نـــاى عينى مسـكّــر (شاهد عـيان) فى تأريخ الثّـورة الأرترية - الحلقة الأولى

تأليف المناضل: قرمدهن زقرقيس  ترجمه الأستاذ: عبدالفتّاح ودّ الخليفة - كاتب إرتري، المملكة المتحدة

تعارف: أنا مناضل من جبهة التّحرير الإرترية منذ عام 1969 ناضلت فى عدّة مواقع

ولا زلت وما أكتبه فى هذا الكتيّب ما هو إلاّ تجاربى الشّخصيّة وما رأيته بأمّ عينى وما شـاركت فيه بنفسى.

هذا الكتيّب كان يجب أن يرى النّور قبل فترة أسبق من اليوم.. ولكن لظروف مختلفة تأخّر كلّ هذا الوقت... ولكن بالرّغم من تأخّره لا زلت أرى أنّ خروجه للقرّاء ضرورة لا بدّ منها. ولأنّنى أيضا أصبت فى حرب التّحرير وتبعا لذالك فقدت بصرى فسـجّلت مشـاهداتى ومذكّراتى هذه فى شريط (كاسيت) وكان لشرف عظيم لى أن ينقله زملائى فى النّضال على الورق.

فى الميدان الاإرترى كنت مناضلا ومقاتلا عاديا فردا ولم أكن فى موقع مسؤولية ولذالك ما أكتبه ليس منقولا من مجلّة أو مذْياع أو تلفزيون وإنّما مشاهداتى الشّخصيلة كما أسلفت.. ولكنّى أيضا لا أستطيع أن أجزم أنّ كلّ إرترى يقرأ مكتوبى هذا سوف يقتنع به وسوف يتقبّله.. ولكنّى أكتبه لئلاّ يحرّف المغرضون تأريخ ثورتنا ويقلبوا حقائقها أو لئلا يظهرو الكذب والتّحريف وكأنّه تأريخنا الحقيقى. ولأنّى أيضا أأمل فى أبناء شعبنا الإرترى أن يملكو القدرة الكافية لفرز الحقيقة من الكذب وكلّ أملى أن يسـاعد مكتوبى هذا فى معرفة الحقيقة من عكسها بالمقارنة ممّا يقال والمطروح فى سـاحتنا الإرترية.

وهنا لا يسعنى إلاّ أن أشكر زميلى فى النّضال (تسفاى تخلى إزقى) الّذى طلبت منه أن يساعدنى فى إخراج مذكّراتى هذه فى شكل كتيّب فرحّب بالفكرة وسـارع فى تحقيق ما أردته منه فله الشّكر والعرفان على ما قدّم لى من خدمة.

مدخل:

أولا أريد أن أوجّه إلى عناية القارئ الكريم إن غرضى من كتابة هذه الملاحظات والتّـأريخية لم يكن نكأ جراح الماضى ولم يغب عن فهمى أنّ المرحلة تتطلّب جهد وتضافر للقدرات من تنظيمنا من أجل إبدال النّظام الدكتاتورى للجبهة الشّعبية بنظام دولة التّسـامح والوفاق والدّيموقراطية.. ولكنّى أؤمن أيضا بأنّ مذكّراتى سوف تساعد على تقوية وتعزيز أسـاليبنا للوصول للهدف المنشود.

هناك الكثيرون الكثيرون وبإختلاف أغراضهم يروّجون لقول: (يجب أن لا يمسّ تأريخ الثّورة الإرترية سلبا أو إيجابا يجب تركه كما هو) وهؤلاء نجدهم من صنفين صنف يطالب بذالك من منطلقات بريئة وحسن نية أمّا الصّنف الثّانى فهو من يريد حماية نفسه أو يريد أن يحمى أفرادا أو جماعات لغرض ما.. هؤلاء يريدون طمس الحقائق وإحلال الكذب محلّه ولوى عنق التأريخ لمصالحهم ومصالح مجموعاتهم.

تأريخ الثّورة الإرترية سوف لن ينفع معه (التّجميل) بمعنى تبييض الأسود أو تسوييد الأبيض وإذا حاول البعض تبييض الأسود فسوف يخيب مسعـاهم وسوف يحصلون على اللّون الرّمادى ومن أراد تسويد الأبيض أيضا سوف لن ينجح والمعروف الأبيض يبقى أبيض والأسود أسود... وإنّنى أؤمن بأن تأريخنا المستقبل سوف نبنيه معرفة تأريخنا الماضى وتأريخ اليوم هو إنعكاس لتأريخ الأمس.. ولكنّى أتّفق مع من يقول) أن كتابة قضايا فى التّأريخ لا تراعى الزّمن والتّوقيت سوف لن توصل رسـالتها) ولكن هناك أفرادا ومجموعات لا تحسّ بالمسؤولية وهى ماضية فى تحريف التأريخ ويقال لنا لا تكتبوا ولا تتفوّهو بكلمة ويقال لنا (ليس وقته الآن)... أقول لهؤلاء وبالرّغم ممّا حصل تطلبون منّا أن نصمت !!! إذن أنتم بطريقة مباشرة تدافعون عن (حكومة الهقدف) الّتى تعمل ليل نهار على طمس تأريخنا وليس لدىّ تفسير غير ذالك.. ولذالك أقول لكلّ من يقول لا تكتبوا ولا تتفوّهوا بكلمة... إنّكم إنتهازىّون ومدسوسون وأذكّرهم بمثل الآباء الّذى يقول (عشّا تمسيلكا دراروم ودّألّوم) المترجم: ربّما أقرب ترجمة للمثل هى : لا تظهر ما تريد وأفعل ما تريد !!!

المجرمون وفى مقدّمتهم مجموعة (أسياس أفو ورقى) التى تعمل جاهدة لطمس التأريخ لتغطية أفعالها الإجرامية ضدّ الشعب الإرترى وضدّ (جبهة التّحرير الإرترية).. هؤلاء يشوّهون التأريخ وينشرون الأكاذيب ولا أظنّ ذالك يخفى على أحد ولذالك أعتقد جازما بأنّ السّكوت على طمس التأريخ وتحريفه ماهو إلاّ هروب من واجب النّضال وتحمّل المسؤولية وهناك مثل يقول (هقركا دو كزمّت عينخا يعمّت) (المترجم: أقرب معنى لهذا المثل هو (كيف تغمضُ عينيك والوطن يسرق).

أمّا بالنسبة لى فمسؤوليتى الوطنية والتأريخية توجب علىّ أن أضحض كذبهم وإفتراءاتهم لأنّ شعبنا يحتاج لمعرفة هذه الحقائق وهذا ما دفعنى لكتابة تجربتى التى عايشتها شخصيّا مع أنّنى أؤمن بأنّ تأريخ الثّورة الإرترية فى 30 عاما لا يكفيه كتاب واحد ولا زمن محدّد.. وأكرّر و أنبّه إلى أنّ ما أكتبه هو تجربتى فى ما خصّ قضايا وأحداث تأريخية مهمّة وسوف أصبّ جهدى عليها فقط.

مرحلة الوعى الوطنى عندى:

المنطقة التى عشت فيها فى إرتريا كان لها أثرها فى تكوين وعى وفهمى وذالك أمر طبيعى وإنسـانى مرتبطا بالوقت والعمر والتّطوّرات التى تصحبه ولذالك إختلفت تجربة كلّ شخص عن الآخر.

مرحلة الإسيعاب بدأت عندى من عمر 14 عاما تقريبا فى بداية السّتينيات (1960) من القرن الماضى حيث كنت أعيش بين مدن (ماى حبار) و (نفاسيت) و (قندع) وفى حدائق وحقول (ماى حبار) كان يزرع (القات) فكنت أتاجر فيه متنقّلا بين المدن الثلاث وفى الطّرف الآخر فى مدينة (ماى حبار) كان يوجد معسكرا للجيش الإثيوبى فكنت أذهب إليه لبيع (القات) أيضا.. هؤلاء الجنود كان وضعهم أحسن من أقرانهم فى معسكرات الجيش الإثيوبى الأخرى لأنّهم كانو ممّن شاركو فى حرب الـ (كونقو) وعادوا منتصرين فصرف لهم الإمبراطور مكافآت... ليس هذا فحسب بل كانوا قد نهبوا كثيرا من ممتلكات المواطنيين (الـكنقوليين) أثناء الحرب فكان هذا أيضا سرّا آخر فى حياة التّرف التى كانو يعيشونها.. كانوا يحيطون بى كالنّحل عندما آتى للمعسكر ليشتروا منّى (القات).. و كنت ألاحظ أنّ بعضا من نســاء (الطّور سراويت) يرتدين الملابس السـوداء وذالك حزنا على فقد أزواجهنّ وكان يتردّد حينها: أنّهم أى الأزواج قتلو فى معارك فى (المنخفضات) يقودها رجل متمرّد (شفتا) إسمه (ود عواتى) ثمّ تلاحقت الأحداث... ففى يوم من الأيّام كان فى المعسكر مراسم تأبين كبيرة لقائدهم الذى قتل فى المعارك وإسمه (كبّدى)... كنت لا زلت حينها صغيرا إلاّ أنّى كنت أعرف أنّ هناك حركة تحرّر وإستقلال إسمها (جبهة) وكنت أسمع بقائدها وإسمه (حامد إدريس عواتى) وبعض فترة من الزّمن توجّهت إلى منطقة (دبرى بزين) لممارسة الزّراعة وهناك لاحظت أنّ الثّورة بدأت تنتشر فى المنخفضات الشّرقية وشاهدت أيضا بأم عينى ما كنت أسمع به سمعا.. وجاء عام 1966 وبدأ فيه الجيش الإثيوبى (طور سراويت) بالهجوم على مدن (قندع) و (إمباتكلا) فقتلوا المواطنيين العزّل ونهبو ممتلكاتهم وشتّتوا القرى فى كلّ من (عايلت) و (قمهوت) وأذكر أيضا قرى شتّتت على حافة جبل (دبر بيزن) مثل (إندا عندى ) و(قدقد) كلّها قرى آمنة ومسالمة ولكنّها لم تسلم من القتل والتشريد والحرق… هؤلاء الأبرياء أحرقت بيوتهم ومزارعهم ممّا إضطرّهم للهروب فى العراء بلا مأوى وبلا غذاء و أصبحوا عرضة للأمراض والفقر... كلّ ذالك أثّر فىّ نفسى وشكّل وعى الوطنى… وعلمت حينها وعلم غيرى نفس المصير سوف يواجهنا فى يوم من الأيام فهجرنا أنا وبعض الأخوة قرانا لننتقل إلى مدينة (قندع) ولكن فى (قندع) إيجاد عمل نكسب منه لقمة العيش لم يكن سهلا فى تلك الأيّام ولكنّى حصلت على عمل كمساعد فى (ناقلة حطب) وبسبب تنقّلى مع السيّارة لجلب الحطب كنت أشـاهد الثّوار فى حلّى وترحالى فى كلّ من (شبّح) و(قدقد) و(سلمونا) و(زاقر) و(عد شوما) و(سمهر مطعت) وأيضا فى الجانب الآخر كنت ألتقى بالمناضلين فى حوالى القرى فى (فطر) و( تقّو) و(عين) و هكذا أصبح لقاء المقاتلين فى أثناء عملى شيئا روتينيّا.. وبدأت بعد حين الإلتزام فى (جبهة التّحرير الإرترية) وأقوم بكلّ واجبات العمل الوطنى.. ولكن الإلتزام فى صفوف المقاتلين كان يؤجّل المرّة تلو الأخرى لأسباب خاصّة بى وأخيرا فى مايو (5) من عام 1969 إلتحقت بالميدان مقاتلا… لأن كلّ ما رأيته وشاهدته بعينى وأنا صبى صغير دفعنى أخيرا إلى حمل السّلاح فى صفوف (جبهة التّحرير الإرتريّة).

الأوضاع التى كانت سائدة حين إلتزامى فى مايو من عام 1969 والوحدة الثّلاثية:

فى مايو عام 1969 بدأت أبحث عن (جبهة التّحرير الإرترية) فى مناطق ميلادى ونشأتى والتى أعرفها جيّدا.. وعند وصولى إلى منطقة (دبر بزين) وجدت مجموعة من المقاتلين يقودها المناضل (سلمون ولدى ماريام) وضّحت للمناضل (سلمون) رغبتى فى الإنضمام إلى المقاتلين وقبلنى المناضل المذكور على الفور وبذالك وصل عدد طالبى الإنضمام إلى جيش التحرير فى ذالك الموقع (سبعة أشخاص)..وأذكر كان معنا عنصر ثامن إسمه (ولدى كدان بخرطين) ولكن والدته طلبت من (سلمون) أن يعود لها إبنها لأنّه وحيدها ولا تملك غيره تحتاجه للفلاحة ورعى البهائم فكان لها ما أرادت وعاد (ولدى كدان) إلى أهله.. وبعدها طُلبَ منّا أن نتوجّه إلى جبال (ديعوت) ومنها إلى (خور زاقر)(1) فى شرقى إرتريا وهناك وجدنا (الوحدة الثلاثية) تخلط جيوشها بهرتنا كثرة المقاتلين وفى صباح اليوم التّالى أوصلونا إلى منطقة تواجد قائد المنطقة الخامسة وعضو قيادة الوحدة الثلاثية المؤقّتة المناضل (أبرها تولدى)(2)

بعد أن حيّانا ورحّب بنا وجّه حديثه إلى المناضل (سلمون ولدى ماريام) قائلا: لماذا قبلت هؤلاء ؟ لماذا قبلت مقاتلين جدد ؟ وكان حديث المناضل (أبرها تولدى) مع المناضل (سلمون) حادّا.. ولكن المناضل (سلمون) ردّ بالقول: (إنّ ضميرى لا يطاوعنى لأقول لشباب مثل هؤلاء: إرجعو إلى منازلكم ولذالك أتيتُ بهم !! هم أمامكم الآن !!! إفعلوا بهم ما تشاؤون !!!) وكمحاولة أخذنا المناضل (أبرها تولدّى) على جنب ليقنعنا بالعودة ولكنّنا رفضنا وبعد جدلِ حادّ وجّهنا إلى سكرتير القيادة المؤقّتة المناضل (محمد إبراهيم) (3) وأرسلنا هو بدوره إلى منطقة فيها وحدة صغيرة للتدريب تلقّينا التّدريب هناك لمدّة أربعين (40) يوما ومنها تمّ توزيعنا فى وحدات جيش التّحرير الإرترى، أنا وزميل آخر كان نصيبنا العمل فى عيادة فى منطقة إسمها (قرْقرّا) ولكنّ لم نكن مسرورين بذاك التوجيه والعمل فى العيادات لأنّنا كنّا نعتقد بأنّ النّضال هو حمل السّلاح لمباشرة الحرب مع جيش العدوّ الإثيوبى ولكن المناضلين أقنعونا بأنّ النّضال متعدّد الجوانب والمهام.. وفى العيادة عملنا على مساعدة الجرحى والعناية بهم وقمنا بواجب أداء التّغذية وتعلمنا أيضا عمليّة الحقن بالأمصال للمرضى.

هومش:

(1) عرفت من بعض الأخوة ليس هناك خور إسمه (زاقر) فى شرق إرتريا ربّما قصد الكاتب خور (زرْقرا) وهو النّبع القريب من جبال (ديعوت) وعلى مقربة من منطقة (وعا).

(2) المناضل المعروف والمقصود فى هذا االصياغ عدت إلى كثير من مراجع ورد إسمه (أبراهام تولدى) خلاف ما أورده الكاتب (أبرها تولدى).

(3) سكرتير القيادة العامة وسكرتير (الوحدة الثلاثية) هو المناضل (أحمد إبراهيم) الملقّب بـ (سكرتير) وأظنّ الكاتب قصد ذالك.

نواصل... فـي الـحـلـقـة الـقـادمـة... لكم تحية

Top
X

Right Click

No Right Click