بقلم الأستاذ: عثمان محمود جابر - كاتب ارترى

من الملاحظ أيضا أن الشيخ محمد اعتمد في خطته الدعوية سياسة التدرج،

إذ كثف نشاطه الدعوي في المرحلة الأولى في المساحة الرمادية بعيدا عن الخطوط الحمراء وبالتالي اقتصرت جهوده الدعوية في هذه المرحلة في التوعية والإرشاد والتعليم المكثف بهدف تنقية المفاهيم العقدية لدى الكثير من أفراد المجتمع والتي كان قد شابها شيء من الغبش والممارسات البدعية.

وبطبيعة الحال كانت نقطة البداية من حرقيقو مقر الشيخ ومعقله الرئيسي ولأن البيئة هناك كانت خصبة ومهيئة لتقبل الدعوة أكثر من غيرها، والأقربون أولى بالمعروف مصداقا لقوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين). ولم يمض وقتا طويلا، ولم يتطلب الأمر الكثير من الجهد والعناء في تبليغ رسالة الدعوة هناك وأن السياسة الحكيمة والديبلوماسية الناعمة التي اعتمدها الشيخ في تبليغ دعوته آتت أكلها ونجحت نجاحا باهرا، ومن ثمراتها الأولى أن الرقص والاغاني الشعبية وقرع الطبول في ليالي الأفراح ومساكم الله، تقلصت كثيرا لصالح الدعوة إلى الله، وبذلك أن محاضرات الشيخ القيمة التي كانت تعالج القضايا الإجتماعية، حظيت بنصيب الأسد من المساحة الزمنية لفعاليات مناسبات الأفراح.

في مناسبات ليالي الأفراح عادة يتم تنظيف وتجهيز الساحة أمام منزل أهل العريس منذ وقت مبكر استعداداَ لاستقبال ضيوف الفرح، حيث تنصب المظلات والستائر والحواجز الفاصلة بين الرجال والنساء ويتم إحضار المنصة المتنقلة التي يصعد عليها الشيخ أثناء إلقائه المحاضرات والمواعظ، والجميع يترقب وصول الشيخ بفارق الصبر، والمحاضرة في الغالب تبدأ من العاشرة مساء وتمتد حتى نصف الليل والحضور يكون عادة كثيفا ومن كلا الجنسين. وكان للشيخ دورا بارزا في إيجاد الحلول للكثير من القضايا الإجتماعية بالتعاون مع الشيوخ وأعيان المنطقة لا أود التطرق في تفاصيلها في هذا المقام خشية الإطالة.

الإحتفال بمناسبات مولد النبي:

أما في مناسبات مولد النبي جرت العادة أن يقيم الأهالي حفل مرطبات والشاي في ساحة المسجد الكبير بعد صلاة العصر يصاحبها المديح ببعض القصائد الصوفية يترنم بها الحضور بصوت جماعي، ويستمر الحفل لغاية قبيل صلاة المغرب، وبما أن الشيخ اعتمد في استراتيجيته الدعوية اسلوب خطوة، خطوة المصحوب بالصبر والحلم، وعدم توجيه النهي المباشر الذي قد يؤدي إلى التصادم، لذلك استمرت المدائح في الحفل لفترة ما، بعد قدوم الشيخ محمد إلى أن تم إلغاؤها من قبل منظمي الحفل بشكل تلقائي وبقيت محاضرات السيرة النبوية والدروس المستفادة منها يلقيها الشيخ محمد بأسلوبه الرائع يتناول فيها التعريف بسنته وأخلاقه وكذلك الأحداث والوقائع من سيرته صلى الله عليه وسلم، يسردها بأسلوب مبسط وفق التسلسل الزمني من تاريخ ولادته مرورا بالبعثة وإلى تاريخ هجرته من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة. وهنا يتجلى الإبداع والبراعة في أسلوب الشيخ المتميز حين يجسد لك المشهد في سرده للسيرة وكأنك تراه أمامك رأي العين.

أما في الايام العادية كانت أنشطة الشيخ الدعوية تركز في المواعظ القصيرة في المساجد بين صلاتي المغرب والعشاء وفي الغالب تقام في مسجد آل زبير في وسط السوق وكذلك بعد صلوات الجمعة في الجامع الكبير. هذا فضلا عن حلقات الدروس المكثفة في العقيدة والسنة الذي كان يعطيها الشيخ لبعض الطلبة من العمال والموظفين بشكل منتظم.

وبعد أن اطمأن الشيخ على نتيجة التطور الإيجابي في المجتمع لصالح الدعوة وأصبح لديه جمهور كبير وطلاب علم يحيطون به، بدأ تدريجيا يتوسع في نشاطه الدعوي جغرافيا ونوعيا لتشمل المناطق المجاورة وداخل مصوع الجزيرة وما حولها وبذلك نجح الشيخ بدبلوماسيته المعهودة من اختراق الخطوط الحمراء واقتحام حصون أهل البدع والخرافات والحد من سطوة معتقداتهم وأفكارهم التي هيمنت في المنطقة لعقود من الزمن، وكان الشيخ حريصا في حضور المناسبات الحولية يلقي فيها محاضراته ومواعظه أمام الحشود الكبيرة وموضوع المحاضرة غالبا ما يكون عن عقيدة التوحيد ومقتضياتها مع تجنب النهي المباشر عن الممارسات البدعية تلافيا للصدام الذي قد يحدث في مثل هذه المواقف. واستمر الشيخ في برامجه الدعوية بنفس الوتيرة حتى عام ١٩٧٤م تقريبا وكان لدعوته تأثيرا إيجابيا في عموم المنطقة، وإن لم تقض على الممارسات البدعية تماما لكنها ساهمت في التقليص من سطوتها. ولكن بعد الانقلاب العسكري في إثيوبيا تدهورت الأوضاع الأمنية في عموم البلاد مما أدى إلى توقف الأنشطة الدعوية والثقافية في كافة أرجاء ارتريا.

قصة المديح في صلاة الجمعة:

بعد صلاة الجمعة مباشرة، أعتاد الشيخ أن يلقي موعظة قصيرة تناسب المقام في قصرها، وفي إحدى أيام الجمعة صعد المنبر كعادته وكان حديثه هذه المرة عن عدم جواز المديح الذي يترنمون به المصلون في الجامع قبيل خطبة الجمعة كما جرت العادة، وبينما الشيخ كان مسترسلا في حديثه، وإذا بشيخ كبير السن ينتفض غاضبا ومحتجا على كلام الشيخ محمد، وحجته في ذلك أن هذا المديح يؤدونه تعبيرا عن حبهم للرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه من موروثات كبار شيوخهم الصوفية وذكر أسماء البعض منهم وقبل ان يكمل كلامه تصدى له عدد من الحضور محتجون على أسلوبه الصدامي مع الشيخ وطالبوه أن يصمت ويكف عن الإعتراض، في هذه الأثناء ارتفعت الأصوات وكاد أن يتحول المشهد إلى هرج ومرج وتخرج الأمور عن السيطرة، لو لا تدخل الشيخ بأسلوبه المتزن وطلب من الجميع الهدوء، والتفت نحو الشايب المعترض طالبا منه بكل احترام ولطف أن يكمل حديثه، وفي هذه اللحظة قد بدا الهدوء على الشايب، وشيئا فشيئا زال عنه التوتر وهدأت أعصابه حتى جلس صامتا بعد أن أفرغ شحنته، وبهذا الأسلوب الحكيم استطاع الشيخ ان يمتص غضب الشايب المعترض، وبالمقابل عبر له الشيخ محمد عن تقديره واحترامه لشيوخ الصوفية الذين ورد ذكرهم على لسانه، وبعد ذلك أقنعه بلطف بعدم جواز المديح في صلاة الجمعة وأكد له أن هذا الفعل ليس له دليل من القرآن والسنة وبالتالي لا يجوز فعله في هذا المقام، ومنذ ذلك اليوم تم إبطال المديح في صلاة الجمعة، والدروس المستفادة من هذا الموقف، على أن الداعية الحصيف ينبغي عليه مراعاة ظروف العوام ومستوى ثقافاتهم وأعمارهم وأن يقدم الدعوة للجمهور، بالحكمة والموعظة الحسنة عملا بقوله تعالى: (أدع إلى سبيل ربك بالموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن).

رحم الله الشيخ محمد آدم العالم الجليل والداعية المصلح الذي تحمل أعباء رسالة الدعوة في سبيل الله وبذل كل غال ونفيس في أدادئها وظل مجاهدا وصابرا محتسبا حتى تاريخ استشهاده مع نفر من طلابه في بلدة حرقيقو في ٣١ ديسمبر ١٩٧٦، ونحن ممتنين للشيخ المعلم والمربي الفاضل والداعية الحكيم، ومن حقه علينا أن نشكره ونذكر له إنجازاته في الدعوة ودوره المتميز في تنوير المجتمع وكذلك الشكر موصول أيضا لكافة علماء بلادنا الذين حملوا راية العلم والدعوة وتحملوا تبعاتها في ظروف أمنية بالغة التعقيد التي مرت بها بلادنا في تلك المرحلة، نسأل الله أن يحفظ من كان حيا منهم وأن يتغمد بواسع رحمته من توفى منهم ويسكنهم فسيح جناته. وفي هذا المقام أيضا يسعدني ان أتقدم بخالص الشكر والإمتنان للشيخ المرحوم إدريس عمر كيكيا رجل الأعمال الناجح ورئيس مجلس إدارة مدارس حرقيقو الأهلية في تلك المرحلة حيث كان موفقا في اختياره لمعلمين أكفاء ومخلصين لهذه المدارس التي لعبت دورا مهما في نشر العلم والمعرفة في المنطقة، فجزاه الله عنا خيرا، وأسأل الله ان يتغمده بواسع رحمته ويسكنه فسيح جناته.

وختاما، ما أوردناه في هذا المقال عن مسيرة الشيخ محمد آدم الدعوية الطويلة يمثل فقط جانبا منها وليس كلها، هذا وأسأل الله أن يرزقنا التقوى والإخلاص في القول والعمل، وصلي اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد ابن عبدالله وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

• التالي