيخبر مساعده للتعاون معي! للأسف كل ما وجدته في الكرتون قلم ودفترين فقط، وبهما انشأنا أول فصل شارك فيه من الزملاء، على سبيل المثال، محمد محمود عبد الله، محمود بوبكر، احمد حامد شلع، حامد بئمنت، محمد عندو محمود احمد (منسعاي).
وشيئا فشيئا فرجت. ربما كان بعد اسبوع او اسبوعين من هذا التاريخ عندما دخل علينا حوالي الساعة الثالثة عصرا ونحن جلوس في الساحة احد الحراس وخلفه رجل ابيض واخر ارتري، تبادل معنا السلام ثم وقف تحت شجرة تتوسط الساحة، عندئذ اخبرنا الحارس ان اسمه الدكتور شافنر وهو رئيس البعثة الانجيلية السويسرية في عدي خوالا Swiss Evangelical Nile Mission وانه جاء لإعطاء وعظنا. ومنذ هذه الحلقة نشأت بيننا علاقة امتدت لخمس سنوات قدم لي خلالها خدمات مقدرة، في نصفها الاول وهو يعتقد انني مسيحي بل وبروتستانتي متزمت وفي نصفها الثاني وهو يعلم انني مسلم ولكن قابل ان اكون بروتستانتيا صالحا. بدلا من الحديث عن علاقتنا، افضل اعطاء خلفية عن مؤسس الكنيسة التي ينتمي اليها حتى يسهل على القارئ الكريم فهم ما ورد في أدبياتها من مخططات تعود الى ما قبل خمسين عاما.
تنتمي هذه الكنيسة الى رابطة بيلي غراهام الإنجيلية التي أسسها أبرز وجوه اليمين المسيحي الصهيوني في أميركا الإنجيلي الأميركي بيلي غراهام عام 1950 وتولى رئاستها حتى تاريخ وفاته في الشهر الماضي 2018/2/22 عن عمر ناهز 99 عاما. وقد اشتهر غراهام مع ابنه فرانكلين طوال العقود السابقة بسبب هجماتهما على الإسلام، ونعاه تلميذه الرئيس الامريكي الحالي دونالد ترمب في تغريده قائلا "مات بيلي غراهام العظيم، وانه لم يكن هناك أحد مثله، وسوف يفتقده المسيحيون ومعتنقو جميع الأديان. إنه رجل استثنائي للغاية" وأمر يوم تشييعه بتنكيس الأعلام في البيت الأبيض ومبان ومنشآت حكومية أخرى.
كان غراهام فعليا قس البيت الأبيض لعدد من الرؤساء الأميركيين ابتداء من ريتشارد نيكسون. وبرز اكثر في عهد جورج بوش الاب والابن ومن ابرز تلاميذه ديك شيني نائب الرئيس ورامسفيلد وزير الدفاع اللذين كانا وراء تدمير العراق وافغانستان، وعلى وشك ان يكمل تلميذه الرئيس الامريكي الحالي ترامب ما تبقى من الخطة. ويخلف بيلي غراهام ابنُه فرانكلين الذي طالما تهجم على الإسلام. وقد كتب في صفحته على فيسبوك أن على السياسيين أن يتوقفوا عن وصف الإسلام "بدين السلام". كما وصف هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 في الولايات المتحدة بأنها مستوحاة من الإسلام. وقال حينذاك "إننا لا نهاجم الإسلام لكنه يهاجمنا. إن رب الإسلام وربنا ليسا واحدا. إن ربهم ليس ابن الله المعروف في المسيحية واليهودية المسيحية، إنه إله آخر، وإنني أعتقد أن الإسلام دين شرير جدا وحاقد".
ومن المصادفات الطيبة، زارتني في الاسبوع التالي للقاء مع الدكتور شافنر عائلة ليست لي بها علاقة او معرفة الا وهي عائلة الاخ الفاضل عثمان محمد ادم محمود وزوجته الاخت الفاضلة اسيا سعد عبد المناف من قبائل الرقبات في المنطقة الغربية. كان عثمان يعمل في هذا الوقت في قسم حماية الغابات بوزارة الزراعة في مدينة عدي خوالا. شاهدت الاخت اسيا ذات مرة وهي ذاهبة الى السوق امرأة تبدو غريبة جالسة لوحدها بالقرب من السجن، وعندما وجدتها اثناء عودتها في نفس المكان تحت شمس حارقة، رق لها قلبها فمالت اليها وسألتها عن حالها وعرفت منها انها جاءت لزيارة زوجها ولكن في اليوم الخطأ وانها تنتظر لعل الله يسخرهم ويسمحون لها بمقابلته. فتأسفت لحالها واخذتها الى منزلها القريب حتى ترتاح قليلا.
وفي المنزل عرفت الاخت اسيا عن نفسها وعائلتها وعرفت ان هذه السيدة اسمها عائشة (محمد) اشكح من كرن وزوجها صالح جابر وراك من مصوع المحكوم عليه بعشرين عاما في قضية سياسية، فتأسفت آسيا اكثر وقالت لها ’يا اختي ان اباكم ناضل وسجن في قضية تهمنا كلنا وبالتالي هو ابونا كما هو ابوكم ولهذا لا نقبل ان تتحملي مشاق السفر المادي والجسماني من مصوع لزيارته ونحن على بعد امتار منه، وعليه نحن مستعدون للقيام بكل نستطيع، ان لم يكن بمالنا حيث ظروفنا المادية صعبة جدا كما ترين، فعلى الاقل بمالكم ‘ ومن ذلك اليوم تولت هذه العائلة الفاضلة امر الاخ صالح حتى يوم اعادته الى سجن اسمرا في نفس الاسبوع الذي انتقلت فيه انا الى سجن عدي خالا. وربما علمت بوجودي في هذا السجن من الاخ صالح في زيارتها الاخيرة. وابتداء من هذه الزيارة استمرت العلاقة والتعاون بيننا والتنسيق مع الدكتور شافنر لخمس سنوات وتحديد الى يوم تحرير المساجين وهروب شعب عدي خوالا الى السودان من ضمنهم الدكتور شافنر والاخ عثمان وعائلته.
كل الشكر والتقدير للابن عثمان محمد نور عمريت الذين بذل جهدا كبيرا لتوفير بعض المعلومات عن هذه العائلة التي ادين لها بفضل شخصي ووطني كبير.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.