تحرير مساجين سجن عدي خالا 1975 - الحلقة السادسة والأخيرة
بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت
بينما كنا نعتزم طلب لقاء مع الجهات العليمة بعملية اقتحام سجن عدى خالا لمعرفة ما خفى عنا حول تطوراتها الخارجية والتغيير الذى طرأ عليها، والادلاء بافاداتنا لتوثيق الحدث باعتبارنا كنا طرفا فيه، وجدنا انفسنا فى قفص الاتهام بالانتماء لـ (المضادة) - قوات التحرير الشعبية، مع ان كل العناصر المنتمية والراغبة فى الانضمام الى قوات التحرير الشعبية انفصلت عنا طواعية فى اليوم الثانى لتحريرنا! لم يذكر عثمان ازاز - عضو المجلس الثورى - الذى تولى التحقيق معنا الحيثيات التى بنوا عليها التهمة ولم يستطع ان يثبت انه كانت لنا علاقة بقوات التحرير الشعبية لا قبل السجن ولا بعده. وبنفس القدر، لم يستطع زملائى الاربعة اثبات علاقتهم بالجبهة قبل السجن. لانهم ببساطة حكم عليه خمسة اعوام بتهمة كتابة منشورات وطنية وتعليقها فى المدارس.. ليس الا! لم يسألنى عثمان ازاز عن علاقتى بـ (بالمضادة) قبل السجن لان التنظيم لم يكن موجودا، ولم يكن بحاجة ليسألنى عن علاقتى بـ (المضادة) بعد السجن لاننى عضو اصيل فيها بالميلاد ”ان لم تكن انت فانه اخوك!“. هكذا كانت تنطق عيناه اكثر من لسانه!.
رشحت بعض المعلومات التى جعلتنا نعيش فى حالة توجس واستنفار بحيث فزعنا جدا عندما جاء ابراهيم محمود قدم - عضو المجلس الثورى - الى الموقع فى وقت متأخر من الليل يسأل عنى. لم تكن لى معرفة سابقة به، ومع ذلك جاء لتهنئتى شخصيا! سعدت به وبزيارته كثيرا حيث خففت عنا الضغط.. وصادف ان خصنى الاخ محمود بشير - عضو المجلس الثورى - فى اليوم التالى بزيارة مماثلة وحتى فى التوقيت! الاخ محمود زميل دراسة وربما الوحيد الذى بقى فى الجبهة ممن كنت اعرفهم! ما زلت احفظ للاخوين ابراهيم ومحمود تلك اللفتة الاخوية المعبرة. الشهيد على عثمان حنطى - عضو المجلس الثورى - من الاشخاص الذين تعرفت بهم واطمأنت اليهم واكن لهم كل تقدير. كان يقضى معنا معظم وقت فراغه بالليل وعرفنا منه الكثير عن شئون الجبهة وشجونها فى حدود ما تسمح به مسئولياته التنظيمية. كان متواضعا، اجتماعيا، عفيف اللسان، يحب التحدث عن المستقبل اكثر من اجترار مآسى الماضى ورواسبها قطع ذلك التحقيق الغامض الشك باليقين. كانت لنا قبله ملاحظات كثيرة لم نأخذها مأخذ الجد. فى اليوم الثالث لتحريرنا، على سبيل المثال، عقد سعيد صالح اجتماعا حضره المئات من المستجدين والسجناء والكثير من ابناء تلك الضواحى.
قال ضمن حديثه وهو يخاطب السجناء ”… لقد خضنا غمار الحرب الاهلية ضد المضادة ونحن نضحك، وايضا سوف نخوضها اذا اضطررنا ونحن نضحك، ونعلم جيدا أنكم ايضا كنتم تخوضون داخل السجون نفس الحرب بنفس الروح ضد نفس العناصر ونحن نقدر لكم ذلك …الخ“. عقب صالح جابر وراك، وكان مفوها، على ما ذكره سعيد صالح قائلا ”اولا.. يؤسفنا ان تقول انكم خضتم الحرب الاهلية وانتم تضحكون، فعلى الاقل، كان ينبغى ان تخوضوها وانتم تبكون لانكم فى النهاية كنتم تقاتلون اخوانكم فى الوطن. اما بخصوص قولك انه كانت فى السجن حرب بين السجناء السياسيين فقد كذب من قال لك ذلك لاننا لم نسمع انه حصلت ولو لمرة واحدة مشاجرة سياسية ناهيك حرب اهلية“.
تألمنا كثيرا لسماع ذلك التشويه على لسان سعيد صالح والذى اكد لنا ما كان قد نما الى علمنا فى اليوم السابق. قيل لنا قبيل ذلك انه عقد فى اليوم التالى لخروجنا اجتماع برئاسة سعيد صالح وحضور بعض الزملاء من السجناء وانه تم فى ذلك الاجتماع تصنيف السياسيين على اساس انتمائهم التنظيمي، وانه بناء على ذلك الاجتماع تم توجيه بعض الزملاء الى مواقع تنظيمية مختلفة!
صبيحة يوم التحقيق، كان من المقرر ان يعقد ابراهيم محمد على - عضو اللجنة التنفيذية - سمنارا امام حشد كبير من المقاتلين، الطلبة المستجدين وابناء الضواحى، ولكنه استبدل السمنار بالقاء خطاب. كان عصبيا حاد التعابير اعتمد على توجيه الاتهامات والادانات اكثر من اعتماده على السرد التاريخى والتحليل الموضوعى. وفى ختام خطابه رفض الاستماع الى اية مداخلات او الاجابة على اية اسئلة ولم يتم ترجمة ما قاله الى اللغة التجرينية. فوجىء الطلبة تماما بتحول السمنار الى مجرد خطاب، ثم بعدم اتاحة الفرصة للسؤال والمداخلات وبعدم ترجمة الخطاب. لم يكن بينهم من يفهم اللغة العربية.
تفجر بينهم نقاش وجدل علنى واصبحوا بين مؤيد ومعارض لاشياء لم نعرفها جيدا، لانهم وحسب ما بدا لنا، كانت هناك اسئلة منسقة وربما محرجة لطرحها. فمنذ وصولنا الى الموقع، كنا نلاحظ وجود عناصر من خارج الموقع تقوم بتحركات واتصالات بالطلبة وخصوصا بعد حلول الظلام، مع ان الدخول الى الموقع كان ممنوعا الا بتصريح رسمى، وكنا نلاحظ، فى نفس الوقت، التباينات الكبيرة فى التعليقات والملاحظات التى كان تتبادلها بعض الكوادر والادارات التى كانت تتحرك فى الموقع ولكننا لم نعرف خلفيات ما يحدث بالضبط. عقب الخطاب، اتضحت الصورة وعرفنا ماهية الاتجاهات والتوجهات التى كانت تتنافس، ان لم تكن تتصارع، للتأثير علي الطلبة ومن خلالهم على نتائج المؤتمر التنظيمى المرتقب.
استشفينا من خطاب سعيد صالح سابقا وخطاب ابراهيم محمد على وتبعاته لاحقا، ان النار تحت الرماد واننا لم نكن على مشارف الوحدة حتى داخل الجبهة ناهيك ان نكون على عتبة الحرية كما بدا لنا وللامهات اللواتى كنا يزغردن ويتغنين بها، بقدر ما كنا على وشك حرب اهلية لا هوادة فيها. وأدركنا ايضا، أن الإلتحاق بالثورة لا يستدعى الاستعداد الكامل لمقاتلة العدو فحسب، بل ويستدعى أيضا استعدادا مماثلا لمقاتلة الشقيق شقيقه في شقه (تنظيمه) وفى الشق الآخر من الثورة في حرب لا ناقة لهما فيها ولا جمل.
عندئذ.. وفقط عندئذ اعترفنا أن السجن كان أوسع بكثير مما اعتقدنا وان الحرية أضيق مما تصورنا وانما الامور تقاس بما يحمله الانسان بين ثناياه من مفاهيم وقيم.
تمكنا من الوصول الى كسلا بسلام بفضل تعاون بعض الاخوة ممن تعاطفوا معنا والذين كانوا قد نصحونا قبل ذلك، بطريقة غير مباشرة، بالخروج من الميدان.. ولكن بغرض ”الاستراحة!“.
عندما سمع العم احمد دنكلى، طيب الله ثراه، كان عضوا فى اللجنة الشعبية بكسلا - نقاشى مع جبداى - رئيس المكتب العسكرى - وعلم فيما بعد بأننى خرجت من السجن وطردت من بيت المقاتلين لاننى لم احضر توجيها من الميدان، ولا اعرف فى كسلا احدا، رقّ لحالى وعرض على، بدون معرفة سابقة، ان يستضيفنى فى بيته الى ان تتضح لى الرؤية.. وانا بدورى، عملا بقول الشاعر ”يجود الاكرمون من جودهم ونحـن من جـود الاكرمـين نجود“ استضفت فى داره زملائى الاربعة. تقبل العم احمد طلبى بطيب خاطـر وبموافقـة ابنيه عبد الرحمن وعمر، جزاهم الله عنا خيرا.
بعد اسبوع من التفاكر حول ما وصل اليه حالنا، اتفقنا على ان نوزع انفسنا بين التنظيمين لعلنا نساعد بذلك على دفع الوحدة! عاد كل من ارمياس وبرهانى الى الميدان وكأنهما كمستجدين قدما من الخارج، وانضم قرماى ويعقوب الى قوات التحرير الشعبية وبقيت انا فى الجبهة.. عضوا غير مرحب به او بالمعنى الاصح.. ”دخيلا“. كنت الاحظ مدى عمق الكراهية وعدم الثقة التى خلقتها وخلفتها الحرب الاهلية.. حرب بدأها اناس كانت لكل منهم رؤيته، ولكل منهم تصوره بأحقيته لاكبر قدر من السلطة الوهمية. من الثابت ان عداء ذوى القربى لعوامل ذاتية وموضوعية يظل اشد ضراوة ومرارة من اى عداء اخر، وتأكد لى ان المنطق الذى اعتمدته، فى الواقع العملى، كان نوعا من القفز فوق الطبائع الانسانية.
إن أحداث الماضي لا يمكن تصحيحها بأثر رجعى بقدر ما يمكن الاستفادة منها قدر المستطاع لخلق وطن آمن ومستقر ومستقبل افضل للأجيال المقبلة مع الإدراك التام انه لا يمكن أن يتأتى هذا الأمن وهذا الاستقرار ، بصفة عامة ، إلا من خلال الإشراك والمشاركات الفعلية والفعالة من كافة الفئات الاجتماعية وفى كافة مناحي الحياة بمستوى تتلاشى معه الفوارق والرواسب الشكلية وبما يقود إلى الحفاظ على المكتسبات المحققة وبما يؤدى إلى التقدم والازدهار.
هذه رواية من شارك فى عملية اقتحام سجن عدى خالا، وخرج من السجن بل ومن الجبهة بنظرة محددة. بطبيعة الحال، قد يتذكرها الاخرون ممن شاركوا فيها على نحو مختلف. لا اقول انهم مخطئون ولكننى اقول ان هذا ما اسعفتنى به الذاكرة حول معظم الاحداث التي عايشناها داخليا منذ اليوم الاول للاتصال.
عندما شاركت فى السمنارات لجماهير كسلا، طلبت بعض الإيضاحات حول التطورات الخارجية للخطة وماهية التغييرت التى طرأت عليها ودواعيها، ولكن بدون جدوى. لاحظت فى بورتسودان انه حتى مسئولى المكتب الذين كانوا يعدون لنا السمنارات والجماهير، كانوا مقتنعين تماما بأن عملية اقتحام سجن عدى خالا وايضا سجن اسمرا نفذها الجيش الشعبى وليس جيش التحرير، وان السمنارات التى كنا نعقدها مجرد عملية دعائية لكسب الجماهير قبيل عقد المؤتمر! واجهت نفس الموقف المحرج عندما التقيت ببعض الصحافيين الاجانب فى الخارج حيث طرحت على بعض الاسئلة التى لم استطع الرد عليها الا بالاجتهاد الشخصى.
سمعت من بعض المصادر أن الخطة المنفذة اعتمدت على تنكر وتسلل بعض الفدائيين ضمن الاهالى الزوار إلى داخل البوابة الرئيسية للسجن ومن ثم ارغام الادارة على الاستسلام، وان هذا التغيير طرأ قبل موعد التنفيذ بيوم او يومين. بصرف النظر عن حجم التغيير وتوقيته، لمَ لم نشعر به فى حينه حتى لا يتعرض الزميلان ارمياس وقرماى للشاويش ودى سنغال او بديله سليمان وحتى لا تكشف الخطة قبل تنفيذها؟ اما اذا نفذت الجبهة الخطة التى كانت قد وضعتها منذ البداية، فما الذى اضطرها، اذا، للاتصال بنا وبذلك الاسلوب العفوى وتعريض خطتها للخطر؟ وهناك تساؤل اخر.. ماذا كانت ستفعل الجبهة لو تدخل سلاح الطيران سواء لاتصال من جهاز لمخبر سرى فى المدينة او حتى لو اكتشفت الطائرات عملية الاقتحام صدفة بينما تقوم باستطلاعاتها الروتينية؟
اثرت هذه التساؤلات من اجل الاستيضاح والتوثيق التاريخى حفاظا على الانجازات التى استشهد معظم صانعوها وتركوها امانة على اعناقنا، وحتى لا تتحول الى ”الف ليلة وليلة“ جديدة او تجد طريقها الى سلة المهملات كمثيلاتها من البطولات التأريخية.
استشهد من الاشخاص المشاركين المذكورين كل من: سعيد صالح - قائد العملية، ارمياس مرهزين، برهانى تخليزين ومحمد قيتو. التقيت بسيوم عقبا ميكائيل عام 1982 فى ظروف سياسية غير مؤاتية لاستعادة الذكريات ومناقشتها، اما يعقوب كدانى وقرماى (بوليسيا) سمعت انهما يعيشان فى اسمرا.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.