إيالة الحبشة
بقلم الأستاذ: أحمد عثمان منتاي - نجل الأستاذ عثمان منتاي مدير مدارس حرقيقو الأهلية في أوائل خمسينيات من القرن الماضي
إيالة الحبشة (اي ولاية الحبشة) هي إيالة عثمانية تطل على البحر الأحمر.
وكانت تتكون من جدة، مصوع، حرقيقو، سواكن والمناطق النائية التابعة لهم.
وفيما بعد ضُم إليهم زيلع وأرض الصومال الغربية. وفي القرن التاسع عشر ضمت هرر الواقعة حالياً في إثيوبيا.
التقسيمات الإدارية:
سنجق ابريم - سنجق سواكن - سنجق حريقيقو - سنجق مصوع - سنجق زيلع - سنجق جدة (الان مدينة جدة السعودية).
إنشاء إيالة الحبشة كان خبرا سعيدا لقد تحولت سواكن بموجب هذا القرار من مجرد مدينة على هامش الإمبراطورية العثمانية في زمن السلطان سليمان القانوني إلى عاصمة ولاية ولم تعد ثرواتها تؤخذ إلى خزانة مصر كما كان الحال في الفترة التي تسبق صدور هذا القرار.
ويرجع الفضل في هذا القرار لمجهودات القائد أوزدمير باشا الشركسي والذي يعتبر المؤسس الحقيقي لسواكن العثمانية وأحد أهم الشخصيات في التاريخ التركي ولشدة تعلق الأتراك به فيكثر بينهم إلى اليوم المتسمين باسم أوزدمير وهو اسم مركب من شقين أوز (خالص) ودمير (حديد) أي الحديد الخالص.
وأوزدمير هو شركسي من بقايا المماليك الذين كانوا يحكمون مصر ما قبل الفتح العثماني وعندما سيطر العثمانيون على مصر انضم إليهم أوزدمير باشا ودخل في طاعتهم وتجند في عسكرهم وعندما توجه الجيش العثماني إلى اليمن لفتحها زمن الوزير الأعظم سليمان باشا الخادم انضم أوزدمير باشا حيث خدم في ولاية اليمن العثمانية وترقى فيها حتى وصل إلى منصب الوالي العثماني في اليمن ولكنه دخل في صراعات كثيرة مع الباشوات ومع الأشراف الزيدية.
حيث أنه لم يكن من المقتنعين بفكرة تعايش العثمانيين مع الإمامة الزيدية وكان من الداعيين لاقتلاعها كونها مصدر للفتن والاضطرابات بينما كان الباشوات يميلون للصلح معها وهذا ما دفعه لطلب الإعفاء من ولاية اليمن من السلطان سليمان القانوني وعندما أجيب طلبه غادر اليمن بحرا إلى سواكن متجنبا طريق الحجاز لأنه كان على خلاف حاد مع شريف مكة وعندها زار مدينة سواكن لأول مرة فأعجبته المدينة وألقي في خاطره مشروع كبير وهو أن ينطلق الجهاد من هذه المدينة نحو إفريقيا.
فسافر إلى اسطنبول والتقى السلطان سليمان القانوني الذي قابله بحفاوة وعرض عليه مشروعه القائم على الجهاد في الساحل الإفريقي وفتح مملكة الحبشة التي ما فتئت تتآمر على الدولة العثمانية وتعاون البرتغال ضدها فأعجب مشروعه السلطان سليمان القانوني وزين له الوزير أحمد باشا الفكرة كونه كان يصنف من الوزراء العثمانيين المؤيدين لفكرة التوسع الإمبراطوري فوافق السلطان القانوني على تحويل سواكن عاصمة ولاية الحبشة وكتب إلى ولاة الأمصار التي بجوار سواكن أن يقوموا بإمداد أوزدمير بما يحتاجه من الجند ليحقق الفتوحات التي يريدها.
تحركت جيوش أوزدمير باشا لتفتح مناطق ما يعرف اليوم بإريتريا فسيطرت على مصوع وحرقيقوا ثم كانت الضربة الكبرى بالسيطرة على ديبرواه (جنوب مدينة أسمرة 25 كيلو متر) والتي كانت تعتبر عاصمة الإقليم الشمالي للحبشة الذي كان يعرف باسم مدري بحري وبهذه السيطرة فإن العثمانيون حرموا الحبشة من الإطلالة البحرية والمدد الذي كان يأتيها من البرتغال وأبرم تحالف مع القائد الحبشي (بحر نيغوس يشاق) الذي كان في البداية معارضا للعثمانيين وكان له دور بارز في مساعدة البرتغاليين على مقاتلة الإمام أحمد جوري (الصومالي) وكذلك في مقاومة فتوحات أوزدمير باشا.
ولكن وبسبب خلافاته مع الإمبراطور كلاوديوس الذي لم يكن يراه ملكا شرعيا فإنه تحالف مع العثمانيين والذين وفروا له المدد المالي واللوجستي ليقاوم أباطرة الحبشة المتعاقبين وفعلا لقد حول "بحر نيغوس يشاق" مجهود الفلاحين من التقراي من مقاومة العثمانيين إلى مقاومة الأباطرة الذين ينتمون إلى (الأمهرا) ولذلك فالمؤرخون الأوربيين يتهمونه أنه خائن رسخ الوجود العثماني في شرق إفريقيا وفجر حربا أهليا في بلاده لم يستفد منها سوى الأتراك.
توفي أوزدمير باشا في ساحة القتال وهو يجاهد في دباروا ثم نقل جثمانه ودفن في مدينة مصوع الإرترية وتولى الولاية من بعده ابنه الشجاع عثمان الذي كان قائدا محنكا مثل والده بل وأكثر دهاء لدرجة أن السلطان العثماني دعاه إلى اسطنبول وقام بتوليته إقليم شروان في أذربيجان وهناك حقق انتصارات مهمة لصالح الدولة حتى سمي بفاتح أذربيجان حيث ضم للدولة 300 ألف كيلو متر من الأراضي وأخمد تمرد محمد غراي بك خان التتار في القرم بالتعاون مع أخيه إسلام غراي فكافئه السلطان بتوليته منصب الصدر الأعظم والذي من خلاله حقق الانتصار الأكبر للعثمانيين على الصفويين منذ السلطان سليم الأول عندما كسر شوكة الصفويين وسيطر على عاصمتهم تبريز وصلى في مسجدها الأكبر الصلاة على الطريقة السنية في إهانة بالغة لهم.
أوزدمير ونجله عثمان كانا أصحاب البصمة الأوضح في تاريخ مدينة سواكن العسكري وبانقضاء فترتهما انتهى العهد الذهبي للمدينة وبدأت المدينة تعاني من مشكلات طاحنة لم يستطع الولاة الفاسدون الذين تعاقبوا على حكمها حلها فقد ساهم تحويل سواكن من مرفئ تجاري إلى قاعدة عسكرية حربية في تدمير اقتصادها حيث كانت موارد الميناء والتجارة كلها تستنزف في العمل الحربي وساهم تحول المدينة إلى عاصمة ولاية في توسعها والضغط على مواردها الطبيعية ما أفقدها الجاذبية التي كانت عليها.
فاكتظاظ المدينة وتوسعها خلق لها أزمة مياه حادة وتطلب الأمر البحث عن موارد مائية بعيدة كان عبئا أمنيا على المدينة التي أصبحت تقسم جزء من حاميتها لحماية آبار المياه وكان جنود الحامية الذين يحرسون المياه مهددين دوما باشتباك دائم مع السكان المحليين القادمين ليشربوا ويسقوا ماشيتهم بالإضافة إلى كل ذلك كانت جبهة القتال ضد الحبشة كبيرة جدا بينما عدد السكان الذين يمكن تجنيدهم قليل جدا بالنسبة لكبر مساحة جبهات القتال ووثائق الأرشيف العثماني مليء ومتخم بخطابات النجدة وطلب المدد التي كان يطلبها ولاة سواكن من إسطنبول.
حيث كانت الجبهة تستنزف منهم باستمرار الجنود وكانت كل منطقة يتم فتحها تحتاج إلى وجود عسكري عثماني (حتى لو كان رمزيا) ومع هذه الحوجة المستمرة تغيرت الاستراتيجية العثمانية من السيطرة المباشرة واحتلال مواقع العدو كما كان الحال في مناطق الشام والعراق واليمن ومصر إلى الاكتفاء بالمبايعة والطاعة وإقرار أصحاب المنطقة على حالهم وهي استراتيجية اتبعها العثمانيون في البلقان وقد أثبتت نجاعتها.