محمد مرانت الـشـّيـخ الـقـائد - الحلقة الثالثة
بقلم الأستاذ: عبدالفتّاح ودّ الخليفة - كاتب ومؤرخ إرتري، المملكة المتّحدة
ذكرت فى الحلقة السّابقة أن الشيخ القاضى (محمّد مرانت) أصبح هو معلّمى لمادة سيرة رسول الله العطرة...
فدخل علينا الفصل، وإستقبله فى الباب (أخيه) الشيخ الأستاذ الهادئ فصيح اللّسان نقىّ السرّ والسّريرة، الكتوم الخجول والمدير الحالى للمعهد الأستاذ (إدريس آدم) أطال الله فى عمره ووهبه لنا الصّحة وموفور العافية، قدّمه للفصل قائلا هل تعرفو أستاذكم لمادة السّيرة النبوية قلنا: لا... قال إذن هذا أستاذ المادة وإسمه الأستاذ (محمّد مرانت).
خرج الأستاذ الشيخ إدريس آدم وترك لنا فى الفصل الأستاذ الشّاب (محمّد مرانت) شابا وسيما، يلبس جلبابا وعلى راسه طاقيّة، يلتحف عمامة لفّها بإسترسال حول عنقه، لم يكن له شاربا كثيفا، ولم يكتظّ ذقنه شعْرا، يشبه وكأنه جاوز العقد الثّانى من عمره بقليل، به عاهة فى رجله اليمنى تشبه وكأنها فطرت معه منذ ميلاده، يتحدّث العربية بلا تلعثم، تخرج الكلمات هادئة صابرة، من ثنايا ثقره الأبيض النّاصع، من لهجته فى التقرى تعرف موطنه عنسبا إن كان لك نصيب فى لغة التقرايت!!!
بدأ الشيخ الشّاب بـ (بسم الله الرّحمن الرّحيم) وصلّى وسلّم على الرّسول الحبيب قال: كلّ العام سوف يكون مقرّرنا سيرة رسول الله من كتاب (مختصر سيرة الرّسول - لإبن هشام) وسأل المعلّم: إن كان الكل يملك الكتاب المقرّر؟
عدد أقرب إلى النّصف ردّ بـ لا!!! قال الأستاذ الشيخ: ألم يبلغوكم فى المقابلة بالكتب المقرّرة؟
قلنا نعم شيخى قد بلّغونا فى المقابلة!!! ولكنّنا لم نجد الكتاب!!! (سوف أتطرّق للمقابلة هذه فى الحلقات المقبلة) والسّبب قد تعرفه أكثر منّا!!! قال: نعم... نعم... شحّ الكتب الدينية، كان فى ذاك الزّمان شحّا وحصارا على الكتب إياها من (الملك) والإقبال الأكبر على المعهد من طلاب المدارس، ومن غير طلاب المدارس، زاد الأزمة، وذالك من أثر الحملة القويّة الّتى أطلقها الشيوخ و الكثير من أصحاب الهمّم، ولأنّى كنت فى الصّف الأمامى لحبّى فى أن أرى المعلم وهو يلقى الدرس قلت له: شيخى بحثت فى كلّ مكان وسئمت وإستسلمت؟ قلت: لم أجده فى حانوت الشيخ (الحاج حامد) ولم أجد من طلاب السنة الفائتة من أبتاع منه الكتاب!!! قلت له: شيخى إنّ والدى قد أوصى لى أحد الأعمام ممّن يعملون بـ (البرشوت) بين إرتريا والسودان ليجلب لى كتاب السّيرة، وكتاب الفقه للشيخ (العشماوى)... ولكن حظّى النّادب رجع العم المعنى بعد فترة شهر تقريبا بكتاب (عنوانه كيف تعلّم طفلك الوضوء والصلاة)... مثله مثل غالبية عمّال (البرشوت) لم يوفّق فى أن يعرف الكتب ولا أن يتاجر فيها.
قال: نعرف ذالك وندرك شحّ الكتب الإسلامية والمطلوبة فى المعهد، ولكن إجتهدو حتى تجدوها لأن الدروس أنفع وأجدى مع وجود الكتب!!!
مسألة الكتب هذه أكبر مشكلة تواجه الطّلبة فى المعهد، يشترى طلاب العلم كتب رفقاءهم من السنين التى مضت والبعض يحجزه قبل أن تأتى السّنة ممّن يعرفهم من الطلاب فى المعهد لا أحد يحتفظ بالكتب، مراعاة للمصلحة العامة، والمعلّمون الأجلاء يشجعون كلّ من أكمل الكتاب المقرّر أن يبيعه، لحل الأزمة، فقد تجد كتابا عمره خمسة سنين أو سبعة أو عشرة، إنت وحظّك وربمّا يكون أول طالب إقتناه يكون فى تلك الحظات فى مدارس السودان، أو فى جامعات بغداد أو الأزهر الشريف، كلّ الكتب القديمة تحكى عن سجلّ طلاب العلم فى ذاك المعهد العتيق، لأنهم يكتبون أسماءهم فى غلافه، فعندما تشترى كتابا قديما قد تجد فيه عددا من الأسماء جزء منها ممسوح وجزء مشطوب، وإسم آخر غير مكتمل... وقد تجد الكتاب غلّف مرّتين، وغلاف فى رأس غلاف وهكذا كلّ كتاب يحكى عن تأريخ... ولكنّنا عندما لم نجد الكتاب المقرّر والمعيّن فى الحوانيت، يتوسّط الآباء للبحث عن الكتاب إياه من أصدقاءهم الّذين إقتنو الكتب الإسلامية بسبب تلقيهم بعضا من علوم الفقه، والتوحيد، والنّحو، والسّيرة النّبوية العطرة، ولكن عندما نعجز فى العثور عن الكتاب... نبلغ الشيخ وهذا ما فعلته مع شيخى (محمّد مرانت) فطلب منّى أن أنقل المواد من الكتاب مستعيرا ممّن يملكه للحصّة المقبلة وسوف تكون عن مولد الرّسول ونشأته (ص)...
وبعد أن بدأ حصّته بزمن قليل قلت له: شيخى كان هناك ضرب رصاص وأزير مدافع فى إتّجاه جبل (قطيتاى وطريق أسمرا) قبل الإستراحة هل سمعته؟
وبطريقة تختلف عن طريقة شيخى ومعلمى (إدريساى) ردّ مسرعا وبهدوء الواثق والعارف قائلا: إرتريا كلّها فى معركة!!! وأضاف لا تهتمّو بشيئ، إنّ الله قادر على كلّ شيئ وهو سوف يدرأ عنّا الأخطار!!!
سأل الطالب (إبراهيم) : شيخى هل تقصد أن هناك حرابة اليوم وفى مكان آخر من إرتريا غير الّذى نسمعه؟
قال الشيخ الشّاب: ما قصدته إن إرتريا فى حالة حرب مستمرّة، حرب بين حقّ وباطل والحقّ دائما منتصر بإذن الله!!!
سأله الطّالب (إبراهيم) قائلا: شيخى هناك قرى تدمّر وأخرى تحرق وأطفال ونساء وشيوخ يقتلون لا أدرى ماذا جنو؟ لا شيئ يُعمل تجاه ذالك؟ الكلّ نظر إلى إبراهيم هذا بإسغراب وسؤال فحواه من أنت يا إبراهيم وماذا فى جعبتك!!! (إبراهيم هذا... يعرف آل مرانت وهو من نفس منطقة عنسبا كان فى سنّ الفهم والرّجولة... تعرّف على الشيخ منذ لحظة قدومه... رحلت أسرته من ضفاف نهر عنسبا إلى ضفاف نهر القاش بحثا عن موارد أفضل للمعيشة وفى الرّحلة ما بين النّهرين، بين (تكمبيا) و(أوقارو) و قرية 13 على ضفاف القاش شاهد الكثير وتعلّم أكثر وسمع عن الجرم والظلّم الّذى وقع على (عد أبرهيم) ومن ثمّ إنتقل لدراسة الإبتدائية فى السّودان، ولكن الهيام والحنين إلى رائحة جوافة وبرتقال البساتين فى (عنسبا) ولعبة (شكرّوك) مع أقرانه فى قرى الصّمود (تاجبا) و(كميل) و (منداد) على ضفاف نهر الأبطال (عنسبا) أعادته بمفرده تاركا الأسرة ليعيش مع أقاربه... لم أرى له مثيلا فى حبّ الأرض والطّين الّذى تمرمغ فيه وهو طفلا... جاء للمعهد جاهزا معبئا ثائرا، مشحونا حتّى الإنفجار بحبّ الوطن ومعه العمم السّكروته من أسواق (أم درمان) والجلابيب البيضاء بلا رقبة، يتابع الدّروس بإهتمام وبتهوّره المرغوب يقحم الفصل يوميّا وفى كلّ حصّة فى شأن السّياسة، وعند ما تحلّ علينا إجازة المعهد يركن الكتب والجلاليب الجميلة وعممه وشالاته النظيفة، ليأتينا حاملا الكثير من خيرات بساتين (عنسبا) فى حماره يبيع ويشترى فى سوق الخضار بملابس إبن بلد، يحكى مع الكل، مستعملا عدّة لغات ممّا تيسّر فى الإقليم والمدينة كان نموزجا لكثير من طلاّب العلم فى المعهد ولكنّه كان قد جاوز عمره بتفكيره، والفترة الّتى قضاها فى السّودان من عمر الطّفولة والصّبا وإن كانت قليلة، كان لها فعل السّحر فى تكوين وعيه، ومحطّة رئيسية فى مشوار حبّ الوطن، رآى وسمع الكثير وناقش بحرّية مع من رآى من الثّوار وجاءنا هكذا ثوريّا ناضجا عارفا بكلّ ما جرى وما يجرى... ولكنّه كان متسرّعا ومتهوّرا بعض الشيئ)... قال له الشّيخ: بعد أن نظر إليه مليّا... يا (إبراهيم): دعنى أقول لكم إن الحرب فى إرتريا هى حرب بين حق وباطل... والحق هو المنتصر دائما وأبدا طال الزّمن أو قصر... والآن دعونا نعود إلى حصّتنا وأنتم ما عليكم بشئ فقط إجتهدو وواظبو على دروسكم، وأتركو الباقى للبارئ، هكذا قالها وبإسلوبه الفريد الجميل الجذّاب، والحق سوف ينتصر!!!
الحق بإذن الله دائما منتصر!!!
هذا المسجد والمعهد العتيق... بلا تعليق
قلت فى نفسى كيف يتجرّأ هذا الشيخ الشّاب ويقول كلّ هذا!!! يتحدّث بنغمة تختلف عن الشّيوخ الآخرين، لأنّ كبار الشّيوخ يتّسمون بالحظر والتروى، لأنهم إكتوّو بنار الفتنة، وعانو الأمرّين من الملك وأعوانه فى مرحلة صعبة سقاهم فيها الجنرال الأجوف (تدلا عقبيت) وعصابته الحنظل والمر، ليس فقط لأنّهم شيوخ معهد ولكن لأنّهم قوّاد وروّاد وشباب الحركة الوطنية، كانو حظرين فى تناول شئوون السياسة، ولكن شيخى (محمّد مرانت) كان فيه عنفوان الشباب يشوبه الحظر،وشجاعة كان يجب أن تُظْهر فعلها فى ساعة وجوبه لأنّه شابُّ لا يستطيع ولا يتقن لعبة دفن الرؤوس فى الرّمال، ولذالك كان كلّ ما كان!!! وما حصل من الشيخ وللشيخ مرانت!!! ودفع ثمن جرأته وشجاعته وحبّه لتراب أرضه.
كان حديثه من الفم إلى القلب، أحسّ الطلاب وكأنهم يحادثون أخ أكبر يفاتحهم فى كلّ شيئ، بسهولة وبلا حواجز، ولكن بحزم، الحديث معه شيّق فى الدّين والدنيا، وفى مواد الدراسة لا يهاب شيئا، شكله الخارجى يوحى برقّة، ولكنه قوّى الشّكيمة، لا يهاب أحدا إلا الله ،حديثه عن العقيدة والوطن والهويّة، يوحى لك وكأنّه يريد أن يجعل منّا الأطفال فى ليلة وضحاها جنودا للوطن، والقضية، ولأنه من الجيل الّذى عايش رعونة الأمحرا والخونة، فى نبرة حديثه المغلّف بالوطنية دائما، تحسّ برغبة فى الإنتقام، وردّ الشرف.
إنقضت حصّة السيرة النّبوية وإنفضّ الجمع، هرعت للسّوق والكل فى حـالة ترقب قصدت ومعى رفـاق فصلى قهوة (بيجوك) وجعلنـا نسترقّ السمع لمعرفة أخبـار ضرب الرّصاص من الصباح الباكر والذى لم ينقطع حتّى الّسـاعة 11 ظهرا... من يقول أن المعركة بين الجبهة والجيش الإثيوبى (الطور سراويت) بالقرب من (عيلا برعد)... ومن قـال: أن عربـات الكمندوس محمّلة بالجيش إتجهت بالأمس صوب عيلا برعد... ومن يقول أنّه رآى بعض الجنود من الأمحرا و وجوههم واجمة وعيونهم يشعّ منها الحقد والكره، وكأنهم سمعو بمقتل رفاقا لهم من الجيش... وكلّها قصص تعوّد على ترديدها صبية المعهد والمدينة مع سماع أخبار وحروب الثورة وجحافل الأمحرا ومسانديهم من بنى الوطن (الكمندوس)!!! الجزء الأكبر من تلك القصص واقع معاش والمتبقّى نسيج خيال أطفال غذّته الحياة المعاشة والوضع المكفهرّ، ولكن الحياة كمـا هى والكل مستسلم لقدر الله وقضـاءه والقلقون الصّـامتون الصابرون كُثر... والجوّ العام يسوده الترقّب... فترى الترزى (الخيّـاط) يذهب إلى صديقه فى الحـانوت المجـاور يهمس بحديث خـافت،وبعد مداولة قصيرة يعود إلى عمله وصـاحب الحـانوت يخرج من حـانوته إلى القهوة يتبادل أطراف الحديث مع آخر... ثمّ يعود مسرعا، وأصحاب الحوانيت وتجّار الموارد البلدية فى (سوق أشّام)، و(سوق برّا) و(سوق حيسس) يستفسرون ممّن تقاطر على المدينة فى الصّباح الباكر، إن رآى أو سمع شيئا فى قريته أو فى الطّريق... ولكن بحذر... لأن عيون الملك أيضا حاضرة تتلصّص الأخبار وتتوعّد الأخيار الأحرار من بنى الوطن والمدينة...
وفى صبيحة اليوم التالى وبعد حصّة علم التوحيد، وفى (إستراحة الإفطار... وفى مقهى (عم بافول) أمام المسجد الكبير تصيّدت أحد الطّلاب والّذى كان قد أتى لتوّه من عنسبا ومن قرية (طبّاب) مشيا على الأقدام، كان يلقّبه الشيوخ بفرح (ود توك توك) نسبة للشيخ الولىّ المشهور من (الجزيرة) فى السّودان... ولأن الطالب هذا كان أسمه الأول فرح... ولكن شيخى محمّد إدريساى كان يستلطف طريقة فرح فى الحديث فهو يخلط العربية بالتقرايت مثل كثير من الأحباب فى قرية (عنسبا طبّاب)... سأله الشيخ مرّة سبب عراكه مع أحد الطّلاب فى (قهوة بيجوك)... قال فرح للشيخ: هو الّذى بدأ!
قال الشيخ كيف؟
قال فرح: هو إندى كشحنى بالموية وأنا كمان إندى كشحتو بالموية... (إندى كلمة تقرى)
ومرّة سأله الشيخ عن سبب غيابه فى اليوم الفائت من المعهد؟
فردّ فرح بلغته الفريدة سيّدنا: (وحيز عنسبا أمس كان مليان... إناس أنا اليقول ما كان يتعدّاه وعشان كدى فضلت فى عنسبا)... والمقصود (نهر عنسبا بالأمس كان منسوب الماء فيه مرتفعا... ولم يستطع أحدا أن يعبره للمجيء إلى كرن حتّى من يثق فى رجولته وذاك سبب غيابى!!!!
قال له شيخى محمّد إدريساى:(إندى كشحك وإندى كشحتو)... (ووحيز عنسبا إناس أنا اليقول ما يتعدّاه) يا فرح (ود تكتوك) ما موقع هذه الجمل من النّحو والإعراب... الله يهديك فى لغتك وفى علاقتك مع الطّلبة... إهدأ وإتّزن وكن إسما على مسمّى... فرح لم يرى شيئا غريب ولم يلحظ أى تحرّك مريب من قريته حتّى يصل كرن... ولكن قال وجدت بعض الشّباب فى قرية (شمليوخ) والتى تبعد 4 كيلومترات من كرن شمالا يقولون أنّ الأمحرا منزعجون لأنّه قتل منهم الكثير...ذاك لم يشبع غريزتى فلجأت إلى أحد أبناء عونا... والّذى كنت أجالسه فى القهوة وأجاوره فى الفصل وأرافقه إلى قريته (عونا) أحيانا كثيرة... وأحيانا نصل إلى ضفاف النّهر...، ولأنّنا كنّا قد أوجدنا لغة مشتركة بيننا، وهى أنّنا شاهدنا الثورة والثوّار فى الرّيف الحبيب ولأنّه أيضا فاجئنى مرّة بخبر ومفاده أنّ ضاحية كرن (عونا) قد حلّ عندها ليلا بعضا من فدائيّ الجبهة حلّو عند عائلة ذكر أسمها وذكر إسم أحد الفدائيين وهو أخ شقيق لأحد الطلبة فى المعهد.....قال: نالو قسطا من الرّاحة وقبيل صلاة الفجر عادو من حيث أتوا،... لا أدرى لماذا وكيف وثق إبن (عونا) هذا ليحكى لى تفاصيل ذاك الحدث... ولكن هذه القصّة ونتف من الأخبار كان ينقلها لى (إبن عونا) وبعضا من أغانى (القوليا) بالتقرى والبلين كلّها تمجّد الوطن وجبهة التحرير الإرترية، كلّ هذا شجّعنى... لأسأل إبن عونا عن تفاصيل معركة الأمس...!!!
همس إلىّ هذا الطالب المتابع والعارف بأسرار معركة الأمس!!! فقال إبن (عونا): أن الأخبار المتواترة هناك فى الضّاحية مفادها أن ضرب الرّصاص الّذى كان بالأمس كان لمعركة، خاضها جيش التحرير الإرترى مع قوّات مدجّجة ومدرّعة إثيوبية يقودها قائد كبير من الجيش الثانى فى أسمرا، وأن القائد الكبير هذا كان قد أقسم أن ينتقم ويؤدّب مدينة (كرن) التى أصبحت عصيّة وعاصية، وقلعة للعمل الفدائى، ولكن مخابرات الجبهة الّتى كانت أقرب إليهم من حبل الوريد، علمت بالنية المبيّتة للقائد وصهر الملك (أسرات كاسا) فكمنت له بمفرزة من أبطالها ما بين قرية (حليب منتل) و(عيلا برعد) وذبح القائد فى المعركة، وإنتصر النّسوروإنسحبو بأمان.
ما هى إلا أيام وإنتشر الخبر!!! فى كلّ القرى والحضر!! وفى كلّ ربوع الوطن ، أنّ أحد المتعجرفين، المستبدّين من قواد جيش الثاثى فى أسمرا،ومن المتمرّسين فى قتل البشر، قتل وأحرق، وسلب ونهب فى (ولّقا) فى بلاد (الأرومو) وفى أرض الصومال فى (جيقجقا) إنتقل من فيلق الشّرق حديثا إلى فيلق الشّمال والفرقة الثانية فى أسمرا، ولكن فى أرض الأبطال إرتريا خارت عزيمته، ونُحر قبل أن ينْحر، أراد أن يؤدّب شعبا لم يقترف ذنبا، إلا أن قال: ربّنا الله وإرتريا وطننا، ولكن الأبطال الأحرار، والقابضين على الزّناد ليل نهار، عجّلو فى إستئصاله وشرّه، فوقع صريعا فى المعركة إلتهمته أيدى الثّوار فى معركة شرف، أراد أن ينتقم من شعب بريئ أعزل فانتقم منه الأبطال الأحرار أبناء عواتى، وأسقط فى يد قائد الجيش الثانى فى العاصمة (أسمرا) وجنّ جنون (صهر الملك) (أسرات كاسا) وفجع الملك من هول الضربة الموجعة فى إحدى أبناءه القتلة المحترفين حسّ بها فى رأسه وأصيب بالدوار وحجبت عنه النّوم وإهتزّ عرشه من قواعده الأربعة، ولكن الرّسالة الّتى خرجت من ثنايا المعركة كانت هى الأكبر إيلاما والأقوى صدى!!! ومفادها، أن الْملك والمُلك مهما قوى وبطش زائلً... زائلً... لا محالة، وأنّ الظلم والظّالم لا يدومان... وسجّلت المعركة فى تأريخ النضال الإرترى ضدّ غطرسة الأمحرا وفجورهم بمعركة (حليب منتل) على بعد 10 كم شرقىّ كرن وقيل سمّيت معركة (بالوا) والّتى تبعد عن كرن25 كلم تقريبا ولكنّها فى داخل إقليم (حماسين) وأكبر جيفة سقطت فى تلك المعركة كان (البريقدير جنرال... تشومى إرقتو)... وذالك كلّه فى منتصف عام... 1970.
ولم يتكهن أحدا أبدا ما كان يخبؤه القدر لسكان المدينة من صرع الجنرال ولم يتوقع أحدا بأن جثّته سوف تساوى 400 شهيدا من الأطفال والشّيوخ والنساء والرّضع، إلاّ ما سجلته الأحداث لاحقا من مذبحة فى (عونا) سجّلت فصلا جديدا من الظلم والإستبداد، وجرما إنسانياّ الا يغتفر... وإحدى المواجع الإرترية الّتى لا تنسى، حرمت أطفالا من آباء، وآباءا من أطفال، وثكلت أمهات، ولا زال الكثير من أبناء (عونا) والمدينة يعانى من آلامها وأوجاعها فى الجسد والرّوح، والفضل كلّ الفضل فى ذالك لجيش (أسد سبط يهوذا القاهر - هيلى سلاسى الأول مختار الله وإمبراطور إثيوبيا) والحفافيش من الطّابور الخامس من الإرتريين... ومن أناس لم يفكّرو لحظة أن الزّمن دوار!!! وقتل النّفس بالحرام رجْسٌ حرّمته كلّ الكتب والأسفار!!!... ولكن لأنّ العجرفة والإسبداد، والإستهتار!!! بكرامة البشر تعْمى القلوب والأبصار!!! حصلت المذبحة!!! وتركت فى عمق التأريخ الإرترى والكرنى جرحا من الصّعب محوه من مخيلة، كلّ طفل وصبىّ وعامّة النّاس فى المدينة وضواحيها، وكلّ أرجاء الوطن الحبيب.
وفى حصّة أخرى للسّيرة النّبوية وعنوانها (غزوة بدر)... قلت لشيخى سوف لن يدوم النّقل من كتب الأصحاب فى الفصل لأنّى عن طريق معارف والدى قد حصلت على الكتاب ولكنّه قديم بعض الشيئ!!! وبدأت أقلّب الكتاب لأجد فيه عنوان الدّرس...
قال الشيخ: أعطنى كتابك لحظة!!!
ونظر إليه مليّا!!! كتاب قديم!!! ومغلّف مرّتين!! الغلاف الثانى كرتونى لصّق على الكتاب بالدقيق!!! أمّا الغلاف الأوّل هو غلاف (كراسة فيها الملك القاتل وحرمه وأبناءه الإثنين!!!... ومن منّا لم يمتلك تلك الكراسة؟؟ ومن كثرة التعامل اليومى معها أصبحت شيئا روتينيا لا يهتمّ أحدا بما تحويه من صور...
قال الشيخ: بنبرة الشّاب الواثق وبأسلوب مهذّب... وبلا غضب... وبحديث يحمل معانى كبرى ورسالة... يا عبدو لأن الكتب الدينية تحوى كلام الله فمن الأفضل أن تغلّفوها بأوراق لا تحتوى على مكتوب ولا صور... قلت حاضرا!! سمعا وطاعة شيخى... ولكنّى أحسست أنّ الشيخ لا يريد أن يكون الملك حاضرا فى حصصنا وفى معهدنا... لا هو ولا أسرته وقلت فى نفسى يا إلهى لأى درجة يكره شيخى (الإمبراطور)... قلت لعمرى سوف يغضب إن عرف أنّنا إستقبلنا (ملك الملوك) إصطفّينا من الصّباح الباكر حتّى نمّلت أرجلنا وردّدنا نشيد (نوقوس نقسوم) بالأمحرنية حتّى بحّت أصواتنا وحملنا له علمه الّذى يشبهه ولا يشبهنا وكلّ ذالك قبل عامين وقبل أن نجلس على مقاعد فصول المعهد... ثمّ ترجّل الشّيخ ومرّ على الطّلبة واحدا واحدا وهو يلقى الدرس و ينظر إلى كرّاساتهم وكتبهم... وبحاسّتى أدركت أن شيخى يبحث عن من غلّف كتابه أو كرّاسته بجرائد الأمحرنية أو يقتنى الكرّاسة الّتى فيها صور الملك،،، هكذا فهمت وفهم غيرى ورسالة الشيخ وصلت فى أبهى صورها وأبلغ حكمها دون أن ينطق أو يفيض فى الحديث...
ولا زال الشيخ يلقى درسه فقال: كانت المعركة بين الحقّ والباطل، وإنتصر فيها رسول الله والصّحابة الأجلاء لصحّة عقيدتهم وبما آتاهم الله من إيمان قوىّ وثبات منقطع النّظير، إنتصرو بعددِ وعدّة قليلة، على عددِ وعدّة أكبر لأن قائدهم كان محاربا وقائدا وقدوة، وفى المقدّمة ولم يكن ليدفع بهم فى أتون المعركة وهو يحتمى بخندقِ أو مصفّحة ويكون دوره فى المعركة فقط أن يقول (بلاتشو لوربلوش)... أَضربوهم المارقون... وأربطوهم بما عندكم من حبال إنّهم أطفال صغار سزّج لا يعلمون ما يفعلون... وساد الفصل الصمت لدرجة الوجوم الكلّ يستمع مشدودا ومسحورا، وحلّت عقدة اللّسان عند الكثيرين، وأمطرو الشيخ أسألة، وإستفسارات، بلا خوف بلا تردّد. بوئام وإنسجام، ودخل الشيخ قلوب الأطفال الصّغار بلا إستئذان.
خيّل ألىّ أنّ شيخى هذا الّذى يقف أمامى... وكأنه قائدُ عسكرىّ يحاضر قوّاته، ويؤهبها لمعركة قادمة، وكلما ينتقل من فصل إلى آخر من سرد معركة بدر ويجد لها رابطا مع الوضع الإرترى، يترك مجلسه ويترجّل من وإلى الباب، واليوم كلّما أذكره أرى صفة التوأم فيه و قائدِ جبهجى آخر مشترك معه فى العزّة والإنفة والتعثر فى المشى لإصابة فى الرّجل، الأوّل قاد المعركة فى الأدغال والأحراش وأصيب فى رجله اليمنى وأصبح القائد المشهور بعرجته فى المشى، وشيخى ولد بعاهته هكذا يقود جيوشا أخرى من الدّاخل وفى قلب مدينة كرن ومن شدّة الولع والحبّ لشيخى القائد صوّر لى، أن كلّ قائد فى الثورة ربما يعرج فى مشيته...
وفى حصّة أخرى مع معلّمى وشيخى القائد (محمّد مرانت منصور) وعنوانها (غزوة الخندق) فى سيرة الرّسول العظيم من كتاب مختصر سيرة الرّسول لإبن هشام ومرجعا آخر جلبه أحد الأعمام من السّودان بطلب من والدى أهديته لشيخى وعنوانه (مورد الصّفا فى سيرة المصطفى) دخل الشيخ الفصل... قام الكل تحيّة وإجلالا... ولم يتخلّف أحدا ولم يتأخر أحدا... فى حصّته الكل حاضر و ينتظره بفارق الصّبر...ألقى الشيخ القائد التحيّة وبعد مقدّمة خفيفة وبسيطة...
بدأ فى سرد وقائع معركة (غزوة الخندق) وكأنه يريد أن يجعل من سيرة الرّسول (ص) مادة للتثقيف الوطنى وتثوير المعهد وإشراكه فى معركة الدفاع عن الكرامة، فى كلّ فصل من الغزوة يقحم الشأن الإرترى عن قصد، ويتفاعل الطلبة عن رضا نفسِ، والبعض يتجاوب بإنفعال لكونهم فى سنّ الكمال أو أقرب،وجاء الحديث عن المنافقين فى غزوة الخندق،وجاء وجه المقارنة و منافقى تلك الأيّام فى إرتريا،قال عنهم: يقولون ما لا يفعلون ويبيعون الأخوّة والمواطنة، والوطن من أجل (ملاليم، أو وجبة أو لوح من الإنجيرا) يصلّون ويصومون، ويتحدّثون لغتنا، يعيشون بيننا، ويحملون أسماءا إرتريّة ولكنّهم يخونون الوطن والملّة، والفصل يستمع فى وجوم من جرأة الشيخ القائد ثمّ إنبرى الشيخ ليقول: أقول لكم عن تجربتى فى السجن!!!
وهنا لم نتركه يواصل سأله طالب ولحقه آخر وتبعه ثالث ...ورابع بعفويّة وبلا إستئذان (سيّدنا إنتمّا سجونام علكم؟؟؟ ومدول فقركم منّو؟؟؟، ومى وديكم كسجّنكم؟؟؟ وأيا أكان سجونام علكم) والمعنى: حتّى أنت شيخى كنت فى الّسجن؟؟؟ ومتى خرجت منه؟؟؟ ولماذا سجنوك؟؟؟ ماذا فعلت؟؟؟ وفى أى سجن كنت؟...أمّا الطالب (إبراهيم) الواثق من نفسه والعارف ما لانعرفه نحن!!! قال للشّيخ اليوم نريد أن نسمعها منك كاملة عليك الله والرّسول... أن تحكيها لنا كاملة!!!
إستغربنا لجرأة الطّالب (إبراهيم)... إتّضح أنه يعرف الكثير والكثير... ممّا يخبأه الزّمن...
ظننت حينها أن الطلبة من قوّة الإنجذاب والتعلّق بالشيخ لو وقف سجّان الشيخ (مرانت) فى تلك اللّحظات أمامهم لا شعوريّا لنهشو لحمه وعظامه وبأيديهم الصغيرة... ولكنّهم لعنو السّجن والسّجانين،وكلّ العسكر والمخْبرين، لعنوهم بحقّ كلّ المذاهب الأربعة لعنوهم بعظمة القرآن الكريم الّذى يقرأون كلّ صباح... بمعيّة الشّيخ (محمّد إدريساى)... لعنوهم بعظمة خاتم الرّسل محمّد ...ثمّ عادو ليستمعو لسيرة سيّد الرسل محمّد من المعلم محمّد... (مرانت)...
نظر الشيخ برهة إلى الطلبة وكأنه يفكّر فى إجابة ثمّ قال: (صبر دو حتّى مرّت، إى تتهوّكونى) عليكم بالصبر!!! لا تستعجلو!!! وكأنه يريد أن يقول لا زال مشوارى معكم فى بدايته!!!
فى تلكم اللّحظات هبط الشيخ من المنضضة الـتى كان جالسا عليها... الشيخ (مرانت) مثل الشيخ الجليل (محمّد إدريساى) يجلس على المنضضة بدل الكرسى ليعلو ويسمع الفصل كلّه لكبر عدد الطّلاب فى الفصل... وليسمع الكبار الّذين فى الخلف... هبط وترجّل... لم يبقى لى إلا أن أمسكه من جلبابه وأقول له شيخى إنتبهت كلّ حواسى وتشنّجت أعصابى أريد أن أسمع أريد أن أعرف... أسرع فى ما تريد أن تقول... لنعرف المجرمين الّذين سجنوك... ولنعرف حجم الجرم الّذى إرتكبوه؟
لا أدرى لماذا كان عندى سابق إعتقاد بأن الشيخ لا يسجن ولا يستحقّ السجن، لأنه شاب صغيرا لم يتذوّق طعم الحياة بعد وبه عاهة!!! فطره بها خالقه، لا ظلما ولا نكاية ولكن تحقيقا لمشيئة الواحد القهّار، ولحكمة يعلمها هو وحده لا غيره، وحكم الله رضى. وبدأ الكل يتوق لسماع تجربة الشيخ فى السّجن!!!
قال الشّيخ: كنت على موعد مع رسالةخاصة تأتى من (عنسبا) تحملها إمرأة.
نواصل بإذن الله... في الـحـلـقـة الـقـادمـة
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.