قصة هروبنا من سجن ماركاتو - الحلقة الأولى
بقلم المناضل: عبدالله حسن
المقدمة: هروبي من سجن ماركاتو مع زميلي الشهيد همد عامر إدريس (كابلي) عن طريق الحفر كان بتاريخ 1971/4/13م.
واذا وقع احد المناضلين أسيرا في معركة مع الأثيوبيين او قبض عليه كان مصيره القتل او الحكم المؤبد او السجن لسنين طويلة.
وبما أن فرص النجاة من قبضة العدو نادرة جدا كثيرون هم من انتابهم العجب عند سماع قصة هروبنا من السجن. ولهذا كانت تأتي إلينا أسئلة وتساؤلات كثيرة من اتجاهات مختلفة لمعرفة قصة الإفلات من قبضة العدو. و كثير من هذه الأسئلة كانت توجه إلينا بصفة عامة لمعرفة هذا الحدث فقط وليس من اجل توثيقه او الاستفادة من هذا الحدث باعتباره جزء عضوي من نضالات وتضحيات قدمها الشعب الارتري من اجل الحرية. ولم يكن تفكيرنا أيضا يختلف عمن كانوا يسألوننا، وكنا نجيب علي الأسئلة التي تأتينا منهم عفويا بدافع الرد دون امتلاك رؤية عميقة وبعيدة المدى. وهذا تقييم عام، ولا يعني نكران وجود أناس كان لهم دور مميز في توثيق تاريخ نضال الشعب الارتري. وكان هناك أيضا من يسأل باهتمام لمعرفته بأهمية علاقة الموضوع مع النشاطات السرية داخل المدن….
صحيح بأن المعارك والعمليات الموجهة ضد العدو كان يتم إعلانها ونشرها رغم النواقص التي كانت تشوبها. ولكن اذا لم توثق الأمور من منطلق نظرة علمية يمكن القول بأن نتيجتها تكون غير مضمونة ويمكن ان تفقد عامل استمراريتها وبقائها. وهناك كثير من الأسباب الداخلية والخارجية التي تقود إلى عدم التوثيق بشكل منهجي، منها عدم الاستقرار، التناقضات الداخلية،الخلافات، النشاطات المعادية من قبل العدو وجهات معادية أخرى الخ. ومما زاد الطين بلة في مسالة عدم القيام بالمهام المطلوبة في واقعنا الحالي هي الحالة السيئة التي يعيشها شعبنا في الداخل والخارج من تشتت، بحيث حتي لو كنت داخل الوطن يصعب عليك الالتقاء بمن كان لهم دور في النضال لدرجة انك لا تستطيع التواصل مع زميلك الذي كان معك في النضال لفترة طويلة، ولا تدري حتى أن كان علي قيد الحياة أم لا! وهذه مأساة لا حدود لها.
وان كان هذا قدرنا مع ان الوقت الملائم للتوثيق في رأي هو وقت الحدث، اذا اردنا ان نجعل التوثيق مضمونا بعد مضي الوقت المناسب له فلا بد من وجود عاملين أساسيين هما:-
الإيمان بان جميع التضحيات والنضالات التي قدمت من اجل الشعب والوطن في جميع مراحل النضال هي ملك للشعب الارتري دون تمييز.
وجود عنصر مؤهل يقوم بعملية التوثيق، وظرف مساعد، وأدوات العمل.
وبهذه المناسبة أود أن أقول بأن الذي لم يسجل ويوثق من تاريخ الشعب الارتري وتجربة الثورة هو كثير جدا، والقصة التي أنا على استعداد أن أحكيها حاليا ماهي إلا ذرة من تلك الكم الهائل.
فور خروجي من السجن تمت معي لقاءات عامة من قبل الجهات التنظيمية الرسمية بغرض تسجيل المعلومات. وعندما وصلت الخرطوم التقيت بالشهيد عثمان صالح سبي وكان قد علم بخروجي من السجن، وهو أول من قال لي بان هذا عمل بطولي يجب كتابته، وكلف الشهيد ادم بيك للقيام بتدوين القصة. ولكن لم أقم بذلك لأسباب مختلفة. وفي المؤتمر الوطني الأول سنة 1971م أيضا قابلني صديق الثورة الصحفي السوري احمد أبو سعدة ولكن لم اعلم ما فعله بتلك المعلومات. وبعد مشاركتي في المؤتمر الأول ودخولي للميدان قام المناضل قبروحقوس الذي كان في تلك الفترة في مكتب الإعلام بإجراء مقابلة معي وتسجيل كافة تفاصيل الحدث باسم مكتب الإعلام عندما كان المناضل دكتور فطوم جبرسلاسي مسئولا لقسم التجرينية بمكتب الإعلام، ولكن لم تنشر في أدبيات الجبهة الإعلامية أو أي مواقع أخرى. ومن جانبي كنت انوي كتابتها للفائدة عموما ولكن لم أوفق. وكثيرا من الإخوة كانوا يطلبون مني أن اكتب عن قصة خروجي من السجن. وعلى سبيل المثال في هذه الأيام طلب مني للمرة الثالثة الأخ المناضل سمري فِساهاي من فرنسا أن أقوم بذلك مشيرا إلى مناسبة الشاب الطيار ديجن عندي حشال الذي قام في الآونة الأخيرة بعمل بطولي ونجى من أيدي زبانية الهقدف وهرب من نفس السجن الذي كنت فيه.
واليوم وفي الوقت الذي ينتابني حزن شديد علي كل التضحيات والأعمال البطولية التي يمحى اثرها، قررت أن اكتب عن تلك القصة بقلمي بالعنوان التالي، وأمل أن تكون مفيدة.
سجن ماركاتو وفك القيد الإنجليزي:
سجن ماركاتو المعروف حاليابـ (ونجل مرمرا) وتعني سجن التحقيقات الجنائية يقع تحت اباشاول مباشرة. وعندما تكون قادما بالشارع القادم من جزا برهانووعداقا عربي يقع في الركن الأيمن عند نهاية الشارع، وبوابته الأساسية تفتح نحو شارع منليك الاول، وهو ما يعرف حاليا بشارع أف عبت. وهو سجن تم بنائه في عهد الاستعمار الإيطالي ويعتبر من اقدم السجون.
كان يستقبل هذا السجن كل الذين يتم القبض عليهم من الناشطين في العمل السري داخل الوطن من عضوية حركة التحرير الارترية وجبهة التحرير الارترية منذ عام 1960م إلى أن تم بناء سجن سمبل في أسمرة والذي افتتحه الإمبراطور هيلي سلاسي بتاريخ 1968/2/7م.
سجن ماركاتو كان يعتبر من اكبر السجون ومتين من حيث التصميم والبناء. بني هذا السجن بحجارة قوية سوداء اللون تعرف بحجارة دقي محاري، وهو محاط بسور عالي يعتلونه الحراس. وتقع مباني السجن الداخلية بمنطقة عميقة حيث لا يمكن مشاهدة المباني من خارج السجن.
تعرفت علي هذا السجن عن قرب أثناء دراستي في أسمرة، عندما كنا نذهب إلى السجن ونحن نحمل الطعام للأخوة المناضلان ولدداويت تمسقن وسيوم عقباميكائيل، برفقة الوالدة سماينش والدة الشهيد ولدداويت والوالدة هيويت والدة الشهيد سيوم، عندما تم القبض عليهم في أسمرة سنة 1965م بواسطة العدو بعد أن دخلوا للعمل التنظيمي وتم إدخالهم في هذا السجن. وكان يسمح بإدخال الطعام للمساجين دون السماح لنا بالدخول. وكانت الأغراض تدخل للمساجين من البوابة المتجهة إلى الشرق وهي البوابة التي تدخل بها العربات أيضا، أما بوابة إدارة السجن هي البوابة المتجهة إلى شارع منليك.
الهدف الأساسي من الكتابة هو سرد قصة هروبي من السجن وبما أن سبب دخولي إلى أسمرة كان من اجل تكوين خلايا سرية داخل المدينة اعتقد انه من الضرورة بمكان ذكر خلفية نشاطات الثورة في داخل أسمرة بصفة عامة.
بداء نشاط تكوين الخلايا السرية للثورة في بداية 1960م. وهذا العمل الذي كانت تقوم به حركة تحرير ارتريا او جبهة التحرير الارترية تعرض لصعوبات كثيرة قبل الوصول إلى مراحل متطورة. وخاصة أعضاء الحركة الأوائل عندما يقعون في يد العدو كان يمارس ضدهم تعذيب متنوع وقاسي.وكان بعض الأفراد لا يفارقون السجن، والسجن كان عبارة عن مسكن لهم. ومن كانوا يأتون بمهام العمل من مواقع بعيدة مثل السودان من أعضاء الحركة أو الجبهة الأوائل أيضا كانوا يواجهون نفس المصير.
وبعد تأسيس الجبهة بالذات لم يقتصر مهام دخول المدن علي القيام بعمل تأطيري فقط بل القيام بالعمل العسكري أيضا كان من مهامهم الأساسية. ويذكر بأن الشهيدين سعيد حسين وإبراهيم هارون بعد أن قاموا بأول هجوم علي مطار أسمرة مع رفاقهم الأخرين بتاريخ 1963/6/21م قبض عليهم العدو بعد رجوعهم مرة أخرى إلى أسمرة. و قبل هذا الحدث وبعده أيضا في الستينات نفذت عمليات محدودة مماثلة.
مع استمرار هذا العمل أصيبت حركة التحرير الارترية بالضعف وكثير من أعضائها البارزين انضموا إلى جبهة التحرير الارترية التي كانت تقود الكفاح المسلح وبداء عمل الجبهة في الداخل يتطور ويتوسع بسرعة. والخلايا التي تضم مختلف شرائح المجتمع الارتري من المعلمين والعمال وأصحاب المتاجر والطلاب الخ. استمرت في التوسع. ومع هذا التوسع وتطور النضال المسلح عندما يتم كشف أعضاء هذه الخلايا كان يتم التعامل معهم من قبل العدو دون رحمة. وعلي سبيل المثال في سنة 1966م تم اعتقال 175 من الارتريين من مختلف المواقع بحجة انهم أعضاء في جبهة التحرير الارترية، وأوردت جريدة الوحدة الحكومية بتاريخ 1966/5/7م الأسماء التالية من المعتقلين المحكومين:-
حكم علي كل منهم 20 سنة:
• احمد شيخ فرس
• صالح عبدالقادر بشير
• محمود صالح سبي
• عبدالله محمد سعيد صائغ
• صالح جابر وراك
حكم علي كل منهم 15 سنة:
• محمد حمادو باحبيش
• عثمان سيد رمضان
وكان يتم كذألك القبض علي الكثيرين في مواقع مختلفة أخري من ارتريا.
وفي سنة 1967م ايضا عندما توسع وتطور العمل وانكشفت بعض الخلايا تعرضت العضوية إلى وضع خطير واعتقل كثيرون من العمال والطلاب ووردت أسمائهم في جريدة الوحدة الحكومية بتاريخ 1968/3/9م وكان العدد حوالي 40 وتمت محاكمتهم بتهمة التعاون مع جهات خارجة عن القانون وهذه بعض الأسماء:-
حكم عليه 20 سنة:
• الزميل جرزجهير تولدي
حكم عليه 18 سنة:
• تسفاماريام أباي
حكم عليهم 1-5 سنة:
• سهلو كفلو
• جبرتنسائي بهتا
• ولداي افورقي
• اسملاش فسحاطيون
• مهري يوسف
• جبربرهان عقبازقي
كل مجموعة من الخلايا داخل أسمرة كان لها وسيلة اتصال مستقلة تربطها مع جهة قيادية تنظيمية ولهذا كانت هنالك خلايا للعمال والطلبة لم تتعرض للقبض، ولكن حملة القبض الواسعة هذه أدت إلى ضعف الخلايا في الداخل. ومعظم هذه الخلايا كانت من تلك العضوية التي تم تأطيرها من 1965م-1967م. ونحن أيضا لم ننجو من هذه الحملة. وانا عندما انكشف امري وتم القبض على زميلي جريزقهير تولدي خرجت إلى الميدان وكان هذا بتاريخ 1967/4/14م.
وفي سنة 1970م عندما تمت وحدة المناطق العسكرية وتولت القيادة العامة مسئولية قيادة جيش التحرير الارتري قامت بإعادة تنظيم جيش التحرير ووضعت خطط من اجل تطوير وتقوية النضال ضد الاستعمار، وتركز الاهتمام نحو المدن والأماكن التي يتواجد فيها العدو بكثافة. وتم توجيه وحدات فدائية خاصة للمدن الارترية وعلي رأس كل وحدة مسئول عسكري وفيما يتعلق بالجانب التنظيمي تم تعين كادر سياسي لكل مدينة. وكما أتذكر كانت تلك المدن - تسني، أغردات، بارنتو، كرن، اسمرة، مندفرة، مصوع، قندع، أفعبت.
وكان المسئول العسكري لمدينة اسمرة الشهيد احمد اسمرة وفيما يتعلق بالجانب التنظيمي داخل مدينة أسمرة بصفة خاصة تم تعيين كادرين، الأخ صلاح الدين عبدالله وانا.
في تلك الفترة الاقتراب من مدينة أسمرة كان صعبا وخطير جدا بسبب كثافة تواجد العدو في محيطها وعدم وجود أرضية مؤيدة يعتمد عليها من الجماهير. ومراكزنا الخلفية كانت مناطق عد شوما وضواحي أراضي منسع وبعض مناطق منخفضات عنسبا واطراف مناطق دمبزان.
وجاء دخولي إلى أسمرة بعد غياب دام لفترة ثلاثة أعوام وهي الفترة التي قضيتها في الميدان. والعضوية التي نعرفها تعرضت للسجن والجزء الأخر أحواله غير معروفة والاتصالات مقطوعة وكان من الصعب أن تلقى من يستقبلك أو يتعاون معك. وأول من استقبلنا عند الدخول كانوا من الإخوة الذين تعرفنا عليهم خارج اسمره عند خروجهم منها لزيارة أهلهم. والمسافة بين المناطق التي ننطلق منها وأسمرة بعيدة جدا وعليه كان من الضروري تنظيم عضوية متعاونة خاصة في مناطق المرور، ضواحي عد شوما، درفو، عنسبا، لبان، عدي قبرو وضواحي دمبزان الخ. وفي البداية كنا ندخل مع المواطنين الذين يدخلون أسمرة بجمالهم من مناطق درفو لبيع الحطب. أما طريق لبان، كنا اولا نتجه من أراضي منسع نحو عنسبا ثم إلى لبان ومنه إلى قرية عدي جبرو ثم أسمره. في بعد المناطق رحلتنا كانت أثناء الليل. وعند النهار نتحرك بحذر منتحلين صفة مواطنين المنطقة.
مواقع الاستقبال في الداخل كانت محددة وهناك من لا تجده عند الدخول أو يكون خارج منزله وبعض المنازل أيضا تلفت النظر ويصعب الجلوس فيها ليل نهار. وفي مثل هذه الحالات كنا نضطر إلى النوم في المساجد أو قضاء الوقت في محيط الكنيسة أو الخروج إلى ضواحي المدينة في مناطق خالية من السكان مثل بيت جرجيس وضواحي أخريا وشيخ علي موز.
وفي البداية كانت تواجهنا صعوبات لعدم وجود عناصر نستفيد منهم في المراسلة للاتصال مع زملائنا في مواقع الانطلاق بعد مفارقتهم. ومن اجل حل هذه المعضلة ابتكرنا وسيلة لن أنساها أبدا. في تلك الفترة كانت السلطة الاستعمارية تقوم ببث برنامج أغاني ما يطلبه المستمعون من محطة إذاعية جديدة تم إقامتها في أسمرة. وكانت الأغاني لفنانين من فرقة أسمرة المسرحية وأغاني لفنانين أخرين مثل الفنان يحيى وغيره. وعند التحرك إلى اتجاه أسمرة نتفق مع الإخوة في الأغاني التي نطلبها لهم ونعطي لكل أغنية أو اسم الطالب أو المهدي معني يرمز لشيء نتفق فيه، مثل دخلنا بسلام، نحن راجعين، نرجو مقابلتنا، لم نجد ما ذهبنا له، سوف نعود بعد كذا يوم، نحن في انتظار…. وهكذا بهذه الطريقة حولنا محطة العدو الإذاعية إلى وسيلة اتصال سريعة وأمنة ومسلية في نفس الوقت !. وفي احد الأيام عندما تم بث أغنية الفنان يحيى وكانت ترمز إلى دخولنا بسلام بدأ الشهيد احمد أسمرة يرقص على انغام الأغنية من شدة الفرح بدخولنا إلى اسمره بسلام. وبدأ الإخوة الأخرين الذين لا يعرفون ما ترمز اليه هذه الأغنية يعلقون عليه ويقولون له ماذا تغير في هذه الأغنية فانت كنت تسمعها قبل هذا ولم يظهر منك مثل هذا الانفعال ؟ هل أنت فرحان بسبب ذكره قرية عناجر وهي قرية الشهيد احمد اسمرة الخ. ولكن احمد فقط هو من كان يعلم السبب الحقيقي لهذا الفرح !
لم نكن نعمل فترات طويلة داخل أسمرة خوفا من أن يكشفنا العدو. ومررنا بصعوبات جمة. وفيما بعد بدأت المنازل التي تستقبل المناضلين وتعينهم تزداد. ثم تعرفنا على جهات هامة كانت تبحث باستمرار عن طرق لتجديد صلاتها المقطوعة مع التنظيم. وتوسع العمل وبدأنا استئجار منازل خاصة للعمل وبدأت عناصر هامة تنخرط في التنظيم.
وفي المجال الأمني ازدادت مصادر معلوماتنا عن العدو. ثم بدأنا نخرج مواد مختلفة مفيدة لجيش التحرير من داخل أسمرة مثل الأدوية والكشافات وبدا يتوسع تأثيرنا علي ضواحي أسمرة.
المصادر:
كتاب كفاح ارتريا - إصدار جبهة التحرير الارترية.
قراءة في كتاب الكوماندوس الارتريون ومعجزة ال 18 دقيقة - بقلم د. حسن احمد دحلي.
كتاب كفاح ارتريا - إصدار جبهة التحرير الارترية صفحة 92
كتاب كفاح ارتريا - إصدار جبهة التحرير الارترية صفحة 93-95
الى اللقاء فى الحلقة القادمة...
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.