تحرير مساجين سجن عدي خالا 1975 - الحلقة الثانية
بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت
ناقشنا مدى جدوى اطلاع كافة الزملاء في العنبر على الاتصالات الجارية مع الجبهة. ارتأينا انه من المصلحة العامة إبقاء المعلومات
في نفس الإطار لعدة اعتبارات أهمها: حصر أية نتائج سلبية قد تترتب عليها، لأي سبب كان، في أضيق الحدود ولاسيما أننا لم نكن متأكدين تمإما من حقيقة الجهة التي كنا نتعامل معها، ثم إن علم الجميع من عدمه في تلك المرحلة ما كان ليغير شيئا.
الاخذ في الاعتبار تجارب سلبية سابقة. عندما كنا فى سجن اسمرا، على سبيل المثال، وكلنا من السجناء السياسيين، ناقشنا ذات مرة مدى امكانية الهروب وبالذات من العنبر الصغير الذى كنا فيه والذى كان ملاصقا للسور من جانبين. طرحت بعض الافكار القابلة للتنفيذ فيما لو توفرت لها بعض العوامل المساعدة. لم تمض سوى فترة وجيزة حتى فوجئنا بزيارة خاصة من شخصية معروفة ومشبوهة. ابدت الشخصية تعاطفها واسفها على حالنا وهى تذرف دموعا لم نصدقها، ثم ذكرت ان الوسيلة الوحيدة امامنا للخروج من السجن، ولاسيما بعد ان ابرمت محكمة الاستئناف الحكم علينا، تنحصر فى محاولة الهروب. وعبرت الشخصية عن استعدادها لبذل اقصى ما تستطيع للمساعدة على انجاح اية خطة نراها مناسبة. لاحظنا اثناء حديثها انها كانت تحاول قراءة افكارنا وردود افعالنا. شكرها صالح جابر وراك- اكبرنا سنا - بالنيابة عنا على مشاعرها الطيبة وأكد لها بأننا سنصبر مع شعبنا الى يوم النصر القريب. فى الحقيقة، كنا قد اتفقنا فور رؤيتها قبل دخولنا المكتب على الا نتحدث معها باكثر من سلام واخبار الاهل والاولاد. سرعان ما عرفنا الغرض من تلك الزيارة وكيفية تسرب فحوى نقاشنا الى الخارج.. وكان بحسن نية! .
الاهم من ذلك كله، كانت هناك مفارقات موضوعية لابد من التعامل معها بتجرد بعيدا عن العواطف والمثاليات. إن عملية الهروب من السجن بعمل عسكري كانت تعتبر بداهة مغامرة غير مضمونة العواقب اقلها في حالة النجاح والنجاة الانضمام إلى الثورة. فإذا أخذنا في الحسبأن مدى تفاوت الوعي الوطني من ناحية، والتفاوت فى مدد الأحكام التي كانت تتراوح ما بين المؤبد واقل من سنة، من ناحية اخرى، كان لابد من التساؤل جديا عما إذا كان بالإمكان ضمان تفاعل كافة السجناء مع ذلك السر المصيري بنفس الغاية والأهمية وليس كل واحد على حسب ما تمليها عليه ظروفه ومصلحته الشخصية. اتفقنا على الاعتماد على السرية المطلقة وتحمل النقد والعتب مستقبلا. اشعرنا سعيد صالح بذلك القرار.
من ضمن العبر التى اخذتها انا شخصيا فى الاعتبار.. حكمة تفوه بها (مجنون). عندما رفع إمامنا محمد احمد عوض يديه الى السماء استعدادا للدعاء، فى احد الايام عقب صلاة العصر، انتهره شخص يدعى ضيفان قائلا ”يا هوى.. قبل ان تدعو“ اللهم اجعل لنا فرجا ومخرجا ”اسأل المصلين ان كانوا فعلا يرغبون فى الخروج من السجن ام لاء“. ضحك المصلون والسـامعون علــى مقولة ضيفان، وعلق معظمهم بما جادت به قريحتهم مؤكدين ان ذلك من وحى المجانين. سجن ضيفان (من كرن) بتهمة قتل زوجته وهو فى نوبة جنون وظل فى مستشفى المجاذيب حتى اغلاق القسم ضمن عملية تخفيض ميزانية السجون وتوزيع نزلائه على كافة العنابر! لم يكن ضيفان عنيفا ولا مؤذيا عدا بعض التصرفات التى تؤكد جنونه. صادف فى نفس الفترة ان اصدرت الحكومة عفوا عن بعض السجناء من غير السياسيين، فاذا باحد المفرج عنهم - كان ضمن المصلين - يصر على اكمال حكمه بحجة ان هناك من سيقتله ثأرا امام بوابة السجن. تمسك المعلقون بموقفهم من مقولة ضيفان على اساس ان تلك حالة شاذة ولا تنطبق على سياسيين. من ناحيتى، اعتبرت ضيفان دقيق الملاحظة وذى فراسة وخصوصا انه كانت له سابقة سمعت عنها، وصدق ظنى فيه. سمعت يوم تحريرنا بعض السياسيين يتذمرون. كان بعضهم يتمنى لو اكمل حكمه وعاد الى عائلته ليعيش (فى تبات ونبات - اولاد وبنات!)، وكان هناك من كان يتمنى لو اكمل حكمه وعاد الى دكانه، وكان هناك من كان يتمنى لو اكمل حكمه ويهاجر رسميا الى (…). كاد البعض منهم ان يعتقل ثانية بعد ان عاد الى منزله وفى داخل المدن. لم اورد هذه الاحداث لابرر اخفاء الاتصالات عن زملاء نعتز بمعرفتهم انما لاوضح ان من يحكم بالظاهر والمظاهر ويعمم بدون تدقيق ومعرفة حقيقية كثيرا ما يفاجأ بمواقف لا ينفع معها الندم.
بينما كنا فى حالة تذبذب بين تفاؤل حذر، تشاؤم مفرط والشك المبين كشأن المضطر الذى يمشى على حبل مشدود لا يستطيع الوقوف فى مكانه وانما عليه ان يتحرك مهما كانت الاتجاهات مظلمة ومؤلمة، نترقب ورود شىء من سعيد صالح، تواترت أخبار تفيد توغل جيش التحرير الى اطراف منطقة سراي. تعاملنا معها بتحفظ شديد حسب المبدأ المتفق عليه خشية ان تكون إشاعة مضللة ومكملة لعملية مخابراتية تهدف إلى تطميننا بأننا فعلا نسير في الخط الصحيح.
كان معنا في العنبر من ابناء تلك المناطق محمد قيتو. على سبيل التأكد، اقترحت عليه بطريقة غير مباشرة الاستفسار من زائريه مدى صحة الأخبار التي تذكر ظهور الجبهة فى منطقتهم - كانت المقابلة الشخصية كل يوم سبت. بطبيعة الحال، لم يكن محمد بحاجة الى توصيتى حتى يسأل ولكننى اردت التأكيد عليه حتى يكون الرد من جهته. اخبرنى انه علم من والدته التى زارته فى ذلك اليوم ان الجبهة فعلا متواجدة فى منطقتهم.
اتهم محمد قيتو بالمشاركة فى تنفيذ عملية فدائية صفت فيها الجبهة محافظ محافظة (عرزا) فى منطقة سراى وحكم عليه بالحكم المؤبد، ثم خفف عنه الحكم فى الاستئناف الى عشرين (او خمسة وعشرين) عإما. اما هو فكان ينفى بشدة ان كانت له اية علاقة بالجبهة وكان يصر على انه برىء حكم عليه ظلما. قلما كان يتحدث أي سياسي عن دوره او صلته الحقيقية بالثورة وخصوصا إذا كان دورا حساسا، وكان الجميع يحترم الخصوصيات الشخصية، وهذا كان سبب تحفظى. بعد ان اكد لى صحة تقدم الجبهة الى منطقتهم، سألته مباشرة إن كان قد سمع في الجبهة عن شخص يدعى سعيد صالح. ابتسم محمد قيتو واجابنى بالإيجاب، ثم اضاف تلقائيا انه كان يعمل تحت إمرة سعيد صالح في فرقة الفدائيين وبالتالي يعرفه شخصيا، وان سعيد صالح قابل والدته منذ اسبوع وابلغها بأن الجبهة تفكر فى تحرير السجناء السياسيين قريبا. شكرت محمد قيتو على تلك الثقة والعفوية المطلقة التي تعامل بها معى، وشعرت بمدى سخافة موقفى وانا اخفى عنه الغاية من استفسارى، ولكن كان موقفى سيكون اسخف لو اطلعته على الحقيقة ثم طلبت منه ان يكتم الخبر عن زملائه الذين كان بينهم من هو اسبق منى نضالا واوفر عطاءا. أعطانا ذلك التأكيد من محمد قيتو زخما معنويا كبيرا واستبشرنا خيرا. ولكن سرعان ما انتكست حالتنا وعاودتنا الهواجس وسوء الظن خشية ان تكون والدة محمد قيتو ذاتها ضحية لخطة مخابراتية محكمة تكون استغلتها لإيصال تلك المعلومات، دون إن تدرى، إلى ابنها ومن خلاله إلى السجناء السياسيين. تطابق كلام والدة محمد قيتو حرفيا مع كلام سهلي هو الذي أثار شكوكنا اكثر. ثم اننا لم نصدق بأنه من الممكن ان تغامر الجبهة بارسال سر بذلك القدر من الخطورة بمثل تلك السطحية وبدون اى داع. الجدير بالذكر، كثيرا ما كان يتشبه الكماندوس بجنود الجبهة ويستدرجون السذج من الشعب لكشف اسرار الجبهة وتحركاتها ونقل معلومات مضللة اليها!
بمجرد ما اطمأنينا حول وجود شخصية حقيقية لسعيد صالح، مع قدر كبير من التحفظ حول كونها المصدر الحقيقى للمعلومات، تنازعتنا مشاعر متناقضة. تارة الاحساس بنشوة الانتصار الوشيك الذى سيزلزل الارض تحت نظام (الدرق) الفاشى، وتارة اخرى الاحساس بالخوف والاشفاق من حجم الخسائر التى قد تتكبدها الجبهة فى سبيل انقاذنا بينما نحن عاجزون لا حول لنا ولا قوة. استغلالا لتلك الاخبار المتواترة التى كانت تؤكد يوميا توغل الجبهة الى المرتفعات وخصوصا اواسط منطقة سراى وتحقيق انتصارات عسكرية كبيرة فى ضواحى اسمرا وطريق مصوع، بدأنا فى بث تحليلات وتفسيرات واحيانا اختلاق اخبار مناسبة بحيث يظل خبر تقدم الجبهة موضوع الساعة فى العنبر بهدف تهيئة الجميع معنويا للتفاعل مع المتوقع اذا وقع. بما ان السجين تواق الى الحرية، تلقائيا كان الجميع يكرر بالليل ما قالوه بالنهار.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.