مع حليب ستي في هنبول - الجزء الثاني والأخير
بقلم المناضل الأستاذ: محمد عيسي المصدر: الرمال المتحركة
أعد الرفاق من حراس المجلس وجبة الغداء وخرج الينا القائد أحمد إبراهيم نفع (حليب ستي)
ولم تكن الوجبة بأحسن مما كنا نأكل في العيادة المركزية بالجبل هي نفسها وجبة القراصة مرشوشة بالعدس والكل حول المائدة نأكل ونمرح ونضحك لا رئيس ولا مرؤوس لا جندي ولا مسؤول كلنا حول مائدة واحدة سواسية تأخذ حجم يدك ولا حجم موقعك نعلق علي بعضينا ونضحك وهاهي البساطة وهاهو التواضع ونكران الذات في أسمي وأجل معانيه تغرس كالبذور في نفوس كل المناضلين لتؤٌتي أكلها في التواضع والتكافل وحب الآخر نموذج تمنيت لو استمر في كل جوانب الحياة لاحقا.
أحمد إبراهيم نفع (حليب ستي) عضو المجلس الثوري يمزح ويمرح مع كداني ويداعبه قائلاً أأكل جيدا لتعوض الدم الذي فقدته من خلال الرعاف المزمن وكداني يرد المداعبة بمثلها قائلا كنت أتوقع أن أجد لحما طريا وفاكهة متنوعة في مائدة المجلس الثوري لأعوض ما فقدت من دم والكل يضحك وأحمد إبراهيم نفع (حليب ستي) يرد عليه قائلا كلها أيام قلائل وسوف تأكل القريت فروت وتشرب عصير المنقة الذي أخاف أن ينسيك الميدان ونضحك وهكذا قضينا وقت في قمة الروعة وقتٌ نوعي لا تجد له مثيلا ولا يتكرر كثيراً.
وقت نوعي بنوعية الحضور من الناس مستوي رفيع من الحوار ومواضيع الحوار كل شيئ كان يلقي برونقه وعبقه في ظلال أجوائنا... أستأذن أحمد إبراهيم نفع (حليب ستي) ودخل الكوخ الذي هو بمثابة مكتبه وعندها يستأذن الشهيد أدريس من بقية الرفاق ويستدعيني بعيدا حيث جلسنا في الوادي تحت شجرة السدر الظليلة بدأ يتحدث وهو يؤشر في الأرض بحجر صغير في يده ذاكرا كيف أن الأيام تمر بسرعة وكيف انقضت شهور أربعة منذ صعودنا سويا الي الجبل وكيف أنه كان دائما ينظر الي كأخ أصغر وكنت أحس ذلك في كل معاملاته وحديثه ونصائحه لي ولهذا كنت أجله وأقدره وأحترمه وكنت أعود اليه في كل مسألة وموضوع مستعصي.
ذكر لي بانه وحرسيه سوف لن يكونا في الجبل لفترة من الوقت حيث أعطيت له مهام تحضيرية تتعلق بالمؤتمر الوطني الثاني المقبل والذي كما قال تًبذل قصاري الجهود من أجل انجاحه ومهمته كما ذكر كانت تتعلق باقامة ندوات وأجتماعات تنويرية وتثقيفية عن المؤتمر وعن الدور المرجو من المناديب لعبه في المؤتمر ثم يتبع ذلك باقامة الترشيحات لأختيار المندوبين للمؤتمر من الجيش والشعب عن المنطقة التي كما قال تقع حوالي الجبل قال سوف نقوم بكثير من السفر والتنقل لعقد هذه الأجتماعات وصار يحدثني بأنه كيف كان مغرما بالعمل وسط الجماهير وهاهي فرصةٌ تتاح له للعب الدور الذي طالما أحب أن يلعب... طالت جلستنا في الوادي والشهيد لا يود ان ينسى اي نصيحة دون ان يسديها إلي وإني لا اود أن أغادر دُون ان يعلم مدي إمتناني واحترامي وتقديري له كل منا له رسالة يود إيصالها للأخر والحال كذلك حتى سمعنا صوت صباح الخير من وراء اشجار السدر يقول صائحا "يهو قدم وَقتْ ورَبْ تُو" اي حان وقت الرحيل.
وعندها تحركنا الثلاثة الي اتجاه الكوخ والراكوبة مقر عضو المجلس الثوري أحمد إبراهيم نفع (حليب ستي) وهناك أخذنا أمتعتنا وعانقنا المجموعة مودعين وأصر الشهيد إدريس في مرافقتنا لمسافة ثم وبعد إصرار وإلحاح صباح الخير عاد الشهيد وواصلنا نزولاّ الى بركا وهنا كنا فقط ثلاثة افراد صباح الخير وكداني وشخصي وعلينا بالأهتمام بكداني كي لا يشتد عليه النزيف الأنفي حيث الفكرة تكمن في أن لا نسير وقت إشتداد الشمس وبأن نكتفي بالمشي في أوقات الصباح الباكر والمساء كذلك في أن نبحث له عن جمل يستقله ويكفيه عناء المشى على أقدامه كل هذا المشوار.. انه اليوم الأول في مشوارٍ ربما يستغرق أيام وليال ووجهتنا الأولي سوف تكون أقرب قرية في طريقنا نجد فيها جملا لكداني.
الوحيد الذي يمكن ان يدري الطريق هو صباح الخير وحتى هو غير متأكد بالوجهة واتفقنا أن نتبع خط غروب الشمس مع ميلانٍ الى الجنوب قليلاّ علي الأقل نحن الثلاثة متفقين في ذلك وبالنسبة لكداني فهي المرة الأُولي التي ينزل فيها الى بركا وعليه فالمشي بالليل يكون أنسب شيئ مع حالته الصحية... نسير ونسير بلا عناءٍ أو كلل تلالٍ وتلال نتخطاها وديانٍ ووديان نعبرها ومازلنا نبحث عن أقرب قرية في طريقنا الي أن سمعنا نباح كلب لا يبدو بعيدا انشرحت صدورنا وعمتنا الغبطة وأدركنا بأننا على مقربةٍ قرية لا ندري حجمها.
توقفنا حتى نسمع الإتجاه الذي منه اتى النباح وهاهو يتكرر أكثر علواً ووضوحا ولم يكن لنا أدنى شك من وجهته ولا من الأتجاه الصادر عنه... يممنا شطر ذلك الإتجاه وصرنا نسير ونسير ولا أثر لأي قرية والظلام صار دامساً حالكاً وكداني يصارع مع رعافه الذي بدأ ولم يطلب التوقف ظناً من إننا وصلنا الى القرية ولكن عندما ذهبنا طويلاً ولا أثر لأية قرية عندها طلب كداني بأن نتوقف ونستريح حتى يتوقف رعافه وكان ذلك سبباً كافياً للتوقف وما أن توقفنا وصار صباح الخير يصب في رأس كداني قليل من الماء القليل الذي تبقى عندنا حتى وسمعنا النباح مجدداً لكن هذه المرة فالنباح من خلفنا ويبدو بعيدا هذه المرة وانتابنا خليط من الإحساس والشعور فمن جهة نحن فرحون لسماع النباح مجددا حتي نتأكد من وجهتنا وهوشيئ مطمئن ومن جهة أخري انتابنا الإحباط لتجاوزنا المكان وبعدنا عنه.
تشاورنا في ماذا يمكن فعله فلا نود أن نصل الى القرية في وقت متأخر من الليل وكذلك لا نود ان يكون ذلك على حساب كداني الذي حالته تتطلب الإستراحة على الأقل حتى يتوقف رعافه اتفقنا على أن أبقى مع كداني ويذهب صباح الخير ليستطلع أمر نباح الكلب ومدي قرب القرية وأن لا يبتعد كثيرا.. انطلق صباح الخير بعد ترك أمتعته معنا واختفي في جنح الظلام وحالة كداني بدأت في الأستقرار وقد توقف النزيف لكنه مازال ممسكاً بقطعة الشاش في انفه.
مر وقت ليس بالقصير وسمعنا النباح عاليا متكرراً وكان حادا وشديدا وعندها قلنا ربما إقترب صباح الخير منه وربما لهذا السبب ينبح بحدة وشدة.. تأخر صباح الخير ولا ادري ما العمل فكل خيار أصعب من الأخر والجلوس دون فعل شيئ ايضا ليس بالخيار المناسب.. صرت اتحدث مع كداني في ما يجب عمله ونحن نتحدث في الموضوع واذا بصوت صباح الخير يسأل "يَهَوْ ابايا هَليكُم" أي أين أنتم رفعت صوتي قائلا "إبلا إبلا صباح الخير" اي من هنا من هنا يا صباح الخير.
لقد ضٓل طريقه الينا وهذا ما أخره وقال بأن المكان بعيد و يتطلب عودتنا الى الوراء ذهابا اليه ثم إنهم لا جمل لهم ولا ناقة وعلينا أن نواصل الى الأمام بدلا من الرجوع الي الوراء حيث أنهم قالوا بآن قرية أكبر توجد أمامنا في الطريق.. لقد أتى صباح الخير ومعه كل المعلوملت المطلوبة.. تركناه يستريح قليلاً وانطلقنا في الأتجاه الذي ذكره.. وكما قال كانت امامنا قرية تبدو للعيان من بعيد بنيرانها المتقدة وبكلابها النابحة ونحن نقترب من القرية.. نزلنا بالقرب منها وذهب صباح الخير في طلب الكلأ وماء المشرب وإيادٌ من نارٍ.
كانت هي العادة المتبعة بأن تنزل بالقرب من القرية وليس بداخلها وذلك ردءاً للشبهات وبعدا من الاحتمالات وحفاظا على خصوصية حياة المواطن واحترام تقاليد المجتمع.. أتي المواطن بالعصيدة "أكلت" وبعد ان ضعها على الأرض اعتذر على عدم وجود اللبن وقال "طبحا من نوساتو" أي أن العصيدة ملاحها من ذاتها يعني منها وفييها.. شكرنا الرجل على كل حال وأنه لا حرج فيما لا يتوفر لديه.
ذهب الرجل وبدأنا نأكل وهنا وهنا جن جنون كداني قائلا كيف يعقل أن لا يكون لهم لبن لتمليح هذه العصيدة ورفض الأكل رغم محولاتنا الحسيسة لأقناعه.. طلبنا منه أن ينسى المذاق وان لا يركز فيه وأن يأكل فقط لكن هيهات لمن تنادي رفض البة وعوضا عن ذلك أكثر من شرب الشاي مع كثير من السكر.. لم ألمه فالمذاق كان صعبا لكن للضرورة احكام.
تجربة طالب أرتري ترك مقاعد الدراسة والتحق بالثورة الأرترية وهي في أوج تألقها وصعودها نحو انتصارات عظيمة.