محمد مرانت الـشـّيـخ الـقـائد - الحلقة الثانية
بقلم الأستاذ: عبدالفتّاح ودّ الخليفة - كاتب ومؤرخ إرتري، المملكة المتّحدة
من ذاك الموقع ومن فناء المعهد من الجهة الشرقية أبعدت النظر شرقا الجبال هادئة والوديان،
ساكنة وجبل أوهضبة (قطيتاى) والّذىكان يتخيّل لنا ونحن صغار أن شباب الثورة سوف يدخلون كرن منتصرين ظافرين عبرذاك الجبل حاملين الرّايات الخضراء، مثل الرّايات التى حملها الآباء والأشقاء الكبار فى الأعياد والمولد النّبوى، مردّدين (أبشرو بشرى لكم يا شباب بالميرغنى...) يتقدّمهم الخليفة عثمان يزيد والخليفة حسب الله حمّدين، والخليفة آدم إمناى، والخليف عبدالله، والخليفة محمود حشفير والخليفة صالح بئمنتْ والخليف محمد موسى محمود، والشيخ الخليفة بلال إدريس، وإبنه المادح العم بشير بلال والثلاثى أصحاب الأصوات الكروانية، (الشيخ طاهر تكروراى، والعم إدريس نور شنقب، والعم محمّد صالح جابر تاجع (أبو البتول) ويحملها عنهم الفتية الأقوياء (ولاد درار) وعنتر الأحياء كلّها فى أيتعبر الشّاب (عثمان حيلا) ولكن راية النّصر الّتى إنتظرناها وحلمنا بها ورسمناها فى دفاتر المدرسة والمعهد وفى أشجار الحى، وطرّزنها صبيّات الأحياء فى المناديل، مكتوبعليها (جبهة تحرير إرتريا).
وكنّا نعتقد ونتخيّل بسزاجة طفولية، أن شباب الثورة سوف يتقدّمهم أبناء المدينة (محموداى، قريش، شكينى، عبدو عثمان (بانداى) وأخيه طاهر، ومحمّد شيخ زايد، وسعيد صالح، وحمّداى، آدم شكّر، على حنطى، عبدالله علاج، حسن سعيد باشميل، محمّد شوكاى، عثمان مايبتوت، ولكن جبل (قطّيتاى) فى ذاك اليوم كان هادئا، إلا ممّا ندر من الحيوانات الأليفة، وبعضا من عابرىّ السبيل، وبعض الدفنة فى مقابر المسيحيين.
ولم تخطئ عينىّ الطريق المسفلت الآتى من أسمرا، مع إنحنــاءته وتعرّجـاته، ونتوآته يشبه فرشـا عجميّ ابسط ليكون معلمــا من معــالم المدينة قبيل ضـاحية (حشلا بلين)، وكلّ مــا إبتعد ترى عينيك خيطـا أسودا ملقىعلى الأرض بلا حراك، ولكن فى ذالكم اليوم لم تكن به الحركة المألوفة والمعتادة، للسيّارات والنّاقلات المعهودة بحركتها من وإلى كرن.
ولأن لمعهد والجــامع فى منطقة وسط من المدينةهذا جعل الحى والمعهد منطقة عبور من غرب المدينة إلىشرقها، والعكس،بالذات لمن يعمل فى (فرش أكل) أو سوق ساحل) أو (سوق أشّام) أو الصيّاغين، أو لأصحابالحوانيت فى (شارع قنّافو) (شارع قناة السويس سابقا)... ولمن أراد أيضا إختصار الوقت، وتجنّب المغتصبينوالغرباء وكلاب الملك وجرزان المخابرات، المنتشرة فى المقاهى، والشارع العام المسفلت، ومحطّة (أجيبللبترول) فطريق الجامع هذا، طريقا آمنا ومطمئنا، لا ترى فيه إلا العقود الفريدة من أبناء المدينة وبناتها، أوشيوخها وأتقيّاءها قاصدين المسجد الكبيرللرّكوع والسّجود، ليرفع الله خالق الكون بلاء الإستعمار الّذى جسمعلى صدر البلاد والعباد، وسرق السّكينة والطمأنينة من ربوع الوطن، هذا المعهد القلعة الملتصق بالمسجد، الكبير فى المدينة وبقربه منزل العلامة الشيخ (قاضى موسى عمران)... كان مصدرا لبعث الطمأنينة، واليقينوالثقة بالنفس.
وقفت أسترق السّمع... أتأمل الرائحين والغـادين، فى شوارع (عد عقب) و السجن الكبير، الكل يواصلمشواره، والحيـاة مواصلة كعادتها!!! وكأنهم لا يسمعون مــا أسمع، لا حركة شرطة، ولا كمندوس، ولا طورسراويت، أشتدّ إطلاق النّـار وأزير المدافع، وصداه أصبح واضحــا وكأنّ المعركة فى مكــان قريب من المدينة، عيونى التى أصبحت أكبر حجما وأذّنىّ إنفردتا كالرادار بحثا عن هدف ولكن بلا جدوى، لا أسمع إلا أصوات (الطواحين) وضربا للنّار متقطّعا والضرب على الحديد فى سوق الحدّادين فى الطرف الشمالى من المدينة، أحياناتحسّ وكأن (الحدادون) متوكّلون على الله لا يعيرون شيئا إهتماما أكثر ممّا ينبغى، لأنّهم رأو الكثير من حوادث إطلاق النّار، أطلقت بالقرب منهم، وكم من فدائى عبرهم، بعد أن أكمل ونفّذ عملية فدائية، وحينها يقف الكل منالعمل ليحيّى بقلبه ذاك الأسد دون أن ينطق بكلمة وكم من خائن ومدسوس ذبح (بخنجر أو شوتال) من صنعأيديهم... إنّهم متعوّدون على الأحداث... مقتنعون بالنصر مستسلمون لقدر الخالق.
زاد أزير المدافع وزاد السكون فى المدينة، هممت فى تلك اللحظة أن أهرول إلى أهمّ موقع فى المدينة لصنع الحدث وهو شارع الصّاغة، مع أنّهم لا يسمحون لنا بالجلوس بجوارهم، أثناء المحادثات المهمّة أياها، ولكن فقط للتنصّت، إن سقطت من أحدهم جملة عابرة، تفسّر ما يحدث، وما سوف يحدث، وتمنّيت أن أكونب القرب من العم (إدريس كروش) الّذى يتحدّث وهو ينفخ على حبّات الذهب ومنظاره متدلى على أنفه منعينيه، ينطق بكلمات لا يفهمها الغريب، ولكنّها مفهومة لمحادثه، وتمنيت لو أكون بالقرب من الشّاب الفنجرى (أحمدانى الصّائغ) والملم باخبار المدينة خيرها وشرّها أو العم (حجّى صايغ أبو حسن) لما يتجمّع فى حانوتصياغته الكثير من أبناء وبنات الرّيف حاملين الأخبار، أو شيخ الصيّاعين (الخليفة بكرى صايغ) أو الخليفة (عامر شنقب) أو العم الصّائغ (سليمان محمّد نور) والّذى يؤانسه على مدار اليوم أقوام من (ملبسو،ورهىّ عباى، وحتىّ عدردى) حاملين السّار والضّار من الأخبار، وكثير من منافع للصّاغة والتجّار، ولو سمح العمصاحب الصوت الجهور (أحمد تيدروس) الجلوس معه لحظات من عمر الزّمن لإنكشف المستور، حتّى وإن أخفضصوته فى ساعة الحديث فى السياسة، ويتحدث بجمل، تحتاج إلى توضيح وتفسير مثل الشعر الجاهلىوالمعلّقات السّبعة أو كأن حديثه متنُ فى أصول الفقه يحتاج إلى تفسير، و يترك أحيانا مقرّ عمله بخطواته السريعة، ومشيته الأميرية مهرولانحو صديق عمره العم (حدوق عمر فرى) والد (حجى ريفا) ليتبادل معه المعلومات وآخر الأخبار، تمنيت أنأكون هناك ولكن الخوف من العقاب، والرّهبة التى كانت تصيبنا من شيوخنا الأجلاء عدلت عن الفكرة، وقرّرتالعودة إلى فصلى وأتوكل على الله وأنتظر الأقدار وما سُطّر فى اللوح المحفوظ من حاكم الأرض والسماء معبقيّة أقرانى والمعلمين وكلّ أسرة المعهد العتيق.
وفى طريق عودتى إلى فصلى من الباب الرّئيسى للمعهد والمفتوح دائما حتّى نهاية اليوم الدراسىّ لمحت العلامةالشيخ (قاضى موسى آدم عمران) بالبالطو الأصفر مائلا للبياض، وطربوشه الأحمر تحت العمامة، يشبه شيوخالأزهر، متكئا على عصاه، قاصدا المعهد، ربّما يريد أن يطمأنّ على المعلّمين والطلبة، وكلّ المعهد، لأن المعهدصرحُ بناه الشيخ برجاحت عقله ونظرته الثاقبة، مع كثيرين من إخوته أصحاب الهمم العالية.
فبعد إنفضاض البرلمان 1962 والّذى كان الشيخ عضوا بارزا فيه لدورتين، و فشلت المعركة، معالإمبراطور ونظام الحكم الأمحراوى، من داخله، إختار الشيخ أرضا أخرى لمعركته المستمرّة، وهىمعركة (الحفاظ على الهويّة الإرترية)... وما المعهد الدينى الإسلامى إلا إحدى باكورات العمل الوطنى للحفاظ على الهويّة، والشيخ عمران أحد فرسانها وأبطالها فى التخطيط والتنفيذ، فالمعهد والمسجد كانا شعلة منالنّشاط، والمعهد كان هو المعبد، الّذى ترتّل فيه أسماء الله وكتبه، ودستور الوطن والوطنية، ومصنعا للهويّة وحبّ الوطن، ومركزا لإشاعة الإعتزاز والقيم الفاضلة المنطلقة من تعاليم الإسلام الحنيف، ،والشيخ (عمران) أحد أهمّ الشخصيات الّتى وضعت المعالم فى الطّريق بمعيّة إخوته وأبناءه المعلمين الأفاضل (القاضى أبوبكر عبدالله والقاضى محمّد إدريساى، والقاضى محمّد إدريس عثمان، والشيخ الحاج حامد حمّد دار، والجيل الثانى من المعلمين الأكارم الأستاذ رمضان بادماى، والأستاذ إدريس آدم، والأستاذ يسين (عباى عنتو)، والمربّى الجليل القاضى محمّد مرانت...، وعند الهجمة الأمحراوية على البلاد وبدأ سياسة التحبيش بفرض لغة الملوك (الأمحرا) فى المدارس والمعاملات هبّ الأتقياء والأوفياء من أصحاب الهمّة وحماة الهويّة، لرفع راية المعارضة للشعار الّذى صنّ الآذان:
(التحبيش أو التهميش) هبّو وحال كونهم يقول:
(لا تحبيش ولا تهميش... بل ثورة من كرن حتّى (بر قشيش)
ومن قرورة إلى وادى حديش
ليرحل الملك وصهره التّعيس
لنا وطن لنا لغة لنا هويّة
إرحلو وحلّو عنّا وأتركو الرّعية
لا نريد الحبشة أمّا ولا الملك أبا والأمحرية
لا نبدل وطنا لا ملّة ولا دينا
لنا وطن لنا لغة لنا هويّة
لنا العربية لنا التقرنية
إرحلو وحلّو عنّا وأتركو الرّعية
كان المعهد الدينى الإسلامى (معهد جامع) مهد التقاة، ومنارة للعلم، وحامى حمى الهوّية الوطنية، لجأ إليه الكثير من أبناء المدينة، رافضين غير ظاعنين لغاية التحبيش، وعلى إثر الحملة الّتى أوقدها (شيوخ المدينة وعلى رأسهم القاضى عمران، والقاضى أبوبكر عبدالله وخلفاء الطّريقة الختميّة، فى حملة الدّفاع و الحفاظ على الهوّية، عجّ المعهد العتيق بطلاب العلم وإمتلأ، من المدينة وضواحى المدينة وحتىّ القرى النائية، فصولاصباحية للنشأ الصّغار وأخرى مسائية، وحلقات للدروس فى علم تفسير القرآن، وأخرى للتوحيد والحديث للكبار والآباء، فترى المعلّم والموظّف وصاحب الحانوت يأتون إلى المسجد والمعهد قبيل صلاة المغرب متأبطين كتاب (تفسير الجلالين) أو (رسالة إبن مالك) لحضور حلقات تفسير القرآن، أو حلقات الفقه الّتى يديرها الشيوخ الأفذاذ حتّى صلاة العشاء، تحت إشراف وجهد، وتدريس الشّيخ (عمران)، ومساعدة الشيوخ الأجلاّء (الشيخمحمّد إدريساى، والشيخ محمّد إدريس عثمان، والشيخ أبوبكر عبدالله).
فمن لبّى نداء الحفاظ على الهوية جلب ذريّته إلى الحصن الحصين (المعهد)، وتردّد من تردّد خوفا من فقد علوم الدنيا، وخوف التهميش، وتمّ الإنسحاب المقصود من المدارس الحكوميّة، والكاثوليكية، والبروتستانتية، والتى كانت منتشرة فى المدينة، ودارالنّقاش فى كلّ بيت ومسجد حول مصير الأطفال جيل المستقبل، بعد إقصاء اللغة العربية وإحلال (الأمحرنية) مكانها وعاد البعض إلى المدارس بعد فترة تردّد، والبعض الآخر آثر أن يواصل الدراسة فى المعهد والمدارس الحكومية معا.
تلك الوقفة للدفاع عن الهوية ظهرت نتائجها سريعة وبدون بطأ ...إذ أصبح كثيرون ممّن لم يجد نصيبا من تعلم اللغة العربية فى المعاهد الدينية والإسلامية ...أحباش الهوى والهويّة وظهر إختلاف المزاج اللغوى فى البيت الواحد... ولا زلنا نعانى من آثاره حتّى اليوم... إذ يعبّر بعضنا فى المحافل بالتقرنية وإن أبت يرقّعها بالإنجليزية وبعضا من مفردات الإيطالية، والبعض يدخل الكثير من مفردات التقرنية عند الحديث بالتقرايت، امّا طلاب المعهد يفصحون عن كلّ شاردة وواردة حديثا وكتابة باللّغة العربية، لغة القرآن وإحدى اللّغتين الرّسميتين وإحدى أعمدة الثوابت الوطنية المجروحة فى إرتريا اليوم.... هذا الإختلاف والخلاف فى مصائر النّشأ الصّغار والأسلوب الأنجح والأنجع فى منهجية تعليمهم، كان حقّا خلافا مصيريا وحقيقيا ومبرّرا، وأصطحب معه تغييرا فى العقلية وطريقة التفكير... ولمست منها جزءا غير يسير فى أيّام الدراسة فى المعهد وبعده، ولكنّى أرجئها للحلقة القادمة لإرتباطها بقصص الحديث مع شيخى (محمد مرانت). و لكن فى نهاية المطاف نجحت الإرادة الوطنية المخلصة، فالإجلال والإكبار لشيوخنا الإجلاء، حماة الوطن والهوية.
عدت إلى فصلى... و سألنى المعلّم الجليل الشيخ محمّد إدريساى: أين كنت كلّ هذا الزمن؟ قلت أحسّ بوعكةفى بطنى سيّدنا!!!
عرف المعلم وهو يحسّ دائما بنا ويفهمنا قبل أن ننطق، وأحيانا ينزع الكلمات منّا نزعا إذا تلعثمنا فى قولالحقيقة، وحصل ذالك فى يوم أحد من أيام عام 1970 وكانت هناك مبارة لكرة القدم فى (جوكو- كرن) بين منتخب (مدينة كرن) وعملاق كرة قدم أسمرا( فريق حماسين) وكانت الكرة القدم نهارا جهارا محروسة بالشرطة والعسكر... لم نستطع نحن طلاب المعهد من تفويت فرصة مشاهدة المباراة بين عملاقين من عمالقة كرة القدم فى إرتريا وتغيبنا عن المعهد، والبعض قاوم الرّغبة فى نفسه خوفا من الشيوخ وعلى رأسهم المربّى الجليل (محمّد إدريساى) وفى صبيحة اليوم التالى أخرجنا الشيخ نحن الغائبين بالأمس أمام الفصل! وسألناسؤال محدّد أين كنتم بالأمس؟ والكل ردّ على حسب الإتفاق كنّا مريضين سيّدنا!! لم يصدّق الشيخ وقال: كنتم تشاهدون كرة القدم وتركتم واجبكم فى التحصيل والعلم!! وبذالك قرّر معاقبتنا بالضرب، ولكن فى الوجه و هىالّتى إختلفنا فيها مع شيخى ورفضنا العقاب؟ وخيّرنا شيخى بين أمرين العقاب وإما الخروج من المعهد مطرودين!! جمعنا كتبنا وخرجنا من المعهد متحسّرين، ولكن سوّى الأمر لاحقا وعدنا بعد طلب العفو من الشيخ.
أوشكت أن أقول لشيخى: هناك حرب!!! فى بطنى وخارجهاوحول المدينة، يا سيّدنا!!!
وأنّنى لا أستطيع التركيز فى الدروس، وكثيرين غيرى فى الفصل بسبب المعركة الّتى تدور رحاها بالقرب من المدينة سيّدنا،هـناك موتا قادما من الجنوب ،لا من الشّمال، ولا من الغرب،فذاك عهدُ ولّى ودفن مع درويش المهدية (محمّد ود فضل) فى (فورتو) (أغردات) و فى عهد العلييّن (على نورين) و (على بنطاز) وأخيرا إستأصل شأفة الخطر أبو الثوّار وحامى الحمى من خطر الأركان الأربعة (عواتى ود فايدوم)!!!
ولكن خوفى من معلّمى القوىّ الشكيمة،والّذى يمنعنا من الحديث فى المعهد الدينى عن أىّ شيئ خارج العلموالحديث،و السيرة النبوّية، والفقه والقرآن، حتى الرياضة والرّياضيات لم تكن لتستهويه ولم تكن من أولوياته، ناهيك عن شئ يتعلّق بمعركة وحرب وقضايا أمنية أخرى تجرّ الفصل إلى حديث فى السياسة، ربّما كان يرى أنّنالسنا أهلا لذالك بعد، مع أنّ كثير مّمن علّمهم النحو والفقه والتوحيد أصبحو قادة فى الثورة الإرترية يذكر منهمالمناضل/ محمّد سعيد باره (عضوا بارزا فى الجبهة الشعبية توفّاه الله) و المناضل الشهيد عضو أركان جيشالتحرير الإرترىوشهيد معركة بارنتو عام 1978 (إدريس رمضان) وكثيرين غيرهم.
الشيخ العالم محمّد إدريساى لا أنسى طريقته فى الشرح ومجهوده الكبير فى تقريب المعنى فى السيرة، والفقه،والتوحيد، والبحث عن المعانى الأقرب بلغة (التقرايت) ولا سيّما وجود كثير من الشباب من منطقة (قلب) و(محلاب) كان مساعدا لذالك، وكان الشيخ يستلطفهم ويحبّهم ويحاورهم ويجادلهم فى أمور كثيرة تتعلّق بالعقيدة والتوحيد... أذكر أحدهم وإسمه (محمّد عثمان قبر ربّى) سأل الشيخ سؤالا لم يخطر على بال أحدنا وهو مامعنى النّحْو؟
فردّ الشيخ: النحو فى اللغة تعنى إتّجاه كما تقول (ذهبتُ نحو عد حبابِ) يا ود قبر ربّى... امّا النحو إصطلاحاهو قواعد اللغة العربية... هذه الجملة رسخت فى الأذهان عقودا نذكرها ونذكر بها الشيخ الجليل وطرائفهب إستمرار، وعثمان قبر ربى هذا كان ظريفا ولطيفا، وملهما للفصل وللشيخ بطرائفه وتعليقاته البريئة دائما والتىترد على شكل سؤال أو إجابة!!!
كنت أتعاون مع (عثمان قبر ربّى) دائما فى تغليف كرّاساته وكتبه لحمايتها من التلف بحكم أنى كنت أيضا طالبمدرسة حكومية فى المساء، والتى علمونا فيها التغليف وتحصين الكتاب والكرّاسات من التلف، وعندما كتبت لهإسمه بخطّ عريض على الكراسة أخذ الكرّاسة وكتب تحت إسم جدّه (رضى الله عنه)!!!
ولم يفعل ذالك بفهم أو بقصد مسبق، إنها فقط بساطة الرّيف وأهله الطّيبين وما أكثرهم فى المعهد، ولأنّىأهوى النقاش الّذى يدور بينهم وبين شيخى الجليل (محمّد إدريساى) طرحت الكرّاسة عن قصد أمام منضضة شيخى الّذى ضحك كثيرا وهو يدندن بقصيدة (عبدالرّحيم البرعى فى حبّ الرّسول (ص) وكانت تلك عادة عند شيخى والأستاذ الوطنى العالم المادح (رمضان بادماى) ليعطيا نفسيهما وقتا للتفكير:
يردّدها شيخى (إدريساى) فى شكل همهمة دون أن يفتح فمه ويتخيّل لك أن الصوت قادم من مكان بعيد وليس مصدره الشيخ الّذى هو معنا فى الفصل...
(صلّو عليه وسلّمو تسليما ...صلّو عليه وسلّمو تسليما
يا راحلين إلى منى بغيابى... هيّجتمو يوم الرّحيل فؤادى...
سرتم وسار دليلكم يا وحشتى... الشوق أقلقنى وصوت الحادى
ونادى على عثمان وهو لا زال يدندن والحديث بالتقرايت...
الشيخ إنت عثمان ود قبر ربّى هليكا)... يا عثمان ود قبر ربى هل أنت موجود؟
عثمان آمبى سيّدنا هليكو هلا ربّى) نعم سيّدنا أنا موجود باقِ والبقاء لله!
الشيخ إيكون إبى!! أبوك هتو رسول على ما نبى)؟ هل كان أبوك رسولا أم نبيا؟
عثمان إيفالو نبى إي على ورسول) لا لم يكن نبيا ولا رسولا!
الشيخ وأبعبكا هيى) وجدّك؟
عثمان إيفالو نبى إيعلا ورسول) أيضا لا لم يكن نبيا ولا رسولا!
الشيخ: (كئلا رضيى الله عنه إتمى وسّكاها إتا سميت أبّعبكا) إذن لأى سبب أضفت كلمة رضى الله عنه إلىإسم جدّك؟
عثمان: (إلى كلو هيقا لرضى الله عنه أبزحكوما ديبو أبعبى قبر ربّى) كل هذا الحديث! لأنكم إستكثرتم كلمةرضى الله عنه على جدى (قبر ربّى)!!!
الشيخ: (بدير أبعبوتاتكا بيلو إقل قمل... أكل إلى لتقلل إتكاما منكورتا) قديما قال أجدادك للجمل عند لم يتوفّقو فىالتعامل معه هكذا كبير الحجم وأبله!!
شرح الشيخ الإستعمال الشرعى لتلك الكلمة وضحك الكل فى الفصل وغضب عثمان منّى... ولكن صفت الأموروذهب الكدر بيننا من حيث أتى لأن فى ذاك الزمن صفاء القلوب وبراءة الطفولة لم تترك مجالا للضغائن!!!
ولكن لأنى لا أستطيع الكتمان قلت لشيخى بنبرة خائفة (سيّدنا برا زبط هلا إتّجاه قطّيتاى وقبى أسمرا منبرّا سنّى لسمّع) هناك معركة وضرب رصاص فى إتجاه (جبل قطّيتاى وطريق أسمرا لو خرجت فى فناء المعهدتسمعها واضحة!!!
وكما توقعت كان ردّ الشيخ: (إنتا طيّب إقلو تأتناسى علكا)!!! يقصد إذن أنت تأخرت لأنّك كنت تتنصّت لضرب الرّصاص فى الخارج!!! وواصل الشيخ فى الدرس ولم يزد فى الكلام.. وليس الشيخ محمّد إدريساى فقط بل كلّ الشيوخ كانو ثابتين أقوياء كلّ الأحداث يتعاملون معها بالإيمان والثبات، أى حدث عـابر أو قوىّ حصلفى المدينة لا يهزّ منهم شعرة.. وكلّ الشواهد تقول أن المدينة كـانت تستمدّ من ثبـاتهم وشجـاعتهم القوّةوالعزيمة والإستمرارية فى الحيـاة والإيمـان بالواحد القهـّار الّذى يمْهل ولا يهمل.
إنتهت حصّة علم التوحيد للشيخ المرحوم ( حاج حامد حمّد دار) تلتها حصّة (علم الأخلاق) من كتاب أذكر إسمه (تيسير الخلاّق فى علم الأخلاق) للأستاذ الصّابر العالم ورفيق (القاضى مرانت) منذ الصبا الباكر، ورفيق سجنه الثّانى ومدير المعهد الحالى (إدريس آدم) أدعو له الرّب القدير أن يمتّعه بالصحّة والعافية.
ثم تلتها حصّة السيرة النّبوية من مختصر سيرة الرسول لإبن هشـام وصـاحبهــا الأستـاذ المربى الثّـابت القنوع عنوان الوطنية والشجـاعة وملهم الصّـابرين والمناضلين قلعة النّضـال ومرفأ الوطنية ومعلّم الأطفـالوالأجيـال فى المدينة أبو (النضـال) شيخى ومعلّمى: محمّد مرانت منصور إبن عنسبـا ورجل وازنتت الغييور... وليسمح لى القارئ الكريم... أن ألتقيه فى الحلقة المقبلة بإذن الواحد الأحد.
توضيح:
1. كانت فى بداية الستينيات تأتى إلى إرتريا مساعدات أمريكية توزّعها الحكومة الإثيوبية على الشعب الإرترىوهى عبارة عن جرابات بيضاء جميلة مرسوم عليها (تمثال الحرّيه) فى إطار العلم الأمريكى بنجومه تحوى الدقيق الأبيض، وذالك لأغراء الشّعب الإرترى ليترك الثورة وليسجد ويركع لملك الملوك (هيلى)... ولا أدرى من أين جاء الإعتقاد بأن تلك الجرابات كان يرسلها رئيس أمريكا (كندى)... وعندما قتل (كندى)... أصبحت الجرابات وكندى مقولة لأهل كرن... حين يريدون أن يقولون (أنّ الشئ المضى وفات لا يعاد) فيقولون بالتقرايت (إيتركبا كندى... بعلّ عشاين طعادى) والمعنى: (أن كندى صاحب الجرابات البيضاء قد مضى وسوف لن يعود).
2. المنيشيبيو (كلمة إيطالية) تعنى (البلدية) وإعتاد النّاس على إطلاق نفس الإسم على رجال البلدية بالزىّ الرّسمى.
نواصل بإذن الله... في الـحـلـقـة الـقـادمـة
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.