تحرير مساجين سجن عدي خالا 1975 - الحلقة الاولى

سماديت كوم Samadit.com

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

’تقرئكم الجبهة السلام وتعد بتحريركم قريبا‘. هذه الكلمات فاجأني بها سهلي الممرض بمستشفى سجن عدى خالا في اوائل شهر يناير

من عام 1975. في الحقيقة، لم اعر كلامه أي اهتمام حيث كنت أعاني من صداع نصفى حاد ثم لان علاقتنا لم تتجاوز طوال السنين الماضية مستوى تهريب أدوية بمقابل، والاهم لاعتقادي أنه كان بعيدا عن الاهتمامات الوطنية حيث كان جل جهده في هذا الوقت بالذات منصبا على تحسين لغته الامهرية والالمام ببعض المواد القانونية لخوض انتخابات برلمانيـة مقبلة. وانا أوشك على الخروج كرر سهلي كلامه وفى نبرته نوع من الجدية. فوجدتني أقول له بشكل عفوي ’اخبرهم أننا مستعدون للخروج‘.

ذكرت الموضوع للاخ صالح جابر وراك والزملاء ارمياس مرهزين، برهاني تخلزين، يعقوب كيدانى وقرماى ابرها (بوليسيا) بحكم كوننا مدرسين في شبه مدرسة ابتدائية لتعليم السجناء الغير سياسيين، وايضا الزميل سيوم عقباميكائيل لما كانت لنا نضالات كثيرة ومثيرة ضد بعض العملاء والمخبرين عندما كنا في سجن اسمرا، تذكر في موضوع اخر.

بالكاد كنت انتهي من سرد ما دار بيني وبين سهلي حتى كان الزملاء يضجون بالضحك استخفافا ان لم يكن استهزاء ظنا منهم أنني أصبت بنوع من هذيان بفعل العلاج الذي تناولته او، على الاقل، ان الثمالة بلغت بسهلي حدا افقدته رشده، مستبعدين أن يكون قد سمع أصلا بوجود الجبهة ناهيك أن يلتقي بها. وعبثا حاولت إقناعهم بأنني واع تماما وان كل ما قلته حقيقة سمعتها من سهلي وانه كان عاديا جدا بصرف النظر عن رأينا في مدى وطنيته. وللأمانة التاريخية، لم يدر بخلد أحدنا، ولو للحظة، ان تفكر الجبهة في تحريرنا قبل تحريركامل تراب الوطن.

بعد جدال طويل، اتفقنا على أن أتأكد من صحة وجدية الموضوع. فرصة الذهاب الى العيادة في المساء كانت الامتياز الوحيد الذى كنا نتمتع به كمدرسين ونعتبره نوعا من السياحة. كرر سهلي بلا أي تلكأ او تردد ما قاله في اليوم السابق بل اضاف ’فعلا بعض قيادات الجبهة موجودة في مدينة عدى خالا!‘ فبادرته مستوضحا من من القيادات طلب منه إبلاغنا بهذه المعلومـة، قال انه القائد سعيد صالح. بمجرد ما نطق الاسم.. دب في نفسي نوع من الشعور بالطمأنينة وعدت بذاكرتي إلى الفترة التي كان يعالج فيها سعيد صالح في منزلي في حرقيقو قبل عشرة اعوام من إصابته في معركة محلاب (قرح) إبان عبور الجبهة إلى المنطقة الرابعة عام 1965. وللتأكد اكثر، سألته ما إذا طلب منه إبلاغي شخصيا أم انه أخبرني بصفتي أحد السجناء السياسيين. قال ’... بل كأحد السجناء السياسيين ليس إلا‘. فرجوته ألا يثير الموضوع مع أي شخص آخر وحصره بيني وبينه لبعض الوقت. عدت مزهوا الى حيث ينتظرني الزملاء بفارغ الصبر وأخبرتهم بثقة مطلقة بالنتيجة وأنني اعرف الشخص الذي كلفه معرفة شخصية مع اعطائهم خلفية عن ظروف معرفتي به.

ناقشنا الموضوع بإسهاب وفى الاخر تم الاتفاق من حيث المبدأ على اعتباره فخا وراؤه الاستخبارات لتدفعنا الى القيام بحركة ما تتخذها ذريعة لتصفيتنا بتهمة محاولة الهروب، ولكن مع إبقاء الاتصال بسهلي ومراقبته للتأكد من عدم اجرائه اتصال مماثل مع اخرين واخترنا الزميل سيوم لمتابعة الموضوع معه حتى لو تطلب الامر دخوله المستشفى. ابلغت سهلي بما توصلنا اليه واقترحت عليه إدخال سيوم المستشفي ليكون على مقربة منه بدلا من تكرري الي العيادة ما قد يلفت نظر البعض وتم ذلك. بطبيعة الحال، لم تكن المستشفى منذ تخفيض ميزانية السجون اكثر من عيادة للإسعافات الاولية ولا تتميز عن العنبر الا بالنوم على سرير. كنا نتبادل المعلومات مع سيوم عصر كل يوم من خلال فرجة صغيرة في شباك حمام يطل على ساحة العنبر الذي كنا فيه لحظة انشغال الحراس بالتغيير، اما في حالة وجود ما يستدعي النقاش فقد كنت اذهب اليه. كانت المشكلة في نوعية الحارس الذي يرافق السجين اثناء ذهابه الى المستشفى فبينما يلتصق بعضهم بالسجين كظله يتيح له البعض الاخر فرصة للحديث مع زميل يقابله او نزيل في المستشفى. اما وسيلة التواصل مع سعيد صالح وتوقيتاتها فكانت مختلفة حسب الظروف ولا يمكن تحديدها بالضبط.

اكدت كل المعلومات التي توافرت لدينا خلال أسبوعين ولم يرق إليها شك أن سعيد صالح الذي كنت اعرفه واقصده استشهد اواخر الستينيات في معركة جرت في منطقة عقمدا في المنطقة الرابعة. لم تبدد هذه المعلومة الآمال التي بدأنا ننسج خيوطها فحسب، بل وزادت من حجم الشكوك والريبة التي ظلت تساورنا منذ الوهلة الاولى. بدأنا نتساءل.. اذا من يكن هذا الشخص الذي ينتحل هذا الاسم ولماذا؟ وهل الممرض سهلي ضالع في مؤامرة تحاك ضدنا؟ وهل اتصاله بي شخصيا كان عفويا أم مقصودا ولماذا ؟ وهل نحن حقيقة امام فخ منصوب؟! ناقشنا هذه الاحتمالات كمؤشر الى الاتجاه المعاكس نقاشا مستفيضا ووفق سيناريوهات مختلفة وأحيانا اقرب إلى الخيال. اتفقنا مجددا على عدم التسرع والتعامل بحذر اكبر.

فبينما كنا في حالة ترقب واستبطاء منذ دخول سيوم المستشفى، وصلت رسالة من سعيد صالح يذكر فيها أن الجبهة فعلا تخطط لتحرير المساجين بالتعاون معنا ويطلب معلومات عن: كروكي السجن، عدد الحراس، نظام الحراسة وتوقيتاته ونوعية الاسلحة. فرحنا كثيرابهذا التطور الايجابي الا ان دورسهلي الوطني المفاجىء وشخصية سعيد صالح المجهولة بالنسبة لنا، ظلا غصة لم نستطع بلعها. كنا نحس في قرارة انفسنا اننا نتعاطى مع الاستخبارات، وبالرغم من هذا ارسلنا ردا فيه معلومات كان بعضها متراكما والبعض الاخر بدأنا جمعه منذ اليوم الاول للاتصال تحسبا للحوجة. اما فيما يتعلق بمدى مشاركتنا في العملية العسكرية فقد اوضحنا صراحة عدم التعويل علينا للقيام باي دور يذكر بالنظر الى تواجدنا خلف ست ابواب حديدية صماء.

كان عزاؤنا الوحيد ونحن نكتب الرسالة انه حتى لو سقطت في يد الاستخبارات فلن تكون فيها اسرار لا تعرفها، ورأينا اننا بهذا التصرف نطمئنها باستحالة الهروب وعدم وجود أي تفكير في هذا الخصوص، آملين ان يؤدى هذا التأكيد الى استرخاء نظام الحراسة لعلنا نستفيد منه مستقبلا اذا ما سنحت لنا فرصة حقيقية. وانطلاقا من هذا الفهم اعتبرنا ردنا وسيلة لاستكشاف ما يدور بشأننا في الخفاء ومغامرة محسوبة طالما لم نتورط في أي تصرف فعلى.

الإيطاليون هم الذين بنوا سجن عدى خالا وهو عبارة عن قلعة منيعة ويعتبر اكبر سجن في إرتريا حتى الآن. يبلغ علو سوره نحو خمسة أمتار وعرضه نحو مترين. يخضع لحراسة مشددة من دفاعات خراسنية مبنية فوق السور فضلا عن توافر قوة دفاعية لا بأس بها عدة وعددا يمكنها الصمود ريثما تصلها النجدة، يساعدها في ذلك الموقع الإستراتيجي. وكان يتكون السجن من مكاتب، عنابر للسجناء، زنزانات للعزل والعقاب، عنبر لاستراحة الحراس الاحتياطيين، عنبر مقسم بين عيادة ومستشفى، مطبخ وملحقاته، مستودع مركـزى، مدرسة - وهى عبارة عن عنبر مقسم إلى فصول، غرفة لجهاز لاسـلكي، غرفة لمولد كهربائي للطوارئ.. الخ. كان يتراوح عدد السجناء في ذلك الوقت بين ثلاثمائة واربعمائة سجينا.

كانت السجناء السياسيون في ذلك الوقت فى عنبر واحد وكانت العلاقة بينهم فى تلك الآونة في احسن حالاتها بعد ان شهدت انفراجا ملحوظا بعد تلاشى الاحباطات التى نتجت عن التطورات السلبية التي شهدتها الساحة. حتى فى اسوأ الحالات ‘لم تصل التباينات فى الرؤى الى درجة التعصب او احتكاكات بحيث تؤثر على العلاقات الشخصية. تزايد عدد المتعلمين‘ من ناحية‘ وتزامن ذلك مع فتح الكنيسة الانجيلية السويدية تلك المدرسة على نفقتها‘ من ناحية اخرى‘ لربما ساعد على ذلك التحسن. من النتائج الايجابية الغير مباشرة لافتتاح المدرسة على السجناء السياسيين .. ارتفاع وتيرة عملية تهريب الكتب والقرطاسية اكثر من ذى قبل بحيث انشأنا شبة فصول سرية داخل العنبر. اصبحت الغالبية إما معلما او متعلما. تدرج الوضع الى تكوين حلقات نقاش، مطالعات مشتركة وحوارات اقرب إلى ندوات مصغرة في شكل مجموعات منسجمة. كثيرا ما كان يحي بعض الموهوبين من أمثال آدم إدريس سكر ومحمد على عمر أمسيات فنية ولاسيما في المناسبات العامة. حتى عندما عجزت الارجل عن حمل اصحابها بسبب الضعف والهزال الذى اصاب السجناء نتيجة تخفيض المصروفات اليومية الى ما دون النصف‘ كنا نحى المناسبات العامة بنفس المستوى من الروح المعنوية العالية وان كان بصوت مبحوح وقعودا (بدون نط او تنطيط!). كنا نعتبر عملية إسماع صوتنا الى سكان مدينة عدى خالا الذين تعودوا على سماعه فى كل مناسبة بمثابة رسالة سياسية لابد من ايصالها حتى يعرف الجميع أن صمودنا ما زال متصاعدا مهما ساءت الحالة بصفة عامة .كان يتطور نشاطنا، في بعض الأحيان، إلى درجة عرض تمثيليات تجسد الكفاح الوطني لرفع الروح المعنوية وفكاهية للترفيه. كنا نستخدم المكانس للتدريب (الدفاع عن النفس‘ الطابور العسكرى‘ كيفية امساك واستعمال البندقية‘ التصويب‘ التعمير والتفريغ، الاحتماء بالساتر، الزحف والانسحاب‘ استخدام القنابل مع شرح نظرى لاجزاء الكلاشنكوف). كان يتم ذلك كله في شكل افراد وسط العنبر بعد قفل الباب مساء وخصوصا في موسم الأمطار والبرد القارس حيث كان يحتمي الحراس بعيدا طلبا للدفء. كان لتلك التدريبات تأثير معنوي ونفسـى ملحوظ .بهذا التحدي والروح المعنوية العالية كان يرتقى السجناء إلى مستوى طموحات شعبهم في الحرية والاستقلال. كان السجن مدرسة للرجال وميدان للابطال.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click