حين يطلبُ الرئيسُ اعتذاراً

بقلم الأستاذ: حامد الناظر - إعلامي وكاتب وروائي سوداني

في عام ٢٠٠٥ اعتقلت الجبهة الشعبية الفنان الكبير إدريس محمد علي حجي ومجموعة أخرى من المناضلين

والسياسيين على رأسها المناضل السابق طه محمد نور شيخ عبده عليه رحمة الله والذي قضى في سجنه، ثم لم توجِه إليهم أيّ اتهامٍ أو تقدمهم إلى محاكمة.

ولعله لم يكن اعتقالاً، هذا النوع من الاعتقالات غريبٌ ونادر حتى في أكثر بلدان العالم قمعيةً وانغلاقاً، إذ إنه بمجرد أن يحدث تتبعه سلسلة ممنهجة من الإجراءات والسياسات التي تستهدف محو تاريخ المعتقل، إلغاء أدواره السابقة واللاحقة في الحياة العامة، ومحو إسمه وصورته وإنتاجه الإنساني في الذاكرة الجمعية للشعب.

في الغالب، تبدأ هذه الإجراءات في اللحظة التي يصدر فيها الأمر بالاعتقال، حِينَئِذٍ يكون النظام قد أعدّ قبراً عظيماً يتسع لطَمْر إسم المعتقل وكسبه وعلاقاته وأحلامه، بل ووجوده كله، وكذلك المساحة التي أفردها الشّعب لحضوره في الذاكرة، لتستقر مكانها حالة أخرى غريبة (هذا الشخص لم يُخلق أصلاً)، وبذلك يكون النظام قد صحح التاريخ والمستقبل في آنٍ معاً على طريقة عمل وزارة الحقيقة في رواية ١٩٨٤ لجورج أورويل، ولعلّ هذا هو المغزى الحقيقي من سياسة الإخفاء القسري التي تُمارس على نطاقٍ واسعٍ في دولةٍ مثل إرتريا، ولا زالت.

من منكم يَذكر أخر مرةٍ رأى فيها الفنان إدريس محمد علي على شاشة التلفزيون أو سمع صوته في الإذاعة خلال السنوات التسع الماضية؟ لن تكون أكثر من مرة أو مرتين على الأرجح، كم مرة جاء إسمه على لسان أحد المسؤولين في العلن، بالتأكيد ولا مرة واحدة؟! حتى البرامج التي تذاع من أرشيف الإذاعة أو التلفزيون يعاد تقطيعها بحيث لا تتضمن صورته أو صوته، ولن يجرؤ أحد بعد ذلك، يكبر أو يصغر أن يذكر اسمه ولو خطأً، والحال كذلك ينطبق على الآلاف من السجناء، سواءٌ من النخبة والمشاهير أو عامة الشعب والذين تم إخفاء بعضهم منذ أكثر من عشرين عاماً!، الهدف إذن أبعد من مجرد العقاب أو التأديب.

ولعلّ "أبو خالد" كان يعرف هذا جيداً حتى قبل أن يُعتقل بوقتٍ طويل، لكن روح الفنان التي لا تغادره أبداً لا مجال لتحييدها، إدريس لم يقدر على مقاومة حسن ظنه المفرط في الرفاق وفي الوطن وفي المستقبل، والفنان بطبعه متفائل، والآفاق الوردية داخل نفسه رحبة، عميقةٌ وحقيقية، وإلا لماذا يصبح فناناً في الأصل؟ أليس هو القائل:

دِيبْ انْشَلّتْ لَهْبَتْنا،، إنْبَنّيا رَواشينْ
وَمِن جَفَرْ دِيبْ جَفَرْ،، إنْبَلّسَا جَرادِينْ
عَجّي حَاقْلَتْ إيكُوني،، دَهَبْ بِئتا وحَطينْ
عَجّي سلام مِن رَكّبْ،، راكب بِئتا ومسكينْ
إرتريا تتحرر،، وخيراتا تكفّينا
وقِل مَدحَر مطّأنا،، حُونا ولا فتّينا
حاكم سنّي لحَكْمَنا،، وابْ حَتِي عِنْ لرئينا
عَجّي جنة تأقبّل،، اب لهبتّنا وإدينا

وهكذا، لمّا تضيق الأوطان بأبنائها فإنهم لا يجدون ملجأً سوى دفء تلك الأغنيات والملاحم، وحين يضرب اليأس بأطنابه كلّ مكان فإن الأمل والسلوى في ذلك النوع من النوستالجيا الحميمة وإن كانت عابرة في أغنيةٍ أو نشيد، ففي أحلك أيام الوطن وحرائقه العصيبة لن تجد المبدعين إلا وقوفاً عند ذلك الحد الفاصل الذي لا يرى الناس بعده شيئاً، يؤدون أدوارهم العظيمة بمنتهى الإخلاص، قريبين من أوجاع الناس، بعيدين عن ذواتهم وغافلين عن أوجاعها الخاصة، ولذلك ربما يخلدون رغم حماقات الأنظمة وتفاهاتها.

قبل اعتقال "أبو خالد" بنحو ثلاثة أشهر تقريباً، التقيته في الخرطوم، وكعهدي به، هادئ، حسن الظن بالناس والحياة، ممتلئٌ بثقةٍ عميمة وتفاؤلٍ مفرط بشأن غدٍ وطني لم يكن بائناً لي أو لغيري، لكنه بروحه العظيمة كان يراه قريباً..
صدقني لن يستمر الأمر طويلاً، هذا العهد مآله التاريخ !

وكما لو كان "يتكتّم نبأً ساراً"، حدثني بأساريرَ طلِقة، وروحٍ شاعرية مرحة، وبنبرةٍ مفعمة بالأمل في المستقبل، وفي ازدهاره المؤكد، لم أشأ أن أحبطه ولذلك اكتفيتُ بالإنصات تأدباً، طاف بحديثه الوئيد في كل شيئٍ يمكن أن يشغل عامة الناس وخاصتهم، في السياسة والمجتمع والاقتصاد والعلاقات ثم عرج أخيراً على الغناء.

كان قبل مجيئه قد أعد ألبوماً حوى بعض الأغنيات الجديدة وخاصة باللغة العربية - وهي إحدى أدواره العظيمة إبان الثورة أراد أن يعيد لها البريق - لكنه وكحال زملائه الآخرين كان يشتكي من غياب الوكلاء الفنيين في البلد، إذ يتعين على المطرب أن ينجز أغنياته، ويلقنها للعازفين ويقوم بتسجيلها وتسويقها والإشراف بنفسه على كل صغيرةٍ وكبيرة تخصها حتى تصل إلى الناس كما يحب، وهي أمور مرهقة إذا أراد أن ينجزها بنفسه خارج أُطر مؤسسات الدولة التي تسيطر على كل شيئ وتوجهه الوجهة التي تحب، بل وتعامل الفنانين معاملة الموظفين والجنود، تشتري إبداعهم ومحبة الناس لهم برواتب تافهة رغم العائدات التي تجنيها من مهرجاناتهم وحفلاتهم العامة، ولم يكن بمقدوره ولا مقدورهم جميعاً رفض ذلك، حياؤهم يمنعهم، وقبل ذلك وطنيتهم، فمهما يكن تشكلت عجينتهم الأولى في ميادين الثورة وأيامها العصيبة، ولعلهم يُعدّون ذلك جزءاً من وفائهم لها ولأيامها الناصعة، لذلك يلزمون الصبر الجميل ويتدبرون أمورهم الخاصة بمنتهى التعفف.

على أي حال، جَاءَ الرجل باحثاً عن مُنتِجٍ يُعينه في عمليات التوزيع والتسويق وخاصةً في السودان، وقد تمكنتُ من تقريب المسافات بينه وبين بعضهم، وجئتُه في نهاية الأمر بعرضٍ مناسب لتسويق ذلك الألبوم في السودان على نحوٍ مريح، وعاد من بعده إلى كسلا وهاتفني سعيداً، ثم عبر الحدود وبقيتُ في انتظار "الأسطوانة" التي لن تأتِي، وعدني بها ووعدتُ بدوري المنتج، صاحب شركة "البجاوي" للإنتاج الفني، وكان مؤمّلاً منها أن تعيد التوازن إلى الأغنية الإرترية وإعادتها من أجواء الحروب الرعناء إلى بعض أغراضها العظيمة الأخرى لكن ذلك لم يحدث، إذ إنه وقبل أن ينطوي العام كان قد بلغني نبأ اعتقاله وأفجعني كما أفجع كثيرين.

الأمر ليس جديداً على صاحب "جارة البحر" فقد جربه من قَبْلُ مراراً إبان الثورة ونكساتها العظيمة وانتصاراتها أيضاً وإن كانت حدته أقل بكثير وطابعه العتاب والتأديب، إذ سجنته معظم فصائلها نتيجة نقده الحاد لأحوالها المائلة، وتقريعه المُر لقادتها كلما سنحت الفرصة دون أدنى خوف من حماقاتهم، ولعله كتب بذلك تاريخاً موازياً لمسارها المتعرج صعوداً وهبوطاً، وأنتج غناءً مليئاً بأسئلة المصائر والأحلام، وتحمّل في سبيل ذلك الشيئ الكثير، وعزاؤه أنْ بقي له الود العظيم في قلوب الملايين، والشواهد كثيرة:

أفوتو ؟
أفو أباي سَحَقا ديبْنا وفَتايْنا أبينّا ؟
حوي أفوتو ؟

وأيضاً:

ابْ سَبّتكم مسؤولين،، وحدة أفْيَات إي أَتيتْ
سنين ديبا تخَلّسا،، حلم قَبْأتْ وتِمنيتْ
حلم لاتو لِتفَسّر،، نايْنا من كلو أكيتْ !

ذلك ما لم يحتمل سماعه معظم قادة الثورة حينها، ثم أنشد بعد سَجنه من قبل عدة فصائل:

أنا اقلوم قِي حِمي،، انا بُدُح تهاقيكو
ورحي قي حِمي،، مَعْيَن ارئي هليكو
إي سَمعوا لهقيايي،، إقل طُموم حاكيكو

وبعد ذلك بسنوات أنشد منتقداً اتفاق بعض التنظيمات السياسية في اليمن، جلب عليه سخطاً عميماً من قادتها، ثم لم يدم الاتفاق كما تنبّأ له، لكنه خلّد الأغنية على أي حال:

عَقِد وَدَوْا ديب مَرْعات،، كِم سَبْ حلال وسَنّيتْ
وانكولَلَتْ ابْ عقدا،، اي تحدّقتْ واي تهديتْ
ييييبو للوووي إي تحدّقتْ وأي تهديتْ
ديبْ إدّنيا لهلّا،، يَهوْ بُدُح لِتّمني
سَنيتْ تَمنيت إقلكم،، إندي قِلْ رَحا إي سَنّي
وإنتم حِرّاب لَمدْكم،، عَمّر إيكون وبِني

حتى قادة الجبهة الشعبية الحاكمين، حين طرح بعضهم -بُعيد الاستقلال- مقترحاً خجولاً لعلاقة كونفدرالية تربط البلد - الذي لم يبرأ من جراح النضال- مع المستعمر السابق، كان إدريس أول من رفع صوته معترضاً بأغنية شهيرة، ووصل الأمر بالوزير الأسبق والسجين حالياً محمود شريفو إلى حد وصفها بالبيان الأول:

مِندي تأكي ميرحتا،، ثورة سلاح إي كَريتْ
توركيو لأكا،، وتأسّانيا لأكيتْ
ثورة بلّاي إيكُوني،، إنلَكفّا كِم بَليتْ
إي غَوينهوم أمحرا،، مدول قَبْأوا سَبْ سنّيتْ ؟
إي نكافِلّا وأي نسلّم إدينا،، أفوتو أب ثورتنا تلهينا ؟

قبل هذا اليوم بنحو عامٍ تقريباً، بلغني أن بعض كبار الفنانين، من زملائه ورفاق دربه تشفعوا لدى الرئيس كي يفرج عنه تقديراً لدوره وسِنّه - وهي سابقة نادرة في ذلك البلد - لذلك قرر الرئيس أن يقابلها بمنتهى الكرم، وَعَد الشفعاء بتلبية مطلبهم شريطة اعتذارٍ علني وصريحٍ من إدريس لفخامته (فالدية عند الكرام الإعتذار) على قول الحارث بن عُبَاد..

ذهبوا، وفُتحت لهم زنزانة الرجل بعد لأْيٍ ليبلغوه كرم الرئيس ورسالته النادرة، لكن "أبو خالد" رفض الاعتذار بحزم، وإن كان ثمة من يعتذر فلعله صاحب الفخامة، وفضّل قضاء بقية عمره في محبسه على أن يفعل ذلك إلى أن يقضي الله أمراً، والعهدة طبعاً على الراوي..

على أي حال، إدريس هو ذلك الفنان الذي بوسعه أن يُحدث الفارق المأمول إذا قرر بمحض إرادته أن يفعل، ففي أيام الثورة الأولى حين أحجم الشباب عن الانضمام إليها أخجل رجولتهم بأغنياته المستفزة اللاذعة، وكذلك حين تعرضت الثورة لهزاتٍ عظيمة في منتصف الثمانينيّات بسبب موجات المجاعة وشُح التمويل ونقص المقاتلين كانت حفلاته تجوب مدن السودان ودول الخليج تجمع المال وتحرض الرجال، فإلى جانب وطنيته الخالصة فإن أفكاره الغنائية ناصعة وطازجة، فهو فنانٌ مُلهم، حرٌّ وجريئ، لا ينقصه إلا الأفق الحر، والفضاء الذي يحتمل صوته الشاهق دون سقوفٍ أو حدود، وإرتريا التي لطالما تمناها أبو خالد وغنى لها، للأسف لم تحدث بعد..

خروج:

ويَعبرُ وجهُكَ أفقَ البلادِ،
نقياً كأزمنةِ الأنبياءْ..
ترتّلُ الكائناتُ تعويذةً،
أخذْتَ بها مصْعَداً للسماءْ..
مسَسْتَ بها مُرسلاتِ الرياحِ،
لتُنجبَ جيلاً من الشعراءْ..
لتهبطَ بالكلماتِ الغيومُ،
ويَعْذُبَ بعد الغناءِ الغناءْ..
يعودُ من الموتِ مذياعُنا،
لينْشُرَ عطراً ويَنثرَ ماءْ..
ليُعلنَ أنّ النشيدَ صلاةٌ..
وأنك نَسْلٌ من الأولياءْ..
وأن زمانَ الغناءِ فَسيحٌ،
وأنّ الدقائقَ محضُ ابتلاءْ..
فتولِمُ أُمّي لنَذْرٍ قديمٍ،
تُزاحمُه رقصةُ الـ"سّومِياءْ"..
يُدلّ إلى الدارِ من غيبةٍ،
لفيفٌ من الأهلِ والأصدقاءْ..
يُفطفِطُ في القهوةِ الزنجبيلُ،
يُطقطقُ في الفرنِ خبزُ العشاءْ..
تذوب الشموعُ على دفئه،
وترقصُ مروحةُ الكهرباءْ..
وكأسٌ تميلُ على أختها،
أهَلْ حانَ دوري لنخبِ المساءْ ؟

Top
X

Right Click

No Right Click