الثورة الإرترية داخل الأراضي الإريترية المحررة صيف عام ١٩٧٧م
بقلم الأستاذ: فايز كردفاني
بسم الله الرحمن الرحيم
1. تحديات الثورة الإريترية في منتصف السبعينات:
بعيد منتصف السبعينات بدأت الثورة الإريترية تخرج للعالم كقضيه عادلة تستحق الانتباه، وسرعان ما لفتت تعاطفه وهو يتابع بانبهار انتصاراتها على أعتى إمبراطورية في أفريقيا آنذاك.
وما أن حل عام ١٩٧٧م. حتى بدأت الثورة تعاني من صراعات أدت لانشقاقها ووقوعها تحت دائرة أطماع الاستقطاب الدولي المستفيد دائما من الصراعات الداخلية في كل العالم الثالث بالإضافة إلى صراعات الأنظمة العربية التي كانت تناصر القضية الإريترية إبان تشطرها لدول المواجهة والتصدي المتمثلة في سوريا والعراق وليبيا وفلسطين واليمن الجنوبي في مواجهة دول الخليج واليمن الشمالي والسودان و أخرى فضلت الصمت كالمغرب وسلطنة عمان.
الأمر الذى فتح شهية الدول الكبرى كأمريكا والاتحاد السوفيتي الراحل، كما حرك أطماع الصين الأيدولوجية والتي دخلت حلبة الصراع بحياء أول الأمر ثم سرعان ما استهواها شطرنج الاستقطاب، خاصة وأنها ظلت تتابع عن كثب وبصبر تلك الصراعات منذ انطلاق أول طلقة للثورة بقيادة إدريس عواتي مباشرة بعد صدور قرار الإمبراطور هيلاسلاسي بضم أريتريا رسمياً للإمبراطورية الإثيوبية أوائل منتصف الخمسينيات، وبعدها تتابعت الانقسامات في صفوف الثوار حتى بلغت أوجها فى منتصف السبعينات وظلت وكالات الأنباء تتناقل أخبار انتصارات الثورة جنبا إلى جنب مع أخبار انشقاق الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا بقيادة أسياسى أفورقى من قوات التحرير الإريترية بقيادة عثمان صالح سبى، وما أن بدأت قوات أحمد ناصر في تحقيق الانتصارات المتوالية حتى انشقت منها جبهة ثانية بقيادة عثمان عجيب و تفرعت من حركة إبراهيم تمساح حركات مسلحة أخرى بقيادة منكع وعوقل وحفاش وتمت تصفية عثمان عجيب في فندق كنارى بالخرطوم، وقتل عبد الله إدريس في القاش ثم ظهرت جبهة التحرير الإسلامية بقيادة محمود سلطان وتربعت الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا بقيادة أسياسى أفورقي على ساحة ميادين القتال بعد تحالفها مع جبهة تحرير التقراى بقيادة المناضل ملس زناوى ونائبه رمضان محمد نور في ظل هذه الانقسامات المتوالية - أضحى لكل فصيل اريترى دولة ترعاه تمويلا وتوجيها خاصة الدول العربية ما عدا السودان الذى ظل ملتزما بالحياد بصفته الراعي لكل حركات التحرر بصرف النظر عن توجهاته الايدولوجية متيحاً لها تعدد مصادر التمويل حتى برزت أخطر مراحل الصراعات والتي كادت أن تنسف القضية الأريترية ألا وهى ظاهرة أبناء المنخفضات (مسلمون) وأبناء المرتفعات (مسيحيون) حينها فقط انتبه السودان وتوجس خيفة واستيقظ في رعب من مغبة الأمر.
والسودان المعنى هنا ليس الحكومة فقط بل وبثقل أكبر هو منظمات المجتمع المدني بكل كياناتها من طلاب وزراع وعمال ومثقفين وقوات نظامية كانت تحمل في وجدانها القضية الاريترية تماما مع مرتبة القضية الفلسطينية، بل كانت تشكل ضغطاً سياسياً تعمل له الحكومات ألف حساب. وتسخر فعالياتها وتفتح بيوتها وقلوبها لكل فصائل الثوار بلا منٍّ ولا أذىً ولا استكثار بل أن كثيراً من شبابها قد تطوع فى صفوف الثوار الأريترين كمقاتلين وأطباء ميدان وخلافهما.
والتحمت كيانات المجتمع السوداني تصديا لهذه الصراعات المهلكة وخرجت بقرار موحد وهو العمل الموحد لتوحيد فصائل الثورة الإريترية مهما كلف الأمر وبضغوط جماهيرية حاسمة رضخت الحكومة السودانية للأمر مرغمة وكذلك فصائل الثورةالتي قبلت الدعوة على مضض. وخرجت التنظيمات الشعبية السودانية بقرار موحد وهو لا مخرج للثورة إلا بتوحيد الفصائل المدنية ثم العسكرية ونبذ الخلافات ودرء فتنة أبناء المرتفعات والمنخفضات فوراً، وانتخبت منظمات المجتمع المدني مجموعة تمثل كل مجموعة فصيلاً من كل فصائلها، وكنت رئيساً لإحدى تلك المجموعات المكلفة بتوحيد الفصائل العمالية الإرترية كخطوة أولى.
2. الدخول إلى الأراضي الاريترية المحررة:
وثباً على التفاصيل وصلنا كسلا قبل انعقاد مؤتمر توحيد الفصائل العمالية الاريترية والذى أختير له الانعقاد داخل الأراضي الإريترية المحررة تحديداً في عام ١٩٧٧م. وفضلت أنا وهارون كافي من جبال النوبة قضاء الليلة في منزل زوج خالتي المرحوم عبد الباسط احمد أنور الذى رعانا بحكمته وبعدم سؤاله وتفرق الآخرون لقضاء الليلة في مأوى اختاره لهم مندوب الثورة.
تحركنا في الصباح الباكر في مجموعات متفرقة وعند وصولنا الحدود السودانية صُرف لنا زيُّ الثوار وهو عبارة عن شورت وقميص متواضع وحذاء خفيف الوزن باطنه وظاهره من البلاستيك يدعى (الشِّدَّة). وقام مرافقنا باستلام هوياتنا وحاجياتنا بعد أن أصبحنا تحت إمرته وتركنا أمرنا لله ولمرافقنا كما يترك الميت أمره لغاسله. كما كان علينا منذ هذه الساعة أن نتذوق الطعام على رقته بدون ملح.
ومن الطرائف أنني عندما رفعت رأسي للمقاتل الذى كان يقوم بصب الماء لغسل يدي إذا بي أكتشف أنه صديقي الاريترى - (الذى لم أشك يوماً بأنه اريترى) - سليمان التاجر في السوق العربي المعطر الأنيق وقد تعرفنا على بعضنا بسهولة بالرغم من مظهره الأشعث الأغبر الذى يحمل السلاح ولا يحمل اسم سليمان ! وقد رفض بانضباط تام أن يرافقني لخيمتي في المعسكر لأنه الآن تحت إمرة قيادته.
وهذا ما شرحه لي مرافقي الودود نكروما والذى كان يطيب له أن يرد على من يناديه: (يا نكروما) بــ (ياحبيب نكروما)، فقد كان رجلاً كثيرَ الملاطفة كثيرَ الحركةِ حتى تحسب بأن هنالك أكثر من نكروما في أكثر من موقع وفى آن واحد. وكان من قلائل الفرسان الذين لا يعرف لهم انتماء أيديولوجي أو إن كان من المرتفعات أو المنخفضات ، وهذا ما أهلَّه لأن يترأس الاجتماع مشيداً بدور المجتمع المدني السوداني مؤكداً أنه المنظم الحقيقي لهذا الاجتماع الفاصل في مسيرة الثورة الإريترية، وعند منحى الفرصة خاطبت المؤتمر خاتماً بأننا أتينا للأراضي المحررة مقسمين غير حانثين بأن لا نرجع لمن اختارونا لتمثيلهم في السودان إلا إذا توحدت كل الفصائل العمالية الاريترية أو نبقى بينهم حتى يتم ذلك، شاءت الفصائل أم أبت.
و وعندما بلغ الحماس أشده وأقسم المؤتمرون أن لا ينفض سامرهم إلا وقد توحدت كل الفصائل وعندها أكد أحد شباب الأطباء بوفدنا أنهم قرروا عدم العودة للسودان توحدت الفصائل أم لم تتوحد وسيبقون في الميدان لتقديم خدماتهم الطبية للجرحى والمرضى حتى انتصار الثورة- فيما بعد قررت حكومة السودان تعيينهم في الخدمة حتى رجوعهم - كان هذا في الجلسة الافتتاحية وبعدها تأزم الموقف واشتد الخلاف بين أكثر من سبعة فصائل وتعالت الأصوات واختلطت الهتافات وتمسك وفدنا بالهدوء والوسطية والحكمة حتى باءت المساعي بالنجاح وتناقلت حينها وكالات الأنباء النبأ العظيم، نبأ توحيد الفصائل العمالية الاريترية من داخل الأراضي المحررة. وأصبح مرافقونا يشيدون بصبرنا وقوة شكيمتنا وخاصة حين سقطت القنابل المضيئة التي كانت القوات الإثيوبية تطلقها على مكان المؤتمر فتجعل الليل نهاراً.
كما نمت أثناء المؤتمر علاقات وطيدة مع كل فصائل الثورة، بل وتعرفنا عن قرب بأحد شباب وفدنا والذى فرضت شخصيته المميزة احترامنا وحبنا وكان يدعى الفاضل والذى انضم إلى مجموعتنا حال دخولنا الأراضي المحررة والتي كان أدرى بشعابها ويجيد بعض لهجات أهلها وقد سهل علينا بثقافته العالية مشقة السفر وإن اختلفنا في أمره فقد كان متدينا يتلو القرآن بتجويد آسر ويحفظ المولد العثماني والبرزنجي ودلائل الخيرات وفى نفس الوقت كان مقتدراً في الماركسية وعالماً في الفكر الجمهوري وتاريخ السودان ومتحدثاً بارعاً في الرياضة وكان يجيد القفز بين الصخور وأفرع الأشجار تماما كما كان يفعل فتية مقاتلي الثورة، كما تتنقل القرود بين الصخور ومن فرع لفرع، كان باختصار بارعاً لبقاً وذا خلق كريم لا تستطيع غير أن تبادله وداً بودٍّ.
3. الدخول إلى العاصمة أسمرا:
دعتنا الحركات المقاتلة لمرافقتها للدخول إلى العاصمة أسمرا. ودخلناها عند الغروب ولاحظنا الانسحاب الطوعي للقوات الإثيوبية من أسمرا فاسحة المجال لدخول القوات الإريترية لتدير شئون العاصمة وتصرف دولاب الحكم فيها من غروب الشمس وحتى طلوع الشمس حيث بدأت في الانسحاب الطوعي لتدخل القوات الإثيوبية جنباً لجنب وبدون أي احتكاك بينهما وعلمنا بأن هذا الأمر سائد منذ فترة بلا اتفاق وأصبح عرفا بين الفرقاء المتناحرين يتناوبان فيه حكم العاصمة؛ الليل للثورة والنهار للقوات الأثيوبية.
4. رحلة العودة للسودان:
عندما قررنا العودة للسودان فوجئنا بأن القوات الإثيوبية قد طوقت كل المعابر لدخولنا للسودان مما استوجب أن يغير مضيفونا مسار عودتنا عبر مركز دول الإثيوبية المتاخم لمركز دول السودانية على الحدود الجنوبية الشرقية والتي يفصلهما خور يابوس والذى عبرناه بعد وداع مرافقينا وأشرفنا على الكرمك وقيسان بعد أن تلقفنا بالنجدة بعض السودانيين الذين كنا نعتقد بأنهم مزارعين غير أنهم ذكروا بأنهم عمال بمناجم الأنقسنا بباو التي أوصلونا لها ونحن منهكين واستضافنا ناظر مدرسة باو الأستاذ يونس وواصل مدركونا سيرهم بدون أن نكمل لهم قصتنا المختلقة وهى أننا طلاب بجامعة الخرطوم من جمعية تطوير الريف السوداني ...الخ.
عرفنا الناظر بنفسه بأنه الناظر الوحيد بالسودان الذى ليس معه مدرسين أو طلاب والذين انفضوا من حوله للحاق بموسم الزراعة. ثم أكرمنا بوجبة مرق دجاج على كمية كبيرة من القرقوش (الخبز الجاف) فتلقفناها بشهية وملح زائد عوضنا به حرماننا منه طيلة المرحلة السابقة وبسعادة لم يكبحها ألا اعتذاره عن تلبية حاجتنا إلى الاغتسال الذى حرمنا منه أيضاً. وطلب الانتظار إلى الصبح حيث اصطحبنا إلى خزان باو الذى يصطف عليه قليل من الرجال وكثير من النساء في انتظام فريد، وما أن رأى المصطفون الناظر يونس ألا وأفسحوا له ألا أنه أصر على الانتظار في الطابور المنتظم وعند رجوعنا اكتشفنا أن معظم واردي الماء كانوا قد ملأوا براميل الناظر والتي أصبحت كافية لاغتسالنا جميعاً و لم تكتمل فرحتنا بالماء إذ حضر إلينا رفاق الأمس من عمال المناجم على ظهر شاحنة متهالكة حملتنا إلى سودا عبر خور السما الأحمر من أعلى قمم جبال الأنقسنا والتي كنا نشاهد منها أشجار القنا وكأنها أعواد كبريت.
وعلى مشارف الدمازين فوجئنا باستقبالٍ حافلٍ من حامية الدمازين والتي استضافتنا بميز الضباط وأمدتنا بالطعام الشهي والماء النمير ووفرت لنا مياها غزيرة للاستحمام. ومن الدمازين ولأسباب نجهلها وُفِّرت لنا طائرة مروحية إلى كسلا حيث استلمنا أغراضنا وهوياتنا وعدنا للخرطوم سالمين غانمين منتظمين مع الجماهير السعيدة بتوحيد الفصائل.
5. مفاجأة العودة للخرطوم:
بعد أيام تم استدعائي لجهاز الأمن وقابلت العميد آنذاك (ك. ح) نائب رئيس الجهاز والذى بادرني ليهدئ من روعي بحديث عن حاجة الجهاز لضباط في الإدارة الاقتصادية من خريجي جامعة الخرطوم المتميزين علماً وخلقاً ثم ناولني بعض صور توحيد الفصائل فى الأراضي الاريترية المحررة مركزاً على صورة لشخصي مع أحد قادة الفصائل الأريترية وسألني عنه فأكدت له أنه من قادة الإريتريين وشهير بإسم (ولنرمز له هنا) بكيداني ثم أخرج صورة أخرى له في لباسٍ آخر فأكدت له بأنه نفس الشخص وإن تغير في زيٍّ أنيق، وشرح لي بأن كيدانى هذا قد ترشح لمجلس الشعب وفاز في إحدى دوائر الشرق وقد طعن منافسه في سودانيته، وفى ما بعد علمت بأن كيداني الاراضي المحررة ما هو إلا ابن عم كيدانى عضو مجلس الشعب السوداني. وتلبية لضغطة زرٍّ أمام العميد حضر ضابط (في مفاجأة مقصودة) تبينت أنه زميلنا في رحلتنا للأراضي المحررة الشخصية المميزة التي تدعي الفاضل !! عندها فقط تيقنت من:
(1) أن الشعب الإريتري والسودانى شعب واحد لا تفصله غير الحدود الجغرافية بين القبائل المتداخلة.
(2) أن الدولة لم تكن بمعزل عن مطالب الشعب السوداني بتوحيد الفصائل الإرترية، ومناصرة القضية الفلسطينية. وأن الحكومات المتعاقبة ظلت تمثل نبض الجماهير السودانية التواقة لصلة الرحم ومناصرة الشعوب على نوائب القهر والاستبداد بداية بغزو بي عنخي لمصر والبقاء فيها أعواماً لإذلال الفراعنة للخيول، مروراً بافتداء الثورة المهدية للبطل المصري أحمد عرابي، ومواجهة الضباط السودانيين في عام 1924م انتصاراً للمآمير المصريين الذين أبعدتهم بريطانيا من السودان، و تتوالى الملاحم البطولية للشعب السوداني في تطوعه في حرب فلسطين عام 1948م. ومشاركته بكتيبة من الجنود السودانيين الأشاوس في حرب الاستنزاف بعد نكسة عام 1967م.
وخروج الجماهير الهادرة عقب مقتل لوممبا على يد تشومبى فى الكونغو، والمناصرة المستمرة المشهودة لكل حركات التحرر في الجزائر وتشاد وسوابو وناميبيا ضد الأبارتيد، والصومال وكوريا وفيتنام وكوبا وحتى حركة اليفندى لتحرير إسبانيا !!!هذا بالإضافة لاستضافتها غير المشروطة لقادة الثورات كحسين هبرى ضد تمبل باى في تشاد، وعبد الفتاح إسماعيل وعلى ناصر محمد ضد الحماية البريطانية لليمن الجنوبي ورئيس تحرير جزر القمر، وكل قادة فصائل التحرير الإريترية والإثيوبية ومنهم الرؤساء كأسياسي أفورقى وملس زيناوى.
(3) أن جهاز الأمن كان يحمينا منذ خروجنا من السودان وحتى عودتنا بدون طلبنا أو علمنا. ذلك الجهاز الذى كان يحلو للبعض بتسميته بأبي هول السودان، وقد كان فعلاً أبا الهول ولكن برأس من حكمة وجسد من أسد !!!
جانب من مذكرات: بصمات على دفتر العمر
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.