محمد مرانت الـشـّيـخ الـقـائد - الحلقة الرابعة

بقلم الأستاذ: عبدالفتّاح ودّ الخليفة - كاتب ومؤرخ إرتري، المملكة المتّحدة

فقط للتذكير: ذكرت فى الحلقات الفائتة عن المعهد العتيق وموقعه والشيوخ والمعلّمين فيه،

محمد مرانت نصّوروما مثّله المعهد الدّينى من مركز إنطلاق للدفاع عن الهويّة، تركيزا على معلّمى لمادة (السّيرة النّبوية) وموضع قصّتى (مربّى الأجيال وقائد الثّوار فى محراب الثّورة (كرن)... الشّيخ القاضى والقائد (محمّد مرانت) ودوره فى المعهد فى إزكاء روح الوطن والثّورة، وعرجت على حادثة تصفية (الجنرال تشومى إرقتو) فى أول عام لى فى المعهد العتيق. وكان الشّيخ نزيل السّجن بسبب رسالة روى تفاصيلها.

قال الشّيخ كنت على موعد مع رسالة تأتى من (عنسبا) تحملها إمرأة، أتّجهت نحو مرفأ الحافلات الرّئيسى فى المدينة (بياسا) قبيل صلاة الظهر، (تراآ لى الشّيخ حينها شابا يستظلّ بأشجار (النّيم) والّتى تحتضن ال (بياسا) فى شكله الدّائرى وظهره على مطعم (ودّى لبّى) ومكتب البريد والتّلفون القديم وفى الجهة المقابلة يرى مكان رسوّ الحافلات القادمة من تسنى وأغردات ويتأمّل موقعين مهمّين أمامه صنعت فيهما أحداث وأيّما أحداث وهما منزل الشّريفة علويّة الميرغنيّة من أكثر مؤيّدى (برو إيتاليا) الحزب الموالى لإيطاليا،ومقرّ الحزب نفسه... يترقّب حركة البشر ويلاحظ كثرة الغرباء فى زيّهم العسكرى والمدنى... يقف هناك فقط مثل ما يفعل أى مغادر أو مسافر... ولكنّه وقف هناك ليصنع تأريخ!!!

وقفة كانت حدّا فاصلا بين مرانت الطّالب ومرانت المعلّم ومرانت السّجين ورمز الكفاح والمقاومة... وصنديد العمل السّرى...

شابا بجلبابه الأبيض وعلى رأسه (طاقية) يلتحف (شالا)، يكسوه الوقار، ويظهره فى عمر أكبر، مثله مثل كثير من طلاّب العلم فى معاهد المدينة، وفى جيبه الأعلى فى شمال صدره قلما يميّزه من العامة، يستوقفه أحيانا أحد الأعمام ليكتب له رسالة سريعة وهو يحمل ورقة وظرف، والحامل المفترض للرسّالة يضّطجر من التأخير، لأن الحافلة الّتى تقلّه (إلى سبر أو حشيشاى) على وشك المغادرة، ولكنّ السّائق فقط ينتظر حامل الرّسالة هذا (وهو ينادى مطلاّ برأسه من منفذ الحافلة يلا خارجونا)... لينطلق إلى مبتغاه... تخيّلت الشّيخ فى ذالك الموقع وهو يتأمّل الرّائحين والغادين من وإلى المدينة من أبناءها ومن رحاب الوطن ويعزّ عليه أن يرى الغرباء هؤلاء يتبخترون مشيا فى المدينة ويزدرون الضعفاء والمساكين يتبخْترون وكأنّهم ليسو من جنس البشر بل أناسا إختارهم الله وفضّلهم على العالمين، يمشون على الأرض الطّاهرة وكأنّهم يملكونها ويملكون شعبها الشّيب والشّباب… ولكن الشيخ القاضى والقائد: ينظر إليهم نظرة إحتقار وكأنّه يريد أن يقول لهم ليتكم تفهمو وتعرفو أنّكم مغادرون هذا البلد الأمين يوما ما!! حفاة عراة كما غادرها أجدادكم بعد أن عاسو فيها فسادا (الطّالب إبراهيم):

دائما ليس له فى الإستراحات إلا أن يحكى فى السياسة: سوف نهزمهم كما هزمنا أجدادهم الظّالمين المستبدّين هكذا كان يقول جدّى (مسْمر ود قدار)… تحمّل أهل عنسبا (رأس ألولا) وأخيه بلاتا قبرو عندما بطشو ونكّلو بالنّساء والأطفال... ونهبو الأغنام والماشية... وأحرقو الزّرع... فغلى الدم على رأس فتيان (عنسبا) بعد أن رأو الظّلم الفادح والحكم القادح... ليقفو مكتوفى الأيدى... فشارو على شباب (عد تماريام) وجيرانهم من شباب (عد تكليس) ليهجمو فى ليلة ظلماء على جنود الطّاغية (بلاتا قبرو) فى معسكرهم فى (قبنا قنفلوم) ليكثرو فيهم القتل وليثأرو لشريفات الوادى… ويلقّنو (بلاتا قبرو) وجنوده اللئام درسا كان يفترض أن لا يمحى من ذاكرة الغزاة الجدد وملكهم (هيلى قمّام) ولكنهم إستبدّو وجانبو الصّواب ولم يملكو من أسباب التّمكين قدرا أكبر، إلاّ قوّة آنية حرّكتها الأحقاد الدّينية والشّوفينية والتعالى وجزء من أساطير التّأريخ بالأحقية فى الملك وللسّييطرة على البلاد والعباد وزرع الفتن والاحقاد… ولكن الشيخ يغادر مكانه ليعود إليه ثانية بعد أن قطع عليه عراك (صبية البياسا) حبل تأمّلاته يتعاركون فى من أولى ومن يسبق أخيه فى كسب زبائن (شركة ستايوللنقل) القادمين من ( تسنى) و (حمرا) الإثيوبية وجلّهم من عمّال المشاريع الفقراء من إقليم (تقراى الإثيوبى) هؤلاء لا يشترون شيئا إلآ بشقّ الأنفس ولكن يصرّ الصبية الكرنيّون عليهم لشراء الجوافة والبرتقال ولكنّهم لا يشترون فى الغالب الأعمّ إلا (الليمون) لعلاج الدّوار والتقيّئ الّذى يصاحبهم منذُ الإنطلاقة الأولى فى تسنى المدينة.

يراهم وهم يغادرون والبعض منهم يصرخون لأن أحد (صبية البياسا) أخذ النّقود ولم يسلّم سلّة (اللّيمون) أو الجوافة ولكنّهم يغادرون نحو (الشّرق) من حيث أتو وهم يصرخون لأنّ الحافلة يجب أن تغادر أرادو أم لم يريدو… يلتفت الشّيخ القاضى ليرى مجموعة من أبناء عمومتهم بالزّى العسكرى: (طور سراويت) مدجّجون بالأسلحة يشترون الجوافة والبرتقال وهم على ناقلة جند من صنع أمريكى ولكنّهم لا يضّجرون ولا يصرخون ولكن يلتهمونها بشغف… وبالرّغم من ذاك العزّ والهندمة والفشخرة تخيّلهم يوما ما يغادرون البلاد والمدينة وعلى نفس ناقلاتهم أو حفاة عراة بيكون ويصرخون و (صبية البياسا) و يرمونهم بالّليمون والجوافة والحجارة... و تلك كانت أمنية كلّ حرّ إرترى... ودارت عجلة الزّمن دورانها، وأصبح الحلم حقيقة يرويها الواقع… ورآهم الشيخ بأم عينه يبكون ويتحسّرون يغادرون من نفس الموقع ولكن إلى الغرب إلى السّودان… وهكذا كان قدر الشّيخ بعد ربع قرن من عمر الزّمن يقف فى نفس الموقع أو قريبا منه بأمتار معدودة، ليكون شاهدا على المغادرة والهرولة المذلّة… وقد يكون رآى أ آخر جندى (إثيوبى) وهويغادر المدينة والوطن فى حافلة أو قاطرة أو مترجّلا والصّغار يمدّونهم بالماء والغذاء… والأمهات وصبايا الأحياء القريبة والبعيدة ينظرون إليهم نظرة وداع وإنشغال وحيرة والكلّ يحمل سؤالا فى ذهنه لا يجد له إجابة... يا إلهى ماذا سوف يكون مصيرهم؟

وهل سوف يعودون ثانية كما عادو فى ربيع عام 1978؟؟؟ وإلى أين هم ذاهبون؟ ألم يمرّ الطّريق إلى إثيوبيا عبر أسمرا أم دارت الكرة الأرضية فأصبحت (مقلى وأديس أببا) تؤتيان عن طريق (أغردات)..ولكن لحظات وساعات وكأن الزّمن توقّف والكرة الأرضية حبست عن الدوران فى تلك البقعة من العالم لتحدّد وجهتها وساعة الصّفر ثمّ تدور… ويدوّن مدوّن التّأريخ فى كتاب (إرتريا) وفى صفحة جديدة وحديثة… من هنا بدأ الفجر الجديد!!!! ولكنهّم رحلو وغابو وغربو مع غروب الشّمس فى أحد أيّام الجمعة المباركة والبعض منهم يردّد سوف نعود…سوف نعود… سوف نعود لشعب كرن الطيّب المضياف ولكن… صبية الأحياء قلبو المشهد... فلم يقذفو بالحجارة… بل مدّوهم بالماء والغذاء... والبعض رفع اليد ملوّحا بالسلام والوداع، لأن حفنة من (أبواق الحزب الحاكم (الإيساباكو) ناصفت الصّبية والحريم المأكل والمسكن فى الأحياء الشّعبية... والبعض منهم كان له دينا ظلّ مقيّدا على ذمّته فى حانوت الحىّ ولكنّه رحل ولم يسأله أحد فى شئ رأفة به من المجهول الّذى ينتظره والجحيم الّذى يعتصره... و من صنع يديه... وبالرّغم من هذا وذاك إنّه... مشهد درامى إنسانى يحكى نهاية فصل من فصول الصّراع بين إبن الإنسان للسيطرة على مقادير أخيه الإنسان وأحيانا بطرق قهرية وصدامية ودموية... وتلكم قصّتنا مع الغزاة من (شوا وتقراى) على مرّ العصور... ولكن عندما وعندما ينتصر الإرترى المظلوم المقهور يعفو ويصفح… ويقدّم الماء والغذاء ويودّع الضيق الثّقيل بإحترام... لعلّه يقدّم لسكّان الجبل درسا فى الأخلاق… فى منظر مهيب تتجلّى فيه إنسانية الإنسان الإرترى فى كلّ المواقف والأزمنة.

قال الشيّيخ: إنتظرت الحافلة الّتى تقلّ حاملة الرّسالة فى المحطة الرّئيسيّة (بياسا) قبيل صلاة الظّهر ولأن الحافلة محطّة إنطلاقتها الأولى كانت مدينة (نقفا) تأخّرتْ من موعد وصولها إلى كرن قليلا... وأنا أقف فى (البياسا) مرّعلىّ كثير من الحافلات من (تسنى) و (أغردات)... و(حقّات) وغيرها من المدن الإرترية!!! وسكان المدينة من باب المجاملة والتواصل يكثرون علىّ السؤوال ويلحّون أحيانا!!! هل تنتظر أحدا محمّد؟ أقول نعم... والبعض يسألنى قائلا: محمّد إنشاء الله خير ما الّذى يوقفك هنا؟؟

هل أنت مسافر وإلى أين؟ أقول خير لا شيئ يدعو للقلق!!! ولست بمسافر وكنت أتمنّى من دواخلى أن يتركونى وشأنى!! ولكن أبتعد أحيانا كلّ ما ترسو حافلة على المحطة هربا من أسألة المسافرين والمودّعين وإستجواباتهم العفويّة المشحونة بحبّ الإستلاع!!! ولكن لم تدركنى فراستى فى ذاك اليوم بأن هناك من يراقبنى ويتتبّع خطاى، من موقع ليس ببعيد من محطّة الحافلات!!!!

وقفت لزمن ليس بقصير أتأمّل فيها حركة البشر الرّائحين والغادين من وإلى المدينة، وأخيرا وصلت الحافلة المرتقبة… وهبط الرّكاب تباعا الواحد إثر الآخر، وهم من (نقفا أم برود)... (أفعبت).. (قزقزا)، (وكربا برد)، و(باشرى)، و( قبنا قنْفلوم) ومن بقيّة قرى إقليم عنسبا والسّاحل... وأنا اقف على مسافة قريبة، من الحافلة ونظرى مركّز على اللّذين يهبطون منها، بحثا عن حاملة رسالتى، هبطت من إنطبق عليها الأوصاف، وتقدّمت وألقيت التّحية، وهى تعرفنى وأعرفها لأنّنا أبناء عمومة، وبعد حديث قصير، والسؤال عن الأهل والأحباب، لم تمد يدها لتعطى الرّسالة ولكنّها قالت: محمّد!! أحمل لك رسالة!! قلت لها ونحن نترجّل متّجهين إلى خارج المحطّة أعرف ذالك!!! أعطنى الرّسالة!!!

تلك المرأة الشّريفة المناضلة لم يطرق الخوف قلبها، لم تلتفت، ولم تتردّد، ولم تفكّر فى شيئ أخرجت الرّسالة من مخبئها وناولتنى إيّاها!!! لم أنظر إلى رسالتى بل حشرتها بسرعة فى جيبى... وودّعت المرأة الشريفة، وهممت أن أتّجه نحو المسجد لأداء فريضة صلاة الظّهر... سمعت من خلفى صوتا ينادى (محمّد)…(محمّد)... إلتفتّ خلفى لأجد(محمّد آخر) الرّجل الّذى أعرف وأحذر!!! ربّما تعرفونه!!! خطف الطّالب (إبراهيم) الكلمة ليقول نعم سيّدنا: بشاربه الكثيف وأسنانه البارزة، وعصاه المزخرفة بالجلد وحذاءه العسكرى بلا جرابات وبلا رباط، ومشيته الّتى ليس فيها إنضباط!!! لا أدرى كيف إختاره من إختاره ليكون مخبرا وعسكريّا وهو... ولأن الحديث عفوى... يقاطعه الطّالب (جانكرا)…

وهو يغلى ويعضّ فى أسنانه وكأنّه يريد أن يقفز من مقعده ليدرأ الخطر عن الشّيخ قائلا: لا يهمّهم إنضباطه ومظهره أرادوه أن يكون مخبرا والمخبر مهمّته إيصال الخبر وتتبّع الأثر، لمن خالف (الملك المفدّى) فى أىّ أمر.. ويقاطع أيضاالطّالب (إبراهيم) زميله (جانكرا) قائلا: ولماذا يناقض نفسه ويغطّى رأسه بالعمامة!!! أليست هى لباس المسلمين ولباس والأتقياء حماة الوطن!!

ولكن الشّيخ الصّبور (مرانت) لا يقاطع بل يستمع بهدوءه المعهود… هممت أن أقول: (ربّما الملك لا يرسل المصروف الكافى لذالك) ولكن الموضوع مفهوم ومعروف الملك لا يدفع بسخاء، وما يكفى للتهندم، والفشخرة، مع أنّ الجنود الأمحرا نراهم فى أبهى حللهم… الملك لا يدفع لمن يندفع فى حبّه بلا حدود، ولمن يبيع بلا ثمن أرض الجدود، لا يهمّه أحدا، بل يدفع له الكلّ ويسجد له الكل بل هو ملك الملوك ونائب المسيح فى الأرض يملك الأرض والبشر، ويملك القصور، الّتى يكنز فيها الذّهب والفضة والنّقود، ولكّنّه لا يعطى بسخاء، لمن يستحقّ ومن لا يستحقّ لأنّه ملك ليأخذ فقط!! مال النّاس وأرضهم، وأرواحهم إن إستدعى الأمر، وملك ليؤدّب من شقّ عصا الطّاعة، ويضرب بكلّ بشاعة، وكلّ من يعاونه على ذالك هو السّازج!! هو الباطل وعلى باطل إن لبس عمامة، وإن لم يلبس، وإن حمل (شيرا) (ذنبا) يهشّ به الذّباب أو صليبا وإن لم يفعل؟.

العمّة ليست مقياسا لحبّ الوطن!! كم من أناس حملو سلاح الملك ولم يعتدو به على بنى ملّتهم وضيعتهم ولكّنّهم وجّهوه إلى صدر الملك وعسكره عندما سنحت الفرصة!! ولكن قلت فى نفسى الملك له مهمّات ومهام وأولويات!!! ملكه ونظامه الكهنوتى أولا!! أمّا أن يهتمّ بملابس المخبرين والمنتفعين.. فذاك من التّرف له إهتمام بحاشيته من الأمحرا من (شوا) و(قندر) ثمّ (تقراى) ليأمن شرّهم، ولدواعى صيرورة النّظام وثباته، ومن ثمّ كلابه الّتى تأكل لحم الضأن والألوف من البشر فى (ولّو) و(تقراى) تموت جوعا… فى مشهد متكرّر كلّ بضع من السّنين والأعوام… وكلبته (لولا) لها مكانها وسحرها وإحترامها يقولون العامة هى الّتى طلبت منه أن يخرج مسرعا من مدينة (كرن) عند زيارته لها (1967-1968) و بعد إفتتاح المدرسة الثّانوية (هطى داويت) ومن ثمّ أراد زيارة مدرسة الصمّ والبكم ولكن (كلبته) المحروسة لأّنها تملك السّحر وتعرف الخفايا ولأنّها هبة من هبات الله للملك!!! رفضت بهزّ الذّنب وكثرة النّباح لأنّها إشتمّت رائحة شرّ قادم، ولأن المدرسة المقصودة، فى الطّرف الشمالى من المدينة وأقرب إلى (عونا) ومناطق التّماس بين حدود الدّولة والثّورة!!! قال أحد العارفين الإثيوبيين: تلك الكلبة هى سليلة كلبة أهدتها له الملكة (إيلازابيث) ملكة بريطانيا عند ريارته لها عام 1956 فى قصرها فى (بكينجهام)… ولكنّه أتى ليعرّفنا ويخوّفنا بها فى ( كرن) وهى فى حجم القطّة أتى بها جالسة على زراعه الأيسر فى سيّارة أمريكية فاخرة، والعسكر بالدراجات النّاريّة والحصين عن يمينه وعن شماله، والنّعمة ظاهرة على محياها، قلت فى نفسى كلابه أولى بخيراته، وإن تأفّفت أو شبعت فالباقى يعطى للمخبرين، والمتملّقين، والمنتفعين. ولكن!!!! يقول الطّالب (جانكرا) مستدركا:

لماذا يلبس ذاك المخبر السّترة العسكريّة مع تلك الملابس البلدية، بإثتثناء الحذاء العسكرى من غير رباط؟؟؟ يقول الطّالب (إبراهيم): السّترة العجيبة تلك تجدها أحيانا منتفخة لأنه يستعمل جيوبها بدل حقيبة، فتجده فى المساء وفى جيوب سترته تلك مصاريف المنزل كلّها من سكّر وحب شاى والبن (الحبشى)… و قناديل من (العيش الرّيفى) و (علبة التّمباك)… ولكن الشيئ المهم والأخطر هو ما تحتها… المسدّس القاتل.. الّذى يهبهم له الملك ليؤدّبو ويقتلو به بنى جلدتهم.

قال الشيخ: سألنى هذا المخبر قائلا؟ محمّد ما الّذى أعطتك إياه تلك المرأة؟؟ قلت رسالة من أهلى!! قال: أعطنى إيّاها لحظة أراها!! قلتُ: تلك رسالة خاصّة بى بأىّ صفة تريد أن تراها؟؟؟ ولكنّى أحسست بوجود إثنين من المخبرين إيّاهم محشورين فى زاويتين من الشّارع!! يراقبون ما يحصل بينى وبين (مخبر الملك) هذا.. و حينها أيقنت أنّهم يضمرون السّوء وعلى نية مبيّتة… قال المخبر: من الأفضل لك أن تسلّمنى الرّسالة لأنّى أعرف مصدرها!!! يقول الشيّخ: قلت وأنا أحادث نفسى ماذا يريد هذا المخبر؟؟ كيف عرف بأمر الرّسالة!!! وماذا يريد أن يعرف من مضمون الرّسالة!! إنه سازج وأمّى لا يميّز بين (جيم) الجهل و(خاء) الخيانة… ولكن أيقنت أنّنى فى لحظات حاسمة، وأمر مصيرى يتطلّب الجرأة والحسم والمبادرة، عزمت على فعل شيئ، وألهمنى الواحد القدير وهدانى إلى فكرة!!!

وهى بلع الرّسالة ومضغها وإعدامها بالمرّة ليختفى سرّها معها.. وأكون أنا المسؤول عن فعلتى لوحدى.. وكفى الله المؤمنين شرّ القتال... ثمّ قزفت بها على الأرض وقلت له: (أزى نسآ من نفّعكا) خذها الآن إذا نفعتك فى شيئ!!.. وحينها وهو يحاول لوى زراعى مستعملا قوّته ومستغّلا طوله وحجمه الكبير هجم الإثنان الرّابضان على الأركان علىّ… وأشبعونى ضربا وركلا والثلاث إقتادونى إلى مقرّ إمتحان الرّجال .. إلى سجنهم المسمّى (كارشيلى)، يأتى أحدهم يسألنى: قل الحقيقة ماذا كان من أمر الرّسالة وسوف يخفّف عليك ذالك وربّما أطلقنا سراحك إن قلت الحقيقة!!… وأنا أرد بأن الرّسالة عائلية!! ولم يكن بها شيئ وبعد فترة شهر تعذيب وتحقيق فى سجن (كارشيلى) فى كرن قدّمت للمحاكمة والحكاّم (أمحرا) ومن العسكر و أبعد بنى البشر من الحكمة والعدل ولذالك حكمو بما أراد الله… على العبد الفقير سنة سجن لأقضيها فى سجن كرن (دقانا). وإنقضى العام بخيره وشرّه قبل أن أتشرّف بتدريسكم بزمن قليل...!!!

قال له أحد الطّلبة: ولكن سيّدنا( لرسالة من ندأيا ديبكم؟ ومى كتوب ديبا علا)؟

والمعنى: من أرسل لك الرّسالة وماذا كان مضمونها؟

ردّ الشيخ: الرسالة كانت من إخوة لى!! أرادو أن يطمأنّو على أن الكل بخير يريدون دوام الحبّ والوفاء بيننا!!

أضاف الشّيخ هذا يكفى…هذا يكفى… هذا يكفى.. أردت فقط كشف المنافقين يننا وكفى!!

يواصل الشيّخ: وفى السجن وجدت ممّن أعرف ومن جمعتنى بهم الأقدار لأول مرّة، وجلّهم من مدينة كرن وضواحيها وأغلبنا من المسلمين نصلّى ونصوم ويعطى لنا فرصة لنتجمّع ونشكّل حلقة دراسية لدراسة بعضا من أمور الدين، وكان لنا أيضا فرصة أخرى نخرج فيها للحاجة ونطلق الأرجل مشيا فى فناء السجن، ونحن فى حلقة الّدرس سمعت صوت العسكرى حارس السجن الّذى يحادث الزوار من ثقب فى الباب أ وجد خصيصا لذاك الغرض، وأحيانا من خلف الحائط الّذى خفّض علوّه فى مكان مخصّص،لتمكين الحارس من معاينة الزّوار، والحارس فى ذاك اليوم كان عسكريا، ناطقا بالتقرى مسلما أسمر اللّون قصير القامة وقصره كان يعيقه من الحديث مع الزّوار بسهولة من وراء حائط السجن، والحارس الآخر كان يجلس على البرج العالى والّذى يرتفع تقريبا ما يقارب الخمسة أمتار من الأرض وهو من المتحدثين بالتقرنية…

سمعتُ العسكرى النّاطق بالتقرى يقول: لا لأ لا لأ إلى إناس منّو تسألى هليكى إى هلانى إنسر إبلكى هليكو... والمعنى... (لا لا هذا الرّجل الّذى تسألين عنه غير موجود هنا)

الصوت الآخر من الخارج: (إنسر هلا بيلونى أبويا إنت إكيت تسرركا، سأل منو إى) والمعنى (قيل لى أنّه هنا..بابا ألله لا أراك مكروه، أسأل لى عنه!!!

العسكرى: (إنسر إيهلا إبيلكى... مى إسيت إنتى هيقا سمعى) والمعنى: قلت لك أنه غير موجود هنا إسمعى الكلام!!

الصوت الآخر: ( يبّا إيفالكا!! أمْ أنا درار أمّو.. وحر هيّ مدرنا رييمتُ برى فقر من عنسبا مطعكو عنْ إقل إكرى!!

المعنى: لا تقول هذا.. أنا أمّ.. وبلدى بعيد جئت من عنسبا فقط لألقى عليه نظرة!!!

العسكرى: عنسبا أىّ أكانو (أى مكان فى عنسبا)

الصوت الآخر:( وازنْتت أبوى أنا).. من قرية (وازنتت)

العسكرى: (إى هلاّنى إمبيلكى إتلّى سجن هقيا سمعى وعدكى أقبلى).. قلت لك أنه غير موجود فى هذا السجن أرجعى إلى منطقتك!!!

يقول الشيخ: أن الصوت نسائى وقادم من عنسبا ومن قرية ( وازنتّتْ) بالتحديد... قلت فى نفسى ربّما أحدا من أسرتى قدم لزيارتى!!!

صغار الفصل وكباره وكأنّ على رؤوسهم الطّير!!! لاتسمع صوتا ولا حركة،وكأن الفصل لم يكن به أربعون روحا، يمرّ أحد الشّيوخ الكبار،أمام الفصل ويمرّ آخر وكأنهم ممتنعون موافقون، يعلمون ما يحادثنا فيه،الشيخ ولا يعلمون، وإبن (وزنتتْ) لا يبالى بأحد،… لأنّه الشيخ الواثق فى ربّه ونفسه.. يواصل الحديث وكأنه ينفّذ عمليّة أو مأمورية ولكن بثبات وإقتدار وقناعة… قائلا:

تركت حلقة الدّرس وإتّجهت نحو العسكرى.. وناديته بإسمه وقلت له عمّن تبحث تلك السّيدة؟

العسكرى: الموضوع لا يهمّك أنت فى شيئ إرجع مكانك!!

أثناء محادثتى للعسكرى وإقترابى من الحائط، سمعت الصوت النّسائ من الخارج يقول:

يبّا سميتُ محمّد مرانت..تا.. عدّو هىّ (وازنتتْ) تو.. . كرياى تو سيما بعل شر إيكون!!!

والمعنى: إسمه (محمّد مرانت) وبلده قرية ( وازنْتتْ) إنه طالب علم.. لا يأتى منه شرّ!!ً

صمت الحاجب الدّيوس خائن الملّة والوطن… ونظر إلىّ بتهكم..

تعرفت على الصّوت الّذى يأتى من خارج السّجن إنّه صوت أمّى!!!!

قلت: أمّى…أمّى.. أنا هنا… أنا هنا…!!!

ردّت والدتى من خلف جدار السّجن:..يبا محمّد إنتاتو مامينى أناتو يبا إمكا ولدايتكا إقل إرئيكا مطعكو وكسّار إقل أبطح!!!

والمعنى: (محمّد هل أنت محمّد.. أنا أمّك يا محمّد والدتك.. جئت لرؤيتك وجلبت لك لقمة تأكلها!!!

فى تلكم الأثناء يقول الطّالب (إبراهيم).. نسى الشّيخ (إثيوبيا) وأفعالها ..وجورها وفجورها.. ولكن تراآ له كلّ المنافقون وأفعالهم فى المدينة فى شخص ذالك العسكرى السّازج، وما يحمله من غباء، يقول الطّالب (إبراهيم) أن الشّيخ كان ينفر ويسخر من شياطين الملك هؤلاء، دائما وأبدا يقول.. يجب كنس هؤلاء ليسهل الوصول إلى الملك،يجب تطهير هؤلاء الجرذان، قبل صهر الملك يجب إزالة شياطين الإنس، هؤولاء قبل أن يقتلونا،هولاء الخونة هم من عاون (الأمحر) على قتلنا وتعذيبنا،هؤلاء يقتلوننا كلّ يوم وكلّ ساعة لأنّهم معنا وبيننا، يحضرون مجالسنا وموائدنا وموالدنا،ويستعملون لغتنا السّمحة لإيصال أخبار أفراحنا وأتراحنا ، وما عظم من شأن قومنا، هؤلاء مشّاؤون بالنميمة وهم منافقى هذا الزّمان!!! هم، فاقدى الإرادةوالعزّة والعزيمة، يخرّبون الوطن، ويؤرّقون المواطن، ويقدّمون خدمة لا تقدّر بثمن للمغتصب وأعوانه.

يقول الطّالب (إبراهيم) إنّهم ينتظرون القصاص ويومه ليس ببعيد!!

قال الشّيخ: ناديت على أمّى… أمّى أمّى أنا موجود أنا هنا،، أبشرى بالخير، أنا هنا باق بالرّغم من أنف كلّ جائر وغادر، لا تسمعى حديث الأخرس الجبان، خائن الملّة والوطن، وهجتُ وتمرّدت ولم أرى فى ذاك الحاجب الكاذب إلا صنفا من الجّن عدوّ البشر!!! وهاج أيضا الحاجب وأحسّ بالحرج وجرّنى من جلبابى، وحينها وهبنى فاطر الكون خالق البشر، القوّة والعزيمة أزحته من طريقى بقبضة واحدة،ونحن نتعارك وصلت إلى فتحة الحائط ورأيت وجه أمى الصبوح، الّذى أرهقه المشى بالأرجل من وازنتت فى عنسبا… يتدخّل الطّالب (إبراهيم) بعفويّة ويضيف… رآها الكل فى قرى الصّمود والتضحية (وازنتت قامبل، وجريش، ومسحليت، وتاجبا، وكميل ومنداد وعنسبا ظبّاب وموشى وشمليوخ وعونا.. يقول الطّالب (إبراهيم): كانت تتندّر وهى تمرّ بالقرى تقول سوف أواجههم بقوّة الواحد الأحد لا يخيفنى صغيرهم ولا يرعبنى كبيرهم، سوف أقول للسجّان إنّه إبنى دخل كرن لينهل من علم شيوخها، ويحفظ كلام الله من أولياء الله فى المدينة، ساقه الرّب القدير لأمر قدّره وفعله، جاء ليتعرّف على إخوته أحرار الوطن… هكذا إلى أن وصلت إلى موقع السجن فى (حلّت عد عقب) للبحث عن فلذّة كبدها ونور عينها الّذى ساقته الأقدار إلى السجن…

وعندما إستشعر (خادم سيّده) الحاجب إنّنى إنتصرت عليه وفضحت كذبه ضربنى بعقب بندقيته ال (إم. وان) على ظهرى،تحمّلت الضربة وأنا أحادث أمى… ولكن عندما ضربنى الثّانية، نظرت إلى أمّى فأشفقت عليها من الحال، ونظرت إلى الحاجب ولكنّى لم أطق رُؤيته وعلا الدمّ قمّة رأسى فنزعت بندقيّته من يديه، ودفعته عنّى بعيدا، فجرّد وسلب من سلاحه وكرامته، الّتى فى الأصل ساقها للمزاد بأفعاله، ولكنّى بكيت بدموع لا ترى، لأنى عذّبت معى أمّى، ورأت موقفا محرجا سوف يظلّ عالقا فى ذهنها لزمن، لم أرده لها ولكنّه القدر!!!

وهبّ الحاجب الآخر من علوّه لنجدة زميله قائلا بالتقرنية: (أمطأيو إتى برت قدف قبنكا كى عبّى).. والمعنى: سلّمنى السّلاح وإلا سوف تكبر جريمتك.. لم أنوى شرّا!!! ولم أكن مجرما، ولم أقصد إيذاء أحد، بل مظلوما ومسلوبا لحقّى وحقّ بنى وطنى… قلت له إنّ صاحبك جبان وكاذب!! يكذب على مواطنة شريفة قطعت الفيافى والمسافات لتبحث عن إبنها وتطمئنّ عليه فيطردها من باب السّجن،ويكذب بقوله: أننى غير موجود في السّجن!!! أنا لست بمجرم وجبان، ولا أقتل عسكريّا سازجا وسجّان!! ولكن كذب ونفاق صاحبك إضطرّنى للتدخّل!! ثمّ إعتدى علىّ بعقب بندقيته!! ولكن بالرّغم من كلّ شيء، أنا لا أعتدى على أحد إن لم يعتدى علىّ.. وبإمكانك الآن إستلام سلاح صاحبك!!! وأخذ الحاجبان يجذباننى إلى الداخل،، وأنا أقول لا تخافى ولا تخزنى يا أمّى!!! إن الحق سوف يظهر!!!! وإنّ الباطل سوف يُقْبر!!! إنّ الحقّ سوف يظهر!!! وإنّ الباطل سوف يقْبر مرّة وإلى الأبد، سوف تُكْنس كلّ الجرزان،وتطهّر كلّ الجراثيم من خارطة الوطن قريبا!!! قريبا!!!، قريبا!!! و بإذن الله.

ولكنّ أمّى الّتى أخاف عليها من هبّة النّسيم العليل لرٌقتها، وقفت شامخة صامدة، أمام السجن!! وهنا تراءت لنا والدة الشّيخ أمام باب السّجن!!! تخيّلناها وهى تتحدّى الأوغاد إخوة الثّعابين!!! وكأنها تريد أن تخيفهم برقّتها وأمومتها ودموعها، لئلا يأزوه فى شيئ!!! تراءت لنا والدة الشيخ حينها وهى تقول لهم الويل لكم!!! الويل لكم!!! إن قام منكم فاسق فأساء إليه!! أو تجرّأ منكم فاجرا فضربه، حينها سوف أبلغ الفرسان فرسان (عد قبّطان، وعد قبرو) وأحرار (أشنبر - سب مدر) فى وازنْتتْ، ومنادل (عد بولا) فى (حملمالو) وأبطال (الحدارب) فى (باشرى) واسود (عد دبراى) فى (كربا برد)…. إحذركم!!! أحذّركم!!! إحذرو وحيدى وفريدى لأن له إخوة من رحمى، ومن رحم شريفات القوم و الوطن مثلى، يحملون بنادقا أكبر من بنادقكم، ومدافعا رشّاشة قاتلة و فتّاكة، ويحملون إيمانا قويّا بربّ العزّة خالق الوطن، سوف يهبّون لنجدته من كلّ صوب وجهة،من (حلحل) من (أزرقت) ومن (قزقزا) من (أروتا) من (همبول) من (أدوبحا) ومن (دبر سلا) من (ساوى - إدريس دار) ومن (حشكب) ومن( دقعا وديعوت) و(برعسولى) و(بدّا ) و(دم بلاس) و (حمبرتى، ووكّى) ومن كل مكان فى وطن الأحرار (إرتريا) سوف يضربونكم ضربة رجل واحد وأنتم فى جحوركم، فيتناثر دمكم، فى الطّرقات تلعقه القطط والكلاب، إنتبهو وخذو حذركم.

نواصل بإذن الله... في الـحـلـقـة الـقـادمـة

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click