أعلام خالدة

سماديت كوم Samadit.com

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

كان يؤمن أن الحق لا يستجدى.. ينتـزع عنوة.. فقال ’إذا انه الجهاد‘، صفى دكانه، ســدد ديونه، سلم ابنته الوحيدة لمن يؤتمن في

أمرها، أدى حق الخالق بعد أن أعطى المخلوق حقه، عاد متوقدا روحا وجسدا، رافق حامد في كره وفره، خذلته بندقيته فأسعفه سيفه سولاب، زعموا انه كان محجبا فقال ’عناية الله وحفظه اكبر واوسع‘ بعثوا ملابسه إلى أديس.. فكانت شاهدة عليهم لا عليه، صفدوه في زنزانة مظلمة فأضاء بصيته أرجاء الوطن، حكموا عليه بالإعدام فقال ’إنما الأعمار بيد الله‘، نصحوه بالاستئناف فقال ’لو خشينا الشهادة لوسعتنا بيوتنا‘، قالوا له ’اطلب‘ فقال ’ادعوا لي بالمغفرة‘. في يوم من أيام الله المشهودة في مدينة بارنتو الغراء تقدم إلى حبل المشنقة شامخا ولسان حاله يقول ’...هكذا تنتزع الحقوق...!!‘ فأرتجت الأرض تحت أقدام العدو ’من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا‘.. انه ثاني أسير من جبهة التحرير الارترية الشهيد البطل الحاج محمد ايرا موسى، طيب الله ثراه.

كانت الساعة قد تجاوزت السادسة مساء عندما وصلنا إلى سجن اسمرا المركزي في سيارة مغطاة تحت حراسة مشددة. لم نكد نطأ الأرض حتى تسابق إلينا الزبانية وكأنهم كواسر جائعة لمحت فريستها وكل منهم يحمل قيدا زنته ستة كيلو. كبلوا أقدامنا بمهارة يحسدون عليها. فتشونا جسديا وكأننا قدمنا من سياحة خارجية، ثم فكوا السلسة التي أوصلت أولنا بآخرنا ودفعوا بنا نحو السور صفا مع تعليمات صارمة بعدم التحرك بل الالتفات ريثما تنتهي بعض الإجراءات. كنا متضعضعي الجسد والحواس نتضور جوعا وزادنا البرد القارس سوءا. تراءى لنا السور أعلى بكثير مما عهدناه، والحراس تحت ستراتهم العسكرية وكأنهم من بقايا العمالقة أو كالطود الهائل.

بعد انتظار دام نحو ساعة حسبناه دهرا، اعطوا كل منا ما أسموه بطانية، صحن وكوب ثم تلى علينا أحدهم قوانين السجن ولائحته العقابية مصحوبة بإنذار وتحذير. بمجرد ان نخسوا اولنا تحركنا في طابور وهم من حولنا يلوحون بعصي كأننا قطيع في مدينة يخشى جفولها. كان المنظر مهيبا ورهيبا وكأنك تسير ليلا وسط مقبرة حيث تكثر التهيؤان بلا انس محسوس أو جن مدسوس. تعثر بعضنا وتقاطرت دماؤهم فاسرع اليهم الزبانية ليس لمساعدتهم كما تبادر الى ذهننا بل ليحثوهم على تسريع خطاهم مع سخرية لا تنقطع. وأخيرا.. وصلنا الى مكان تشعر بما خلفه قبل ان تخطو داخله - قسما كتـب على بابه بخط عريض قسـم العزل والعقاب، يتكون من اربع زنزانات وحمام، مساحة كل منها لا تتجاوز مترين طولا ومتر وسبعين سنتمتر عرضا مخصصة لخمس اشخاص. دخلت مع الزملاء صالح عبد القادر بشير، محمود صالح سبي، عثمان سيد رمضان في زنزانة كان فيها شخص يدعى عبد الله، تكروني قيل انه قاطع طريق مشهور في منطقة جلوج، بينما دخل الزملاء احمد شيخ ابراهيم فرس، صالح جابر وراك، عبد الله محمد سعيد صايغ، عبد الله محمد صايغ وطه ابراهيم في زنزانة مجاورة. كانت الزنزانة خالية من أية تهوية إلا ما يتسـرب من فراغات تحت الباب، ولم تكن الإضاءة احسن حالا - باهتة جدا تؤذى العين. اما المفاجأة التي لم نتوقعها قط.. قضاء الحاجة في مبولة داخل الزنزانة وسط الزملاء! حيث لا يفتح الباب نظاما بعد الخامسة والنصف مساء وحتى السابعة والنصف صباحا إلا في حالة وفاة وهذا اذا توفرت الامكانات. كان هذا في شهر فبراير من عام 1966م.

جثا أو جلس كل منا كيفما صادف يتحسس تارة نفسه وأخرى يتفقد الزنزانة الداكنة التي ربما قضى فيها بقية عمـره، إن كتب له في العمر بقية. بدأ شريط الأحداث يتسلسل.. التحقيق، التعذيب، المحكمة والمواد القانونية التي تنص على الإعدام واقلها الأشغال الشاقة المؤبدة.. الخ.

صراحة.. كما تمنى المرء لو لم يعتقل، أو بالأحرى لو لم ينخرط في السياسة ومشاكلها، بل وحتى لو لم يولد أصلا طالما هذه هي النهاية. مضت فترة طويلة قبل أن ينبس أحدنا ببنت شفة، الجميع مستغرق في مناجاة ذاته. لامتد بنا الحال طويلا لولا قرقعة في الباب دخل على أثرها أحد عمال المطبخ يحمل جردلا. صب لكل منا حليبا. لم يخطر ببالنا إذا كان الكوب نظيف حيث كانت فرحتنا بالحليب أشبه بفرحة الطفل ولما له من معاني تفاؤلية دغدغتنا قليلا. اعتقدنا أنه جزء من المصروف اليومي لولا العامل أزال اللبس عندما قال خارجا ’هذا الحليب من محمد ايرا وهو يسلم عليكم‘. تبادلنا نظرات تساؤل.. من يكون هذا الشخص الذي لم نسمع عنه ويستقبلنا بحليب في وضع اعتبرناه بمثابة نهاية العالم!. حاول أحدنا الاستفسار لكن الباب كان قد اقفل. علمنا من من زميلنا عبد الله أن محمد ايرا أسير من الجبهة محكوم عليه بالإعدام.

محمد ايرا.. أسير من الجبهة محكوم عليه بالإعدام.. يستقبلنا بحليب! كانت لفتة عظيمة لم تخف علينا وكانت بمثابة صدمة كهربائية استدركنا بها أننا من اتى الى السجن وليس العكس. تذكرنا زملاءنا وأصدقاءنا الذين استشهدوا منذ بعض الوقت وان بعضهم في طريقهم إليها. انقشعت الغفلة وزالت الغيمة والغمة واستعدنا توازننا النفسي والمعنوي وبدأنا في تجاذب الأحاديث وبعض التعليقات والقفشات عن التجربة التي مررنا بها ولاسيما أن البعض منا لم يلتق خلال فترة التحقيق والتعذيب التي امتدت لنحو شهرين. هكذا كان شعوري، وربما الجميع أيضا.

لم نذق طعم النوم على الاطلاق، كان في احدى الغرف مجنون لم يطبق فمه ناهيك عينيه حيث ظل طوال الليل يضحك تارة ويغنى ويرقص اخرى ثم يصرخ ويبكى. اما وضع زملائنا في الزنزانة الاخرى فقد كان اسوء حيث قضوا ليلة ليلاء ففضلا عن الحاجة إلى الحمام حيث لم نستطع قضاء حاجتنا في المبولة التي تعودنا عليها فيما بعد، والاختناق القاتل لم يستطع معظمهم الاستلقاء على ظهرهم او الجلوس لضيق المرقد حيث كان بعضهم فارع الطول والبعض الاخر بدين والمساحة المخصصة لكل شخص نصف متر فقط. فكنا ننتظر الساعة الثامنة بفارغ الصبر الا انها تأخرت كثيرا عن موعدها المعتاد، ربما نكاية بنا، هكذا يحس الانسان في مثل هذا الوضع!
كانت خيبة أملنا كبيرة جدا عندما علمنا من الحارس أن تحركنا سيكون محصورا في مساحة التي لا تتجاوز ثلاث في أربع أمتار معزولين عن بقية العنابر التي بدأنا سماع أصوات نزلائها وتحركاتهم. ولحسن الحظ، باشر المجنون واسمه تخستي حركات بهلوانية مقززة ولكنها في نفس الوقت مسلية انستنا حالنا فأخذنا نصفق له ونضحك عليه والصحيح نضحك على أنفسنا. وكان حزننا كبيرا عندما علمنا اننا لن نستطيع مقابلة بل وحتى رؤية محمد ايرا مع انه في زنزانة مقابلة بسبب اختلاف موعد خروجنا.

عندما قدم الحاج محمد ايرا الى المحكمة للمرة الاولى سأله القاضي سؤالا تقليديا ’هل تعترف بالتهم الموجهة اليك‘ متوقعا ان يكون الرد ايضا تقليديا ’انا بريء ولم ارتكب شيئا مما نسب الي‘ ولكنه فوجئ عندما سمع اقراره بكل ما ذكر وانه قام به بكامل وعيه وارادته. وردا على سؤاله حول توكيل محامي يدافع عنه، قال انه لا يحتاج الى اي محامي. وطبقا للقانون عينت له المحكمة محاميا على حساب الحكومة، وبعد بضعة جلسات خالية من مرافعة حقيقية حكم عليه بالإعدام.

لهذا اعتبر عند قدومه إلى هذا السجن سفاح وعومل معاملة قاسية جدا لم يسبق لها مثيل حيث ظل لفترة طويلة مغلول اليدين والرجلين مشدودا على عمود يعيش على نصف كسرة وكوب ماء في كل ووجبة ومع هذا ظل صابرا محتسبا صلبا لا يستكين.
اعتقد محاميه خطأ أن الحكم بالإعدام يكون قد كسر شوكة الحاج محمد والان عريكته واصبح قابلا للابتزاز ومنى نفسه بأشياء كثيرة كما يفعل معظم المحامين من ناحية استغلال ظروف المساجين. فقال له ’يا هذا.. اولا لست انا من كلفك وثانيا لا ارغب في الاستئناف ’فلو خشينا الشهادة لوسعتنا بيوتنا وإذا رغبت في المال فاطلبه ممن كلفك‘. تقدم المحامي بالاستئناف كإجراء روتيني وبعد جلسة أو جلستين تم ابرام الحكم بالإعدام. سمع الحاج محمد الحكم دون ان يستمع اليه حتى امتعض القاضي، فسأله أن كان له التماس او استرحام يتقدم به إلى المحكمة، لم يكترث بالسؤال حتى يرد عليه فشعر القاضي بالانكسار مدركا أن سطوته وجبروته الوهمية لا تزيد الاقوياء الا قوة تحولهم إلى كابوس يطارد امثاله من الطغاة.

من تقلبات الحياة العجيبة، كان زميل الحاج محمد في زنزانته مدير سابق لهذا السجن برتبة كولونيل يدعى بلاي ارتري الجنسية حكم عليه في قضية اختلاس. سن بلاي قوانين وطبق إجراءات ومارس عقوبات تعسفية قاسية جدا أضرت بالكثيرين وبصفة خاصة الحاج محمد. وبمجرد ان علم السجناء بقدومه سجينا، حذروا الإدارة، وعلى لسـان واحد، انهم وفي أول فرصة تسنح لهم، سوف يمثلون بجثته شر تمثيل. لم تشك الإدارة في جدية نواياهم وتحذيرهم لما تعرف من سوابقه الإجرامية فوقعت في حيرة من أمرها. اخيرا سألت الحاج محمد ان كان يوافق على وجود بلاى معه – في نفس الزنزانة التي وضعه فيها. قال ’اساء بلاى الى الجميع ووقع في شر أعماله ولا احمل أية ضغينة تجاهه ولا مانع من وجوده معي‘. هذا ما كانت ترجوه الادارة واخر ما توقعته، اعتبرت موافقته مخرجا للجميع ولم يستطع أحد أن يتهمه لا بالخنوع ولا بالتملق للإدارة وأدركت الأغلبية أن عقاب الله اكبر من انتقام بشر. ظل الحاج محمد رفيقا ودودا لعدو لدود، واحتراما له لم يتعرض له احد حتى خرج قبل قدومنا بفترة وجيزة.

مضى ردح من الزمن قبل أن تدرك إدارة السجن ورئاستها أنها أمام رجل قلما يجود الزمان بمثله. رجل هجر الدنيا بمن فيها وما فيها، لا يشكو من شئ ولا يشتكى عن شئ، إذا سئل أجاب وإذا أعطى اخذ. في بادرة غير مسبوقة في تاريخ السجن على الإطلاق، فكت الإدارة قيده وسمحت له بالتحرك في اكبر ساحة في السجن. تساءل البعض كيف استطاع هذا الرجل البدوي البسيط الذي لم يحظ بأي نصيب من التعليم ولا يتحدث لغة القوم أن يقنعهم بأنه أقوى منهم جميعا وانهم لن يقهروه مهما فعلوا، فأوصلهم إلى مرحلة الاعتراف بهزيمتهم صاغرين.

طبقا للقانون يظل المحكوم عليه بالإعدام مقيدا لحين اعدامه ويعطى اضافة الى المصروف العادي كوب حليب مجفف ورغيفين في كل وجبة. طلب الحاج محمد أن يسمح له تحويل نصيبه من الحليب والرغيف لمن يراه أحوج منه وحصل على الموافقة واستمر على هذا النحو حتى تزايد عدد القادمين السياسيين. اتفق مع عمال المطبخ على أن يستفيدوا بجزء من الحليب المخصص له مقابل أن يستقبلوا اي سجين سياسي فور وصوله بكوب منه كما حصل معنا. قد لا يدرك البعض مدى رمزية وتأثير هذا الكوب على السجين في أول خطواته نحو غياهب السجن.

كان الحاج محمد يعرف كل واردة وشاردة عن طريق عمال النظافة او عن عمال المطبخ وحتى بعض العساكر الذين يتعاطفون معه كشخص لا يعني هذا انه كان يتسقط الاخبار، على العكس لم يتجاوز حديثه كلمات عابرة، كنا نراه في طريقنا الى العيادة ولا اذكر أنني رايته واقفا يتحدث حتى الى الضباط الذين كثيرا ما حاولوا مجاملته. كان متحفظا حريصا على أن يكون قدوة في الصبر والمثابرة بعيدا عن الإثارة والتلهف الى سماع الاخبار لما لها من عواقب وخيمة وكانت هذه وصيته لنا ولغيرنا، وكان الاتصال بيننا عن طريق عمال النظافة من السياسيين الزملاء حمد شيخ، عبدالقادر عثمان بادمي، عبدالرحيم محمد بادمي وعمر آيم كلهم طلبة وحكم عليهم بعامين اعتقل الثلاثة من تسني والاخير من مصوع.

اوصانا في احد الايام بشخص ذكر انه وصل السجن ولربما ادخل معنا ولم يأت الا اننا فيما بعد أن الأخ احمد محمد هاشم وصل وادخل عنبر رقم 4. وفي حالة مماثلة، أرسلنا له بعض الطعام، فطلب من الرسول ايصاله إلى زميل في عنبر آخر وطلب منه إبلاغنا ان زميلا في عنبر اخر يمر بوعكة صحية.

فما ان حان موسم الاعدامات المشئوم حتى تم الاعلان عن حالة الطوارئ وتقييد كافة المحكوم عليهم بالإعدام بلا استثناء بمن فيهم الحاج محمد الذي تم نقله الى القسم الذي كنا فيه بعد ان خصصت زنزانته لمبيت كل من يعدم في اليوم التالي. لم تكن المسافة الفاصلة بيننا سوى نصف متر ومع هذا لم نلتق. نخرج بعد دخوله وندخل قبل خروجه الا اننا كنا نسمع حركته كلما ذهب إلى الحمام. قديما كانت تتم عملية الإعدام عن طريق مشنقة داخلية يعود تاريخها إلى العهد الإيطالي والعهد البريطاني والفيدرالي، ولكن نتيجة تزايد النشاط السياسي والعسكري عقب قيام الجبهة، بدأ تنفيذها في موقع الحدث أو مسقط رأس المحكوم عليه بالإعدام بغرض بث الرعب في قلوب المواطنين.

لربما تجاوز عدد المحكوم عليهم بالإعدام بصفة عامة ستين شخصا ينتظر كل منهم دوره وكأنهم خراف في حظيرة مواشي ليلة عيد الأضحى، وكان المناضل الشهيد سعيد بشير اول ضحاياها ثم المناضل الشهيد امبايى حدرو..الخ. عشنا أسابيع حزينة وكئيبة جدا نتوقع سماع إعدام أحد الزملاء. كان بعضنا يقضى ليلته مستنفرا لأية حركة أمام زنزانة الحاج محمد.

في الأعياد الدينية بصفة عامة يسمح للمساجين مقابلة ذويهم واستلام ما يحضرون من طعام، وحل عيد الفصح – بمثابة عيد الأضحى عند المسيحيين – بعد أسبوعين من تحويل الحاج محمد إلى قسمنا، واعتاد الحراس في مثل هذه المناسبة تناول وجبة الغداء واحتساء الشراب في مكان واحد اي في الفترة ما بين دخول المساجين وخروجهم. الحارس الوحيد الذي لم يتسن له المشاركة كان حارسنا بسبب موعد خروج الحاج محمد في هذا التوقيت. فكان عليه اما أن يحرم الحاج محمد من الفسحة أو أن يخرجه ويتركه في الساحة وحده، وفي الحالتين مسئولية كبيرة لها عواقبها. شعرنا بحيرته ورغبته العارمة لمعاقرة زملائه. بعد جهيد وتقديم بعض الفواكه لتقديمه لزملائه حيث لم يحضر ما يشارك به وافق على ترك الحاج محمد معنا فقط لنصف ساعة فكان اللقاء الأول والأخير بيننا وبينه. وانضم الينا زملاؤنا في الزنزانة الاخرى واحطنا بالحاج محمد كالسوار بالمعصم قياما وقعودا. اكتفى بقضم شيء مما قدمنا له وقال ممازحا ’نحن لا نحسن أكل طيور البحر‘ يعنى السمك. كان يمر الوقت بسرعة فشرعنا في طرح ما يجول بخاطرنا وكلنا آذان صاغية. كان الحاج محمد من الصنف البشوش الذي يعتقد من يراه أنه يبتسم، يتحدث بهدوء وبصوت خافت يزعج السامع وينتقى كلماته وكأنه يستحضر المشهد وادراكا منه أهمية اللقاء، كان عفويا ومباشرا.

كانت الاسئلة دفعة واحدة كسبا للوقت: سألناه عن اسمه الكامل، مسقط رأسه، وطبيعة عمله، متى وكيف التحق بالثورة، كيف تمكن من جرح عددا من العدو بالسيف ولم يصب بالرصاص مع أنها مزقت ملابسه، هل كان بإمكانه شطر راس الجندي الذي أصابه بالحجر لولا انه أمسك عنه في آخر لحظة، وهل امسك عنه بعد أن عرفه لاعتبارات قبلية. ما مدى صحة ما قيل عن انه كان محجبا وان أن ملابسه أرسلها أبى أبى - ممثل الملك إلى وزارة الدفاع في أديس أبابا ليؤكد انه يحارب قوما لا تصيبهم الرصاص. واخير سألناه لماذا استمر في القتال طالما تمكن حامد من الانسحاب. وختاما أبدينا له استعدادنا لتبليغ أو تنفيذ أي طلب أو وصية يريد ابلاغها أو تنفيذها.

وكانت ردوده على النحو التالي:

• اسمي محمد ايرا موسى من أبناء قرية أمال – عد إبراهيم في منطقة ساوا. كنت اعمل في دكاني وأعيش حياة لا باس بها الى ان زارني في أحد الأيام القائد الشهيد حامـد إدريس عواتى لمعرفة قديمة. شرح لي ممارسات الحكومة والحقوق الوطنية المغتصبة والهدف من قيام جبهة التحرير الارترية ثم طلب منى الانضمام إليهم. استمهلته لبعض الوقت لأفكر في الامر واتدبر امري. أقفلت دكاني وصفيت ديوني، سلمت ابنتي الوحيدة إلى من يؤتمن في أمرها، ثم توجهت إلى بيت الله الحرام لاداء فريضة الحج. عدت إلى مسقط رأسي وودعت أهلي وذهبت إلى حيث يتواجد القائد حامد متسلحا ببندقية عتيقة وسيفي سولاب الذي قلما فارقني.

كان حامد يتمتع بخصائص قيادية ومهارات عسكرية، وكانت استراتيجيته العمل على إرهاق واستنزاف العدو جسديا ومعنويا وعسكريا من خلال إجباره على ملاحقتنا لأيام عديدة والانقضاض عليه كلما سنحت الفرصة مع الاكتفاء بالمناوشة وعلى هذا النحو عشنا في كر وفر. هاجمنا ذات مرة العدو واستطاع بفضل تفوقه العددي محاصرتنا، كنت الاقرب الى حامد عندما أدركنا استحالة انسحابنا سالمين فطلب منى حامد الانسحاب على أن يغطيني وكانت تصويباته دقيقة. إلا إنني رأيت أن سلامته وحياته أهم من سلامتي وحياتي فأصررت عليه للانسحاب وأغطيه أنا. وبينما هو ينسحب معتمدا علي، تعطلت بندقيتي فما كان منى إلا أن استل سيفي وأباغت الجنود مستفيدا من التداخل بيننا. اربكتهم المباغتة بشكل كبير ما أتاح لحامد اكمال انسحابه وسقطت انا بعد اصابتي بحجر في جبهتي.

• فيما يتعلق بالجندي الذي أصابني، صحيح لربما كان بإمكاني أن أصيبه بضربة قاضية وصحيح أيضا أنني أمسكت عنه عندما عرفته ولكن ليس لاعتبارات قبلية بل لأننا كنا على اتصال به وكان على وشك الانضمام إلينا فخشيت أن اصيبه ويكون هو قد خرج مكرها.

• أما موضوع الحجاب (ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة) لو كانت الاحجبة تقى من الرصاص للجأ إليها الجميع قبلنا، أما أنا فلا أؤمن بمثل هذه الخزعبلات وان سلامتي من الرصاص دليل على أن عناية الله وحفظه اكبر واوسع من أي شيء اخر، لا اكثر ولا اقل.

• بالنسبة لملابسي، فعلا لاحظت بعد أن أفقت من الغيبوبة انهم استبدلوها ولا علم لي بما حصل لها.

(عندئذ ذكر لنا الأخ الزميل صالح عبد القادر بشير انه كان في اسمرا في هذا الوقت وسمع أسر الحكومة جنديا من الجبهة بعد اصابته بحجر نتيجة عدم تأثير الرصاص عليه وان ملابسه أرسلت إلى وزارة الدفاع في أديس أبابا.

(وذكر لي شخص التقيته في جدة يدعى محمود نور حسين كان معلما في المدرسة العالمية الارترية في جدة بالمملكة العربية السعودية انه كان في بارنتو في اليوم الذي اسر فيه الحاج محمد وسمع هذه الاشاعة، وصادف ان الشرطة طلبت منه وزميل اخر للمساعدة في الترجمة اثناء التحقيق مع الحاج محمد الا ان وضعه لم يسمح له بالحديث حيث كان ملفوفا بضمادات لا يكاد يبصر، وانه لاحظ أن ملابسه تدل على أنها استبدلت، وعلم من الحارس انه تم فعلا استبدال ملابسه وارسالها إلى جهة لا يستطيع تحديدها).

• أما لماذا واصلت في القتال.. كان العدو يدرك تماما أنه يتفوق علينا عدة وعددا واننا نتفوق عليه روحا وإرادة، وهذا كان فهمنا وبالتالي كنا نحس اننا متكافئين. فتوقفي عن القتال حتى بالسيف كان سيعنى استسلامي وسيقوى من معنوياته التي كنا نعمل جاهدين لتحطيمها وربما اعتبرها نقطة تحول ايجابية لصالحه.

(ذكر لي شخص يدعى محمد الحسن من رفاق حامد الاوائل التقيته في قوات التحرير الشعبية عام 1978 ان الحاج محمد ايرا كان من الأشخاص الذين كان حامد يستحي أن يأمرهم بالانسحاب لأن هذا في نظرهم هروب وهم يؤمنون بإحدى الحسنيين – النصر أو الشهادة.

• أشكركم على تدبير هذا اللقاء واستعدادكم لتلبية رغبتي أو وصيتي، وفى الحقيقة ليس لي ما أوصيكم به سوى أن تدعوا لي بالمغفرة وان يتوفانى الله يوم الجمعة.

في يوم الخميس من ذات الأسبوع وبعد صلاة المغرب، أعدنا اليه كتيب السيرة النبوية الشريفة التي كنا نتبادلها معه، وفي الليل سمعنا تكبيراته وهو يتنفل. صبيحة يوم الجمعة، في تمام الساعة السابعة دخل علينا الشاويش خليفة لأخذ العددية، لاحظنا أن وجهه المميز بالبشاشة تكسوه مسحة من الحزن، مقطبا صارما.. لماذا؟ دخل عمال المطبخ وخرجوا صما بكما لا ينطقون.. لماذا؟ لم يتجرأ أحدنا على إخراج المبولة مع أنها أول شيء نقوم به فور فتح الباب.. لماذا؟ أيضا، لم نسمع اخراج زملائنا في الزنزانة الأخرى مبولتهم.. لماذا ؟ كنا نتاسبق إلى الحمـام الوحيد، وأحيانا بشكل صبياني حسب الحالة والحاجة، ولم يشكو اليوم احد من حاجته.. لماذا ؟ جاء زملاؤنا يسألوننا عن أخبار مع أننا سنلتقي خلال ثواني.. لماذا؟... وكان الجواب الذي تهرب منه الجميع.. الطريق إلى الحمام كان يمر أمام زنزانة الحاج محمد التي شعر كل منا بغريزته الفطرية أنها مفتوحة خالية من (...). لم يتجرأ أحد أن يكون أول من يصرح بهذه الحقيقة المرة. خرجنا إلى الساحة لنتأكد من الحارس فوجدناه جديدا نقل من مدينة أخرى وكان حزينا مغموما لان تكلفة الحياة في اسمرا أغلى من تكلفتها في بلدته. كل يبكى على ليلاه! ساد السجن حداد عام والكل يعتبر نفسه أولى بالعزاء حتى لو كان غير سياسي. لم يترك الحاج محمد ما يورثه سوى مصحف ومسبحة وكتاب السيرة لعله كان من نصيبنا.

معظم الحراس يعتبرون موسم الاعدامات فرصة مهمة لزيادة الدخل وربما الترقية، حيث يتقاضى من يشارك في الإعدام مبلغا مقطوعا يعتبر مجزيا. بالتالي، كانوا يقيدون أسماءهم مقدما، بل كان بعضهم يوسط معارفه أو أقاربه للحصول على الأولوية ولاسيما إذا كانت المنافسة كبيرة. اختلف الامر في قضية الحاج محمد جذريا. لم يقيد أحد اسمه واعتذر معظم من اختارتهم الإدارة حتى اضطرت إلى الضغط عليهم ووعدتهم بإتمام العملية بسرية حتى لا تعرف أسماء المشاركين. لم يكن سبب الإحجام خوفا من الانتقام السياسي بدليل انهم شاركوا في إعدام سياسيين كثيرين، انما لان من يعدم اليوم كان امة شهد له الاعداء قبل الاصدقاء.

ذكر لي عامل نظافة مختص بتنظيف مكاتب الإدارة ان مدير السجن الميجر تخلي انزعج كثيرا عندما حان موسم الاعدامات ولاسيما عندما علم وجود اسم الحاج محمد في الكشف، وكان يتمنى لو انه أحيل إلى المعاش قبل أن يرى فيه مكروها. وفعلا كلف نائبه بالمهمة ولم يحضر إلى المكتب.

ما زال الحاج محمد وزملاؤه الأوفياء من الرعيل الأول مدرسة في تعليم كيفية الالتزام بالحــق، بعيدا عن المراهنات والمداهنات أو المساومات. فالحق أحق أن يتبع ولو كان على حد السيف أو حبل المشنقة، والقوة لا تجعل الظلم حقا كما لا يمكن أن يكون الحق حقا ما لم يتم تفعيله وممارسته عمليا وإلا ظل حبيسا في بطون كتب التاريخ.

حاولت في هذه العجالة أن انقل إلى القارئ الكريم بعض اللمحات عن الحاج محمد ايرا. عايشت بعضها وسمعت عن بعضها الآخر وبما جادت به الذاكرة.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click