شعب البجا في شرق السودان - الجزء الثالث
تأليف الأستاذ: سليمان صالح ضرار
ديانة البجه والصوفية:
كان للبجه كهنة كسائر الوثنيين في عصور ما قبل إعتناقهم للإسلام، وبقيت قبائل البجه على الوثنية
ولم تتخل عنها بالرغم من تهديدات الإمبراطور الروماني جستنيان.
وقبائل البجه لا تتسرع في إعتناق أي عقيدة أو مبدأ بل تقلّب الأمر ثم تختار ما عزمت علىه ولا تتراجع عنه أبدا. فلما اعتنقوا الدين الإسلامي كانوا ولا يزالون من أشد الناس تعصبا لنصرته وكفى بحوادث المهدية التي إعتنقوها ودافعوا عنها.
وعموم قبائل البجه كبيرهم وصغيرهم يطلقون كلمة (كافر) على كل من لا يدين بالإسلام، لأن ليس في لغة البجه مسيحي أو يهودي اذ أن البجه رفضت هذين الدينين وبقيت على وثنيتها وتخلت عنها للدين الإسلامي ولا تعترف بسواه دينا.
وكان كهنة البجه يطلبون منهم (قبل الإسلام) أن يدينوا بالطاعة لربيعة وللملك معا. واستمروا على ذلك حتى انتشر الإسلام بينهم، وبطلت الكهانة بعد أن كان لكل بطن من بطون البجه كاهن.
إسلام البجه:
أول دار للهجرة في الإسلام:
عندما أُرسل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليهدي الناس كافة، ظهرت أهمية قبيلة بني عامر مرة أخرى بعد أن كانت أهميتها قد ظهرت أولاً في تحالفها مع قبائل الجزيرة العربية ضد غزو أبرهة لمكة، فهاجمته قبل أن يغادر افريقيا (هجرة القبائل العربية إلى مصر والسودان للمؤرخ الأستاذ ضرار صالح ضرار). فلقد كانت بني عامر مسيطرة على ساحل البحر الأحمر الغربي بجزره وموانيه، وبفضل الله ووجود بني عامر في الموانيء الأفريقية استطاع المهاجرون المسلمون الأوائل أن يبحروا إلى الحبشة. ففي سنة 615 م (راجع السيرولاس بدج: تاريخ أثيوبيا ص 270) أي قبل الهجرة إلى المدينة بسبع سنوات، ركب البحر من ميناء شعيبة الحجازي بالقرب من جدة أحد عشر رجلاً مسلماً وأربع نساء مسلمات، ودفع كل منهم نصف دينار، وتوجهوا في سفينتين إلى باضع أي جزيرة عقيتاي. وكانوا في طريقهم إلى الحبشة التي كان يحكمها ملك عادل.
هذه الجزيرة هي عاصمة مملكة بني عامر التي تسمى جارين. واستقبل أفراد قبيلة بني عامر هولاء المهاجرين ورحبوا بهم، وأعطوهم الأمان للنزول في أرض مملكتهم. وبذا تكون هذه القبيلة البجاوية هي أول شعب يعطي الأمان للمسلمين ولأول مهاجريهم خارج الجزيرة العربية، بل وداخلها أيضاً. وقد أكرم الله سبحانه وتعالى أمة البجه بالأسبقية في الإسلام، وذلك بدخول الإسلام إلى ربوعها قبل فتح مكة المكرمة بسبع عشرة سنة، حيث كانت هجرة الفوج الأول من الصحابة رضوان الله عليهم في السنة الخامسة من البعثة النبوية. وعليه فإن مملكة بني عامر هي أول دار للهجرة الإسلامية، حيث حباها الله بهذا الشرف وهذه المنة قبل أن يأذن الله لرسوله بالهجرة النبوية إلى المدينة المنورة بتسع سنين. وعلى هذه المعايير الحسابية التاريخية الثابتة بالوثائق وتواتر الحقائق فإن بني عامر هم أول من صام شهر رمضان المبارك خارج منازل الوحي في الجزيرة العربية، كما أنهم أول من آمن بالرسالة من غير جدال وقتال حيث آمنوا ونصروا غيبياً بالتبليغ فقط.
ولم تكن تلك هي أول هجرة أو آخر هجرة للمسلمين لأراضي بني عامر، لأنه ما لبثت أن قامت جماعة أخرى من مهاجري المسلمين تتكون من مائة وواحد نسمة بهجرة مماثلة إلى أرض بني عامر، ومنها إلى أرض النجاشي، وذلك بعيد سنة 615 م مما هدد قريشاً وأخافها. وقد عاد بعض هؤلاء المهاجرين إلى أوطانهم فيما بعد، ولكن بقيت أعداد منهم هناك في الحبشة وفي أراضي البجه. وتوجد مقابر للصحابة جنوب غرب سواكن أسفل جبل الست.
ويؤيد هذا الرأي بأن هجرة الحبشة كانت إلى بلاد البجه البروفسير عبد الله الطيب في العديد من محاضراته، وكذلك الأستاذ الدكتور حسن الشيخ الفاتح الشيخ قريب الله في كتابه (السودان، دار الهجرتين الأولى والثانية للصحابة)، حيث ذكر بأن ميناء الوصول هو سواكن وليس باضع كما نعتقد نحن، وعلى كل فالموقعان في بلاد البجه، ويقول الميجر هيربرت بأن جزيرة عيري كان بها جامع على نفس طراز الجامع الذي شيدته شجرة الدر في سواكن وتم تدميره حوالى العام 1115م.
وتم انتشار الإسلام في جميع أراضي البجه وصار كل البجه مسلمين وتركوا العبادات الوثنية. وعمت المساجد ربوع بلادهم ومن أوائل المساجد التي شهدتها بلاد البجه هو (ابري مسجد) وتعني (المسجد الكبير) ولقد بناه أحد شيوخ الملهيتكناب في القاش.
انتشار الطرق الصوفية:
وانتشرت الطرق الصوفية في البلاد ونشرت الإسلام بطرق منها المديح عندما لم تكن هناك صحف أو إذاعة أو تلفزيون، وكان لها إلى جانب محاسنها بعض الهنات.
يقول البروفيسور يوسف فضل عن الصوفية في (السودان) الشرقي (وانخرط عامة الناس في سلك المريدين من أتباع الطرق الصوفية، بل فضلوها على الطابع الفقهي المتزمت. وقد تأثر الإسلام في (السودان) بالجو الصوفي المتفشي في العالم الإسلامي...).
(وبعد أن كان التصوف مطلب الصفوة من المسلمين صار مقصداً للجميع فانتشرت الطرق الصوفية في سائر أنحاء العالم الإسلامي، وازدادت هيمنتها الروحية...).
الصورة: الحسيب النسيب السيد محمد عثمان الميرغني، مرشد الطريقة الختمية، رئيس الحزب الإتحادي الديمقراطي؟؟
الطريقة الختمية:
(الطريقة الختمية كانت نتاجا لبعث صوفي شمل كل المقاطعات الجنوبية من الامبراطورية العثمانية. ودخلت الختمية من الحجاز على يد منشئها السيد محمد عثمان الميرغني بن السيد محمد أبي بكر بن السيد عبد الله الميرغني المحجوب 1783م (ولد في عام 1208 هـ في مدينة الطائف بالسعودية، وقد كفله عمه السيد يس بعد وفاة والده وهو صغير. كانت لأجداده مملكة في منطقة بخارى، أقاموها بعد أن فروا من بطش بني أمية بهم، فتنازل عنها السيد مير خوردي لأخيه الملك مختار وهاجر إلى مكة المكرمة. أخذ طريقته من النقشبندية (النقش على القلب) والقادرية والجنيدية والميرغنية والشاذلية. قام بثلاث رحلات للسودان وأنشأ قرية الختمية في كسلا. من تلاميذه في السودان الشيخ ود دوليب والشيخ ود الترابي والشيخ اسماعيل الكردفاني والشيخ العبيد ود بدر والشيخ إدريس بدار المحس. وبعد عودته إلى الحجاز توفي رحمة الله عليه عام 1268 هـ ودفن بالمعلا في مكة المكرمة ــ من كتاب الختمية للأستاذ محمد أحمد حامد).
وبعد ثلاثة أشهر من معركة ام درمان حضر السيد علي الميرغني من سواكن عن طريق خور بركة إلى الخرطوم. أما حضوره مع جيش كتشنر فهي فرية من حزب الأشقاء.
بالرغم من أن للطريقة الختمية سلبيات إلا أن لها أيضا إيجابيات في بلاد البجه حيث أدت مرونتها إلى أن يتبعها عدد كبير من البجه شديدي المراس. كذلك بدأت نشر التعليم السلفي في الخلاوي ثم طورته في المساجد مثل جامع السيد تاج السر في سواكن حيث كان يعلم فيه مباديء الحساب واللغة العربية وجامع السيد الحسن في كسلا، واعتمد على خريجي هذه الخلاوي للتدريس في المدارس الصغرى الحديثة التي أنشأها الاستعمار البريطاني حيث شكلوا الرعيل الأول من معلمي المدارس الابتدائية. وشهدت سواكن إنشاء أول مدرسة للبنات في (السودان) على يد احدى شريفات المراغنة التي كانت تدرس في تلك المدرسة. وقامت الشريفة مريم بفتح مدرسة إعدادية مصرية للأولاد في سنكات. أما السيد علي، فإنه فتح مدرسة ثانوية في مدينة (وقر) في الستينات (أرسل مؤرخ البجه الأكبر رسالة إلى السيد علي الميرغني ليتوسط بعلاقاته لدى مصر لفتح مدرسة ثانوية في شرق السودان لأن هناك بعد الطلاب الناجحين للثانوية لم يجدوا مقاعد لهم، وقمت أنا بإرسال الخطاب بالبريد وجاء الرد خلال أسبوع واحد فقط بالمصادقة على فتح مدرسة ثانوية مصرية في وقر وبها أيضاً داخلية وأبقار لمد الطلاب بالحليب فكان شعار المدرسة لجذب الطلاب هو ــ وقر بلد البقر ــ المؤلف). وبعده جاء السيد محمد عثمان الذي اشتهر بحبه للتعليم فأرسل آلاف الطلاب للدراسة الجامعية في مصر وسوريا وليبيا والعراق مما انعكس على أسرهم فارتفع مستواها في الوقت الذي لا يستطيع سواد الشعب (السوداني) في عهد نظام الإنقاذ الحالي من الحاق أبنائهم وبناتهم ليس في الجامعات فحسب، بل حتى في المدارس العادية حيث أصبح التعليم حكراً لأهل الإنقاذ الذين امتلكوا المال والسلطة. وبعد قيام انقلاب الإنقاذ قاد السيد محمد عثمان معارضة شرسة ضد النظام مما يعتبر ثورة في أسلوب الختمية في النضال حيث كانوا يعتمدون التقية. وبدلاً من معادات الطريقة الختمية، يجب على شباب البجه الاستفادة منها في تمرير رسائل التوعية والإرشاد لأهلهم، نسبة لأنها تنظيم جاهز أثبت فعاليته بدليل استمرار الختمية كل هذه السنين الطويلة. كما أن السيد محمد عثمان الختم أسسها بطريقة مرنة تتوافق مع حياة البجه القاسية وطبيعتهم المحبة للاستقلال. وتوجد دراسة لنيل الدكتوراة باللغة الإنجليزية أعدها باحث أمريكي فيها تحليل لهذه الطريقة الدينية.
الختمية وأسرى البني عامر:
في مارس العام 1997م، عندما قتلت وأسرت القوات الغازية بعض أبناء البني عامر من منطقة جنوب توكر، لم يتدخل السادة المراغنة لفك أسرى البني عامر بالرغم من صلاتهم القوية بالتجمع المعارض. وبهذه المناسبة فإن البني عامر هم الذين حموا جد المراغنة من جيوش الأمير عثمان دقنه في كسلا وساعدوه للخروج إلى القاهرة عبر إريتريا. بالإضافة إلى أن منطقة جنوب توكر هذه ظلت دائرة مغلقة لحزب الختمية في كل الانتخابات التي خاضها حزبهم. ويجدر بنا هنا أن نشير إلى أن كل الذين صعدتهم الختمية في الدوائر البرلمانية أو الحكومات الإقليمية والذين كانت تحسبهم على البني عامر جازوها بالانضمام للإنقاذ.
ارتبط المراغنة ببلاد البجه، أحياءً وأيضاً أمواتاً، حيث توجد كل مقابرهم تقريباً ببلاد البجه. كذلك اختلطوا في البجه بالمصاهرة مثل مصاهرتهم للهنسيلاب في أبنت، أما المراغنة في كسلا فإن أمهاتهم جميعاً من الملهيتكناب. وعلى جانب آخر فإن قصيدة نور البراق الشهيرة للسيد محمد عثمان تاج السر التي أنشدها هي لتمجيد المرأة الصالح المدفونة في جبل (روره)، فضة شقيقة جدنا ضرار بن بلتقو، التي يبرق النور من قبرها ويراه الناس من مسافات بعيدة. وقال السيد الختم عنها (إن الله فتح عليّ بالرؤية الطيبة ليلة مبيتي بجوار قبر فضة المذكورة). وتعتبر هذه القصيدة قصيدة خاصة لتمجيد هذه الأسرة.
تجربة الشيخ علي بيتاي:
تعتمد هذه الحركة الدينية على تعاليم الشيخ علي بيتاي (وهو من العبدلاب الذين استوطنوا بلاد البجه)، وولد في 21 سبتمبر العام 1930م بمنطقة همشكوريب، وتوفي في يناير عام 1978م ــ المؤلف). لقد قام بتغيير أسلوب حياة العديد من الناس داخل وخارج الولاية، خاصة الرعاة المكافحين من البجه في منطقة همشكوريب. واستطاعت الحركة كسر عزلة أتباعها وجعلتهم يتأقلمون على حياة الاستقرار والعمل. وحل محل الإنتماء القبلي إنتماء ديني قوي. وتحول المجتمع التقليدي المحافظ إلى مجتمع متطور. وكانت نواة المستوطنة ورمزها هي المدرسة القرآنية. وأُعتبر العمل الجماعي والتعاون والمساعدة الذاتية أفضل الوسائل لتطبيق معاني القرآن الكريم للحصول على الظروف المعيشية الأفضل في المنطقة. ونتج عن الاتصالات السياسية للزعيم لفت إنتباه الحكومة للمنطقة وتقديم المساعدات لها كقاعدة لتطوير المجتمع. لقد أحيا الشيخ علي بيتاي تعاليم الإسلام الحنيف واستطاع إقامة مدن فاضله أمها الناس من كل حدب وصوب للنهل من علوم القرآن الكريم. وليست هناك مقارنة بين الطريقة التي تعامل بها الحكومة شيوخ البجه الدينيين والطريقة التي تعامل بها شيوخ الشمال الدينيين.
إن زيادة حجم وعدد المستوطنات في مناطق همشكوريب سيؤدي إلى الضغط على المصادر القليلة في المنطقة، بالرغم من التغيرات في إضافة الحياة. ويطبق قادة الحركة مشاريع ذاتية صغيرة لتلبية الحاجات المستقبليه للسكان المستقرين الذين يتزايد عددهم، ويشمل هذا التحكم في مياه الخيران، حفر الآبار السطحية والجوفيه لري المزارع الصغيرة وتطوير مساحات الغابات والمصادر الطبيعية الأخرى. وإذا أخذنا في اعتبارنا سلوك المستوطنين لاتخاذ مستويات معقوله في الحفاظ على المياه وإعادة النظر في الممارسة الزراعية وتنظيم المصادر الطبيعية فإنه يمكن الحصول على استدامة في استخدام المصادر.
يذكر أحد أتباع الشيخ علي بيتاي رسالته في الكلمات البسيطة التالية (إنك تحب حيواناتك كثيراً وتهتم بها كثيراً. والحيوانات لا تعطيك الفرصة لتعلم القرآن. بعها وابدأ التجارة. الرجال الكبار يجب ألا يكذبوا أو يسرقوا أبداً، يجب أن نكون أمناء). وقد أعطى الوفاء بهذه التصورات زخماً جديداً لأنشطة الجميلاب، كما منحهم ميزة على غيرهم الذين يتأثرون بتأثر حيواناتهم جراء الجفاف. فانطلق الجميلاب بحماس ديني في التجارة مهنة الأنبياء، وبدأوا ينشرون المحطات التجارية عبر بلاد البجه ويبنون بجوارها المساجد.
في همشكوريب كانت المدارس القرآنية التي أسسها الشيخ علي بيتاي للرجال والنساء في حالة ازدهار، فقد كان الشيخ قادراً من خلال شخصيته وكاريزميته على حث الحكومتين القومية والإقليمية على ادخال الخدمات الإجتماعية والصحية في مكان نائي مثل همشكوريب. وارتاد هذه المدارس القرآنية آلاف من الطلاب ليسوا من الجميلاب فقط، بل من كل قبائل البجه حتى البني عامر أعداء الجميلاب السابقين. والآن تضم هذه الخلاوي طلاب من كل أرجاء السودان ومن غرب افريقيا الذين زاحموا البجه في مصادرهم القليلة. وقد قامت حكومة الجبهة القومية في يونيو 1999م بقصف مناطق همشكوريب عشوائياً بالمدفعية الثقيلة وهدمت المساجد وبيوت الأبرياء وقتلت الشيوخ والنساء والأطفال. وأقامت قوات الحكومة ثكناتها داخل قرى همشكوريب وبين مساكن المواطنين لتستخدمهم دروعاً بشرية. كذلك قامت الحكومة بخلق فتنة بين الهدندوة والرشايدة في أغسطس 1999م. وفي أبريل العام 2000م قامت قوات مؤتمر البجه بدحر قوات نظام الإنقاذ العنصري وتحرير همشكوريب ثم انسحبت منها تكتيكياً لاحقاً لتلتف حول الجيش وتحرر مدينة كسلا، ثم تخليها وتعود لهمشكوريب ثانية لتحررها وتطرد منها المرتزقة الذين استقطبهم النظام العنصري باسم الدين، ويسيطر المؤتمر على أكثر من ستين قرية.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.