الارهاصات الاولية وما قبل السياسية

سماديت كوم Samadit.com

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

احداث متتالية ومناقشات متواصلة كثيرة داخل الاسرة والمجتمع لربما هي التي اثارت مشاعر جيلي في حرقيقو ودفعتهم نحو الاهتمام

بالشأن الوطني في سن مبكر جدا، اكثر من أي توعية او توجيه من قبل اولياء الامور.

كان الحدث الاول والابرز الذي سمعنا عنه ولم نستوعب مضمونه خطاب سياسي مطول القاه الاستاذ محمد حسن حبيب (ترجمان) في جامع حرقيقو عقب صلاة الجمعة اثار حفيظة الاهالي حتى اصبح حديث الساعة لعدة سنوات.

ندد محمد حسن في خطابه بالحكومة الارترية متهما اياها بالفساد والفشل بل وبالتواطؤ مع الحكومة الاثيوبية، وقرع القوى الوطنية وبالذات الاسلامية تقريعا شديدا لعدم قدرتها على استغلال الفرصة المواتية لتحقيق الحد الادنى من المصلحة الوطنية ولمنافسة بعضها على امور واهية بلا أي طموح او رؤية لحكم البلاد ’حتى تولى عليها عبد حبشي‘ - هكذا كانت بعض الاحزاب الوطنية تصف رئيس الحكومة تدلا بايرو معتبرة اياه من عائلة حبشية وضيعة لم يمض عليها في ارتريا اربعون سنة.

القى القبض عليه بتهمة القدح واهانة الدولة، وتمسك امام المحكمة بصحة ما قاله رافضا توكيل محامي يدافع عنه. وفي الاخير، تنازل تدلا بايرو عن حقه الشخصي تفاديا لتداعيات كان فى غنى عنها وفي نفس الوقت سحبت الحكومة اتهامها حتى اخلي سبيله.

وحسب ما ذكر لي الصديق صالح عبد القادر بشير وغيره، درس الاستاذ محمد حبيب في السودان وعاد ابان فترة تقرير المصير وعمل مترجما في البرلمان الارتري في دورته الاولى ثم تقدم باستقالته لما اعتبره توجهات وممارسات سلبية.

مع انه اعتزل العمل ولدرجة كبيرة حتى الحياة الاجتماعية، ظل محافظا على رشاقته واناقته بنفس المستوى التي كانت عليها يذكر او يتذكر من يراه بموقفه الوطني الشجاع ولاسيما بعد ان تكشف للجميع ما كان يدور في الخفاء.

وبما ان العدو يحتفظ بذاكرة قوية ولا يؤمن بتقادم الجريمة، كان الاستاذ محمد حسن حبيب في مقدمة من استهدفهم في مذبحة حرقيقو التي ارتكبها الجيش الاثيوبي عام 1975 وراح ضحيتها المئات من اﻻبرياء. رحمة الله عليهم جميعا والهمنا حسن البصيرة.

عندما استولت مجموعة من شرطة مصوع بقيادة محمد سعيد شمسي على بعض الاسلحة ولجأت الى الجبال المحيطة في 1962/12/19، استنفرت الحكومة كل اجهزتها وامكاناتها للقضاء عليها في اسرع وقت ممكن، اما الاهالي فقد تعاطفوا مع المجموعة. فبينما اعتبرت الحكومة قمحط ادريس القتيل الوحيد من المجموعة متمردا، اعتبره الاهالي شهيدا ووري جثمانه الثرى بشكل لائق اضافة الى فتوى شرعية من الشيخ الشهيد محمد ادم (طباع) توجب مقاومة الهيمنة الاستعمارية الاثيوبية.

الرفض الصريح لدعوة الحكومة للمشاركة في الانتخابات البرلمانية على اساس انها لا تعنى الشعب الارتري، ثم التمسك بذات الموقف امام مدير الاقليم في اجتماع جماهيري حاشد عقد في ساحة المدرسة تحولت فيه المشادات اللفظية الى اعتداء شخصي على المحافظ وضع النقاط فوق الحروف. عشت هذه الاحداث وان لم استوعب الكثير مما قيل فيها حتى جاء في اليوم التالي إلى منزلنا الاخ محمد شريف سيد عبد الله يودع الوالدة عندئذ علمت انه هو الذي صفع المحافظ وانه قرر الفرار الى السودان هربا من بطش الحكومة التي سرعان ما بدأت في مطاردته، وعلمت ايضا ان العم طاهر بادوري والعم احمد يمني كانا من اكثر الناس تحدثا وتشددا.

كان من الطبيعي ان تستتبع هذه التطورات هواجس وشكوك متبادلة لها ما يبررها في رأي كل منهما وعلى سبيل المثال:

لعل اول شيء ارتاب فيه الاهالي كان تزايد مطرد في عدد الخادمات، عدد البائعين المتجولين سواء بحجة شراء زجاجات فارغة وملابس بالية (طرموز طرموز - طرقي طرقي) او متجولين بعربة مدفوعة يدويا (بيلا اوروبا) يبيعون ادوات منزلية ومواد استهلاكية ويطوفون البلدة طوال اليوم ويوميا، في السابق كان بائع واحد يأتي كل اسبوع او اسبوعين، ثم تزايد عدد النسوة اللواتي يبعن الشطة والشيرو ثم تأجيرهن محلات حولنها الى سكن يستقبلن فيه غرباء ضبط بعضهم يتلصص. اثارت هذه الظواهر الشكوك وفسرت انها عملية منظمة اكثر من كونها عفوية وتم التعامل معها بطريقة قلصتها الى ابعد حدود.

ظهرت على باب مدرسة البنات كتابات ورسومات لم يألفها المجتمع وبشكل متكرر ولم يعرف كاتبها الى ان ضبطه طلبة الابتدائية متلبسا واحضروه الى المدرسة، اتضح انه شاب معروف يجيئ من مصوع لهذه الغاية ويعود لمجرد نزوة لا اكثر.

زعم رجل اثيوبي انه مسلم فقير من قومية القالا فجمع له مبلغ من المال ومع هذا تلبث بالمسجد حتى رق له احد الطيبين واستضافه في بيته، وبعد ايام زعم انه شيخ يعالج بعض الامراض وحاول بشتى الطرق بناء علاقات ما لفت اليه الانتباه الى ان ضبطه بعض الشباب وهو يتحدث بجهاز منزويا تحت شجرة نبق على اطراف البلدة، وعندما شعر بهم هرب باتجاه السد حيث تم ادراكه وعثر معه بطاقة شخصية ووثائق اخرى فسلموه للشرطة. كنت ممن بحثوا عن الجهاز في المنطقة المذكورة الا اننا لم نجد شيئا بالرغم من اجماع الشباب. تعكس النقاط اعلاه مخاوف وسوء ظن الاهالي، وللحكومة ايضا كانت هواجسها.

دأبت فرقة الكشافة بقيادة الاستاذ ابراهيم جابر ادريس حسب الله على القيام برحلات صيفية. والاستاذ ابراهيم، كشاف محترف وصاحب رؤية مستقبلية كما سيرد فيما بعد. نال على وسام حكومي رفيع بعد ان قطع المسافة من اسمرا الى اديس ابابا (اكثر من 1000 كيلو متر) مشيا على الاقدام وكان اول من قام بهذه الرحلة وربما الوحيد. تكونت الفرقة من اربعة فرق: الاسد، الذئب، الثعلب والنسر، متوسط عدد كل فريق خمسة عشر فردا. وكانت الفرقة في هذه الفترة تشهد تراجعا كبيرا من حيث عدد الافراد في السن المطلوب من الطلبة ولهذا تم تصعيدنا من فئة (ب) الى فئة (أ) وحتى من كانوا اصغر مني سنا.

ووفقا للبرنامج كانت الرحلة المقررة هذه السنة الى منطقة دوقالي يتم خلالها تطبيق المعلومات النظرية. كان الجميع على علم مسبق بالرحلة وضرورة الاستعداد لها ولكن بدون تحديد الزمان ولا المكان.

تم استلام الاشعار بعد الساعة الثامنة مساء عشية يوم السفر عن طريق رسالة سرية تضمنت كل التعليمات. نظاما يتفق كل كشاف مع زميله على مكان محدد توضع فيه رسائله يراجعه بشكل روتيني مرتين في اليوم وخصوصا في ظروف معينة، اما اذا وضعت الرسالة في وقت متأخر من الليل يطرق حامل الرسالة ثلاثا على الباب وينصرف فيعرف الكشاف ان له رسالة.

تواجد الاعضاء في المكان والزمان المحددين بكامل زيهم الرسمي مع الشارات والعلامات والادوات الفردية: : حبل، سكين زمزمية ماء، صافرة عصا (عكاظ) ملاية نوم .. الخ وكلها معطوفة ومربوطة بشكل نمطي. بعد التأكد من توافر كل اللوازم والاحتياجات المطلوبة واكتمال الاستعداد، وزع قائد الفريق مهام العمل ليوم واحد : الاستطلاع، الطباخة، الذبح والسلخ، جمع الحطب، جلب الماء، الحراسة، الاتصالات .. الخ. واخيرا قام قائد الفرقة باستعراض الفرق وشرح طبيعة الرحلة مع توجيهات عامة حول ترتيب وتناوب الفرق في القيادة والفارق الزمني بين فريق واخر. رافق القائد وقواد الفرق الاربعة (القيادة) الفريق الذي سيكون في المقدمة.

تتطلب مهمة الفريق الذي يكون في المقدمة استطلاع الطريق ووضع علامات واضحة حسب طبيعة المنطقة : صحراوية، جبلية، غابة، نهرية ..الخ - يسترشد بها الفريق التالي في سلوك نفس الطريق، وكلما لزم الامر يترك رسالة مخفية بالطريقة المتعارف عليها تتضمن تنبيه، تحذير، توجيه .. الخ. فعلى سبيل المثال، الاشارة الى المكان الذي يتوفر فيه ماء وهل هذا الماء الاخير حتى بلوغ الهدف ام هناك اماكن اخرى، واذا كانت هناك قرية او باعة ايضا يشير الى نفس النقطة، واذا كان وضع امني يشرح طبيعته ..الخ. ويقوم الفريق الثاني بنفس العمل مضيفا اية مستجدات او معلومات حصل عليها . وهكذا يفعل الثالث.

يتفقد كل فرد وفريق قبل مغادرة أي موقع عهدته ومتعلقاته الا اذا كان الخروج اضطراريا فيتم هذا في اول فرصة تتاح، وفي حالة وجود عجز يتم اشعار القائد.

عندما وصلنا الى بلدة دوقلي على التوالي وتحددت المنطقة، تم اختيار موقع القيادة ومن ثم اختار كل فريق موقع معسكره في اماكن متباعدة ولكن متقابلة بحيث تتم الاتصالات مباشرة سواء من خلال الصفارة او اشارة. semaphore (استخدام الاعلام) او مصباح ولكل منها ميزاته. ومن ثم بذل كل فريق جهده للانتهاء من اعداد وتناول وجبته واعادة تنظيم حاجاته انتظارا للتعليمات.

الفترة الفاصلة بين الوجبات هي الفترة التي يتم فيها التحرك سواء للاستطلاع حول المنطقة للتعرف على طبيعتها ويتم تدوينه ويقدم في تقرير، او لتبادل الزيارات بين المعسكرات او ممارسة بعض الالعاب والانشطة. ولكن وفقا لخطة مصادق عليها مسبقا. وفي هذه الفترة يختبر القائد يقظة الفرق وانضباطها. على سبيل المثال، خرجت مجموعة استطلاعية من احد الفرق، فكلف القائد مجموعة اخرى لاقتفاء اثرها بدون ان تشعر بها. فاذا اكتشفت المجموعة الاولى وجود المجموعة الثانية فتحسب لها نقاط، واذا تمكنت المجموعة الثانية متابعة المجموعة الاولى بدون ان يكتشف امرها وقدمت معلومات عنها فتحسب لها. او اذا مرت مجموعة بموقع فيه نار او دخان بدون ان تكتشفه، او ناس يتحدثون ولم تسمعهم فتحسب عليها. ولو تمكن شخص من دخول معسكر او الخروج منه بدون ان يشعر به الحرس تحسب له وعلى الفريق نقاط .. الخ.

لعل اهم نقطة سجلت خلال هذه الرحلة، على حد علمي، قام احد الزملاء بزيارة احد الفرق وقضى معه وقتا واخيرا وضع قبعة كانت بالقرب منه على رأسه وغادر، ولم يدرك الفريق انه جاء بدون قبعة الا بعد ان خرج من المعسكر فحسبت على الفريق.

ومن التجارب التي يتم تداولها للتنبيه، في رحلة سابقة في منطقة عقمدا، عسكرت كل الفرق في وادي وتحركت منه بعد تناول العشاء قبيل الغروب للصعود الى جبل حيث تقرر المبيت، الا ان زميلين من الفريق الذي كان في المؤخرة تأخرا او رجعا، لا اذكر تماما، بضعة خطوات للتأكد من اطفاء النار او اخفاء اثارها تماما، وعندما حاولا اللحاق سدت مجموعة كبيرة من القرود الطريق امامهما، ولم تسمع اصوات صفارتيهما بسبب زعيق القرود التي اطبقت عليهما من كل جانب. ولم يتنبه الفريق بغيابهما او تأخرهما الا بعد مضي دقائق وﻻحظ تزايد زعيق القرود فاطلق صفارة الاستغاثة فتنادت كل الفرق وفتحت لهما مخرج ولكن بعد صراع . ظلت القرود طوال الوقت تشاهدنا وتراقبنا بعضها من مسافات قريبة جدا وبعضها من اعلى جبلين ولم يتعرض لها احد، وحتى عندما مررنا على بضع امتار امامها اثناء الخروج لم تبد اية حركة، ولكن عندما حانت الفرصة حاولت الاعتداء. واغلب ظني ان الزميلين كانا احمد طاهر بادوري ومحمد عبد الرزاق. ذكرت هذه الحادثة ضمن تجارب الفرقة.

وقبيل سفرنا ذهبت القيادة الى دكان العم عييد يماني الجنسية لتشكره على استضافته للفرقة حيث تبرع بتكلفة غداء يوم. ولابد لي ان اذكر الزميلين عبد الله ابراهيم انصرا وحامد عبدالقادر قولاي اللذين عوقب فريقنا بسبب تبادلهما نكتة اضحكت الجميع في وقت يحظر فيه حتى الكلام. قضينا ايام ممتعة ومثيرة وثرية بالتجارب تفاعل خلالها الجميع طوال الوقت بحماس بالرغم من طول المسافة والحمل الثقيل والقيام بأعمال مضنية تنجز في وقت قياسي مع الاستنفار المستمر وفي حالة خوف من ارتكاب خطأ او فشل في تأدية واجب ولاسيما لمن كانت تجربتهم الاولى.

بعد عودتنا بفترة تلقت المدرسة تعليمات حكومية تقضي بعدم قيام الفرقة بأية رحلة خارجية لأسباب امنية والاكتفاء بنشاط داخلي.

ولم تمض الا فترة قصيرة حتى وقعت عدة سرقات في البلدة وقيل ان اللصوص يأتون من الخارج، فامر الاستاذ ابراهيم فرض حصار على منافذ البلدة من وقت الغروب الى الشروق، وكانت المنافذ: منطقة ماي ملح، منطقة (تقودلي) السد، منطقة وافي ومنطقة فرارا، واقامت القيادة على قمة جبل عساولي - فوق تلة ام سيد حليمة التي تشرف على البلدة. وكانت الاتصالات تتم عن طريق اشارات ضوئية بالمصباح. حوالي الساعة الثانية افاد الفريق المرابط في منطقة فرارا انه يشاهد ضوء خافتا في الساحل، وصدرت اليه تعليمات بالبقاء في مكانه لعل مصدر الضوء بعض الصيادين الذين يبحرون في هذا التوقيت. وبعد الشروق مسح كل فريق منطقته للتأكد من عدم وجود اثار جديدة خارجة ثم انصرفنا الى منازلنا. سمعنا في صلاة الجمعة انه تمت سرقة منزل العم ياسين عبد الكامل جميل وان الصندوق المسروق وجد في منطقة الساحل خاويا!

وبعد هذه الحادثة بقليل تبلغت المدرسة تعليمات جديدة تقضي بعدم قيام الفرقة باي نشاط الا بعد حصول على تصريح مسبق، فكانت بداية نهاية فرقة الكشافة. في نظرنا ان ما كنا نقوم به مجرد عمل كشفي لصالح المجتمع، اما في نظر الحكومة فكان عملا غير صالح. هذه نبذة عن الوضع في. هذا الوقت وارجو من الزملاء الذين عايشوا هذه الاحداث التصحيح والاضافة.

دور فرقة الكشافة:

ذكرت في الحلقة السابقة ان الحكومة امرت بعدم قيام فرقة الكشافة بأي نشاط لا خارجيا ولا داخليا الا بأذن مسبق، وما لم تعلمه الحكومة وحتى بعض المنتسبين الى الكشافة، الا عندما يحين دور كل منهم، كانت للكشافة ادوار كثيرة. فعلى سبيل المثال، عندما علم اعضاء الفرقة بسرقة منزل العم ياسين عبد الكامل جميل بينما هم يؤمنون البلدة شعر معظمهم بالإحباط، اما الاستاذ ابراهيم، وحسب ما ذكر لي زميل فيما بعد، اعتبر العملية انجازا لأنها كشفت عن وجود اللص في البلدة وتأكد من خلال تقصي اثره الى الموقع الذي وجد فيه الصندوق انه كان شخص واحد، ومن هنا استنتج انه قوي البنية والا لما تمكن من نقل الصندوق بهذا الحجم الى مسافة طويلة. وعلى ضوء هذا المعلومات، قلص عدد من كان يشتبه فيهم الى ان توصل الى الفاعل الحقيقي واشعر ال جميل بمن سرقهم.، ومن مازال على قيد الحياة منهم الاقدر على تأكيد صحة هذه المعلومة من عدمه.

ومما يذكر تاريخيا ان أهالي حرقيقو ومنذ تأسيس بلدتهم في حوالي عام 1590م اتفقوا، ولو ادبيا، على ابقائها على طابعها المحافظ بعيدا عن تأثيرات ومؤثرات المدينة، ولهذا عاشوا فيها على مستوى شبه واحد حتى من يملكون عمائر في مصوع. وبالتالي، لم يوافقوا على طلب الشيخ محمد بن على بن الامين عام 1840 اقامة ضريح او مزار له فرحل الى بلدة امبيرمي. وتكرر نفس الموقف عام 1885م مع طلب مماثل تقدم به سيد هاشم الميرغني، ولكن مع استمرار التعاون والتعامل مع الطرفين حسب مقتضيات الحاجة.

عين المراغنة ممثلا لهم اطلقوا عليه لقب ’خليفة الخلفاء‘ من ضمن مهامه ترشيح الاشخاص الذين يمنحون لقب ’خليفة‘. اخر ’خليفة الخلفاء‘ كان الخليفة محمد عبدالله خليفة عثماني. ويذكر ايضا انه نشأت في البلدة عدة طرق صوفية تلاشت معظمها عدا ثلاث ختمية عباي- كل اعضائها من الرعيل الاول، ختمية واحمدية. ولعل عدد من كانوا يحملون لقب ’خليفة‘ في الوقت الذي وعيت فيه لم يتجاوز عدد اصابع يد واحدة حيث كان المرشحون يكتفون بسداد المبلغ المستحق كمساهمة بدون حمل اللقب، او على الاقل، الاعلان عنه.
اما فيما يتعلق بدور الطرق الصوفية، وحسب مشاهدتي، كان مقتصرا على احياء المناسبات الدينية بتلاوة السيرة النبوية قعودا ثم ’الحضرة‘ قياما في حلقة واسعة تـأخذ فيها كل طريقة موقعا تتناوب منه فقرات المديح تحت قيادة خليفة الخلفاء او من ينوب عنه وفي الغالب العم الخليفة عثمان منسعاي واحيانا العم حجي عبد الله. وانتعشت هذه الطرق مجددا في اوائل الستينيات فوسعت دائرة نشاطاها ومشاركاتها وسط منافسة شديدة لاستقطاب الشباب وخصوصا بين طريقتي ختمية واحمدية.

ومع تزايد عدد من يحملون لقب ’خليفة‘ واقامتهم الحضرة كنوع من التعريف او التقليد، واقامة الحضرة بمناسبة العودة من الحج واحيانا الزواج وحتى النذر، توالت المناسبات وارتفعت سخونة المنافسة. وتطور الامر بالمشاركات الخارجية ابتداء من حولية الميرغنى في حطملو، حولية سيدى هاشم في كرن الى ان بلغت ذروتها بحولية الشيخ احمد النجاشى في عدي قرات في اقليم تقراى في اثيوبيا. وبالتبعية يحتاج كل منها الاستعداد الكامل بمدائح جديدة مع الحفظ والتدرب جماعيا على ادائها.

وبلا شك اضفى ظهور الخليفة ادريس شنقب - من كرن – طابعا جديدا وتأثيرا كبيرا في اشتعال الحماس . كان يتولى قيادة الحضرة بأسلوب مغاير جدا لما عهده الناس حتى أخرجها من رتابتها ان لم يكن من وقارها ايضا، وكان خليفة الخلفاء يفسح له المجال نزولا على رغبة الشباب الذين كانوا يتفاعلون مع قفزاته صعودا وهبوطا وترنحا يمينا وشمالا وهو يغطى الحلبة طولا وعرضا بسرعة وتمايلات عجيبة يندمج فيها المشاهدون كالمشاركين في غاية الهيام حتى اصبح الخليفة ادريس نجما تطالب به الجماهير وتقدم له دعوات حتى في مناسبات خاصة. واذا اشيع انه سيشارك في حضرة ما حرص الجميع على حضورها ولاسيما الشباب.

كانت هذه النشاطات في نظر البعض نوع من الترويح والتسلية وسد الفراغ عوضا عن اللهو في نواحي اخرى، بينما اعتبرها البعض ملهاة للشباب عن العلم والعمل ومضيعة للمال في ظروف حياتية صعبة. في هذا الظرف والاجواء الملبدة بإرهاصات سياسية واجتماعية، زعم احد الاهالي انه رأى في المنام الشيخ ابي الحسن الشاذلي وانه طلب منه اقامة حولية باسمه في حرقيقو. بطبيعة الحال، قوبل طلبه بالرفض الا انه اصر على قراره بالرغم من كل الاعتراضات والنصائح التي قدمت له وحدد زمان الحولية ومكانها مع المحاولة لإحياء او انشاء طريقة الشاذلية التي عفى عليها الدهر.

يمكن القول ان الحولية ولدت ميتة بسبب مقاطعة شبه كامل من الاهالي وقلة من قصدها من الخارج في نفس الوقت الاجواء التي سادت. ونظرا لعدم وجود زبائن وبعض المضايقات تفكيك المراجيح التي نصبت ورفعت موائد القمار واليانصيب وغادرت الغواني وبعض الفاسدين المفسدين الذين لا ينشطون الا في مثل هذه المناسبات قبيل المغرب. لست ادري اذا كان للزملاء الذين كانوا متواجدين دور في المضايقات المزعومة، اما انا فقد كنت مكلفا بالتعرف على نوعية السيارات القادمة، لم يتجاوز عددها العشرة ستة منها سيارات اجرة تكرر بعضها، وواحدة ملاكي لشخص معروف وثلاث حكومية كان فيها مسئولون وعوائلهم، وحسب ما سمعت فيما بعد انهم من القوة البحرية. بعد تناول العشاء كون من تبقى من المدعوين فريق واحدة واقاموا حضرة (صدر وخفيف واحد) وانفضت الحولية للمرة الاولى والاخيرة.

كنت في احد الايام ذاهب الى منطقة السد لمشاهدة سيل نزل توا والتقيت في ملتقى الطريق بالعم (م ش ). توقفت حتى مر ثم تبعته ليس من باب الاحترام فحسب بل وبداع خوف حيث كنت قد سمعت انه اصيب بنوبة عقلية الا انه كان بنفس هدوئه واناقته بعمامته المميزة، في الحقيقة اعرفه منذ الصغر وهو على هذا النحو. كنت اسير خلفه في مسار ضيق نتيجة كثافة الحشائش الموسمية فسألني عن اسمي وعندئذ تحدث عن علاقته بالوالد، ثم سألني ان كنت ادرس ومن ثمة سألني ان كنت عضوا في الطرق الصوفية. كل هذا بدون ان يلتفت الي. كنا نقف فوق السد عندما واصل كلامه متنهدا بعمق وكأنه يعتصر الما ثم قال ضمن اشياء كثيرة: ’يا بني هؤلاء القوم – الطرق الصوفية - يريدون ان يدمروا الشباب ويضيعوا مستقبلهم، يشغلونهم بأشياء لا تقدم ولا تؤخر.

كنت في الاربعينيات شابا اعمل في ورشة ميكانيكا يملكها ايطالي في منطقة قرار في مصوع، وكنت جادا طموحا قبل ان انخرط خطأ في احدى هذه الطرق واتحمس لها الى درجة لم اغب عن مناسبة حضرة واحدة، وبالمقابل بدأت اتراخى في العمل واتغيب بشكل مستمر وما اكثر تأخري واستهتاري وكسلي في اداء مهمتي بسبب الاجهاد والتعب جراء السهر الطويل. وبعد عدة سنين قرر الايطالي العودة الى بلده وعرض علي ان يبيعني الورشة بثمن بخس على اساس اني مواطن، ولكن لأنني لم اتقن المهنة كما ينبغي اعتذرت فباعها لزميلي في العمل يمني الجنسية، فأصبحت عاملا تحته وسرعان ما استغني عن خدماتي، فأصبحت عاطلا في وقت انكمش فيه سوق العمل وفي عمر يصعب فيه تعلم مهنة جديدة فضلا عن مسئوليات عائلية، فعانيت معاناة شديدة. عملت في الميناء في وظيفة وضيعة ومرتب زهيد لا يغني ولا يسمن من جوع‘.

كان يتحدث بمرارة وحرقة آلمتني كثيرا، وكانت هذه اول مرة استمع فيها شخص ينصح من خلال سرد تجربة شخصية فاشلة وكأنه يبلغ رسالة. في الحقيقة، لم اكن عضوا في أي من الطرق الصوفية ولكنني كنت قريبا من احدها وكانت لي علاقة وثيقة ببعض الزملاء المتحمسين لطرق اخرى. ولا انكر انني كنت استمتع بمشاهدة هذه الوصلات وما يتخللها من اداء وتفاعل داخل الحلبة، وحتى روح التعاون السائدة بين اعضاء كل فريق، وفي نفس الوقت كنت اتألم لانهماك البعض من زملائي حتى تراجع تحصيلهم العلمي الى ان تركوا الدراسة، وايضا مغامرة البعض بعملهم بالرغم من ظروفهم المعيشية على غرار ما ذكره العم (م ش).

لربما لم يمض وقت طويل بعد هذا اللقاء، وتحديد في اليوم الاول من شهر رمضان المبارك عام 1965، بالكاد تناولت الفطرة حتى رأيت دخانا ولسان نار تشتعل في منطقة السوق، فانطلقت، كما يفعل كل الاهالي، بأقصى سرعة، وكنت في هذا الوقت من ابرز العدائين في المدرسة ان لم اكن ابرزهم، حتى وصلت الموقع في زمن لم اصدقه حتى شعرت بسعادة ولم اعلم انني مقبل على صدمة كبيرة ستلازمني مدى الحياة. فأول ما خطوت الى داخل الدار فاذا بشخص يخرج من البيت المحترق حتى وصل عتبة الباب وكأنه يستقبلني ثم انتزع نحو الداخل، وحاول ثانية وتكرر نفس الموقف ثم اختفي نهائيا وسط الدخان والسنة اللهب التي بلغت جوانب البيت. وقفت في مكاني مذهولا لا اعرف لا صاحب المنزل الذي يحترق ولا المحترق فيه. والاشخاص الثلاث الذين سبقوني في حيرة لا يعرفون كيف يتصرفون. وفهمت من كلامهم ان المحترق مربوط بسلسلة على عمود والمفتاح مع شخص غير موجود واخيرا عرفت انه العم (م ش). الا شعوريا تراجعت الى الخلف وحتى افسر واحلل واسترجع كلام الفقيد واستعيد توازني، كانت النار قد خمدت مكتفية بالبيت فقط مع انها بالمقاييس البشرية كانت ستلتهم اكثر من خمسين منزلا متداخلة لا يفصل بينها الا بضعة امتار. فسبحان الله مقدر الاقدار، ورحم الله العم الشهيد. لربما تؤلم هذه القصة البعض الا انها بالنسبة تنفيس عن عبء ثقيل.

ولعل اهم حدث يبرز دور التوعية العامة والتوجيه الشخصي في عمل الكشافة في المجال الامني، قدوم اخطر جاسوس برتبة كبتن الى حرقيقو في الاسبوع الاول من عبور الجبهة الى المنطقة الرابعة، واقام مع احدى العوائل منتحلا صلة القرابة بها، وشرع يسرح ويمرح يجمع المعلومات بدون ان يشك فيه احد الى ان لفت نظر احد اشبال الكشافة واظنه الاخ القنصل احمد محمد سعيد شنيتي، ارجو ان يصحح المعلومة. صحيح انه لم يستطع تحديد هويته، ولكنه كشف ان شخصا غريبا يعيش في الحي مع تحديد اسم العائلة. وفعلا تم التقصي حوله الا ان خديعته انطلت على الجميع الى ان تم اكتشاف امره فيما بعد وبمحض الصدفة من قبل احد الفدائيين كما سيأتي في موضوعه.

قابلت الاستاذ ابراهيم اخر مرة عام 2009 وحاولت ان استوضح واوثق منه بعض المعلومات الا انني وجدته، للأسف الشديد، قد ضعفت ذاكرته الى درجة لم يعد يتذكر فيها احداث مهمة. وكل املي ان يساهم من عايشوا هذه الاحداث، وبعضهم أدري مني، في اثراء هذه النقاط التي لا تعدو كونها مؤشرات تحتاج الى بلورة واسعة. ففرقة الكشافة ككل الاحداث المهمة تحتاج الى توثيق.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click