المناضل المخضرم: حُمد محمد سعيد كلو يتلو كتاب الثورة في الذكرى الـ (55) للثورة - الحلقة الثالثة
حاوره الإعلامي الأستاذ: جمال همــــد - عدوليس
في هذا الحوار الإستثنائي يواصل المناضل المخضرم حُمد محمد سعيد كلو تداعيه بحرية
بعيدا عن الطرق التقليدية للحوارات.. تركت له المساحة لكي يسرد وقائع سنوات نضال وأحداث عايشها وإنفعل بها وتفاعل معها.. حُمد بطريقته السلسة يعفى الصحفي اسلوب الأسئلة ليضعه فقط في مكان يرتب فيه أفكاره وهو يتابع بشغف.. يتابع أحداث يشتم رائحتها ويحس بسخونتها. حُمد محمد سعيد كلو القادم للثورة بكل عنفوان شبابه وذهنه المتقد بوقائع عالم كان يمور بالثورات التحررية بفكرها الثوري وشخصها الأفذاذ.
وانا أتصفح صحيفة الشرق الأوسط يوم 19 ستمبر 2016 وقع نظري في إحدى الاعمدة خبرا عن (حركة التمرد في كولمبيا والانتقال الى السلم بعد نزاع طويل)، كاتب العمود يبدو أنه ليس من محبي هذه الحركة فكتب عنها بلغة جافة، وهى حركة ثورية كولمبية تقاتل منذ 52 عاما وأسمها (القوات الثورية المسلحة الكولمبية) (فارك)، معقلهم التاريخي في جنوب شرق كولمبيا، والحوار بدأ منذ اربعة اعوام بوساطة كوبية، وجرى ومازال يجري في (هافانا) بين الحكومة الكولمبية و قيادات الحركة.
في الستينات ومع هذه الحركة كانت هناك حركات أخرى في امريكا اللاتينية، وكان هناك صراعا حادا بين القطبين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة أو ما كان يُعرف بالحرب الباردة. كانت امريكا تعتبر امريكا اللاتينية الحديقة الخلفية لها ولاتسمح بقيام ثورات فيها ضد جمهوريات الموز، وكانت تعتبر ان اي تمرد او ثورة وراءه الاتحاد السوفيتي. امريكا اصيبت بالهلع بعد إنتصار الثورة الكوبية واخذت توجها يساريا.
معظم الأنظمة في امريكا اللاتينية كانت صناعة امريكية، والشعوب في امريكا اللاتينية كانت ومازلت تحس بالتسلط القديم للولايات المتحدة الامريكية على بلادها ونهب خيراتها وفرض انظمة ذات نمط بوليسي وقمعي عليها.
كان ذلك في السنين الماضية ولهذا فان العالم في ذاك الزمن شهد قيام منظمات يسارية مسلحة مثل (توبوماروس) وحاول (ارنيستو جيفارا) ان يؤسس بعد انتصار الثورة في كوبا تجمعات ثورية مسلحة تحت شعار (البؤر الثورية) يبدأ ببوليفيا لينتشر في باقي امريكا اللاتينية، هكذا كان تصوره وكان معه في تلك الفترة الكاتب الفرنسي (ريجيس دوبرى) وقد عاد (ريجيس دوبرى) بعد ذلك إلى باريس وألف كتابا فيه معالم نظرية لارنيستو جيفارا حول (البؤر الثورية) وكان الكتاب بعنوان (ثورة في الثورة)، لكن معظم القوى الديمقراطية في العالم اختلفت مع نظرية (البؤر الثورية) وأعتبرت ان نجاح اي ثورة يتوقف على نضوج عوامل كثيرة، واذا كانت نظرية البؤرة الثورية نجحت في كوبا وبالتحديد في (سييرا مايسترا) وأسقطت حكم (باتيستا) فإن ملامحها السياسية لم تكن واضحة للامريكان، لكن بعد اعلان توجهها السياسي بفترة تنبهت الولايات المتحدة الامريكية وكشرت المخابرات عن انيابها واسقطت نظم وطنية في شيلي والارجنتين.
الستينات أيضا شهدت ظهور حركات تحرر وطني في كل انحاء العالم، في إفريقيا برزت حركة (يونيتا) في انغولا، وموزمبيق، وروديسيا سابقا حاليا زمبابوى، و(فرولينا) في تشاد، ومحاولة انقسام في نيجيريا تحت تسمية (ثورة بيافرا)، كما أندلعت الثورة في الكنغو بقيادة الشهيد (باتريس لوممبا)، وترافق ذلك بانتصار الثورة في الجزائر عام 1960م. وشهدت إثيوبيا محاولة انقلاب عسكرية بقيادة الضابط الكبير (منقستو نواي)، وكانت العملية مثار استغراب واندهاش الرأى العام في تلك الفترة وخاصة الرأى العام الاثيوبي "كيف يحدث هذا في اثيوبيا المغلقة المعزولة في مرتفعاتها المحكومة بامبراطور لا يعصى له أمرا، يقوم فيها إنقلاب عسكري"!، لكن الجميع نسى ان التاريخ دائما في حالة حراك وان عملية التغيير مرتبطة بسيرورة الحياة.
منقستو نواى ثائر ظلمه منقستو هيلى ماريام والحكام الجدد في إثيوبيا، كان من المنتظر ان يخلدوا ذكراه. الغريبة ان النظامين في اريتريا واثيوبيا يلعنون منقستو هيلى ماريام ولايتحدثون عن الامبراطو هيلى سلاسى وزمانه.
الستينات شهدت ثورة في اليمن الجنوبي ضد الانجليز وبداية حراك ثوري في فلسطين، وكما تحركت الثورات في فيتنام، كامبوديا، لاوس في آسيا. 1967م كانت هزيمة يونيو / حزيران مرة كالحنظل، كانت كالصاعقة، في هذا المناخ المظلم والكئيب برزت الثورة الفلسطسنية وكانت ظاهرة نبيلة وسط ذاك الاحباط. مع الشهور الاخيرة لعام 1962م بدأت تزداد اللقاءات في (البيت الابيض) في حى السجان بالخرطوم.
اذكر حين وصلت الى الخرطوم 1960م وجدت هذا المنزل الذي يحوي 4 غرف، في احداها كان يسكن جعفر على اسد وشقيقه الامين، وعثمان همد، وادم ادريس نور، وكلهم غادروا دنيانا الفانية رحمهم الله، وفي الغرفة الثانية كانت تسكن اسرة اريترية يمنية، والثالثة كان يسكن فيها ابوبكر حاج ادريس والرابعة عدد من العمال الارتريين، بعدها بفترة غادر إلى القاهرة سكان الغرفة الاولى الى القاهرة والثانية رحل اصحابها، بقية الغرف التي يستأجرها عمال اريتريون.
في هذا المنزل كانت تتم اجتماعات تنظيم جبهة التحرير الإريترية، وأول اجتماع حضره عدد كبير من الاريتريين لسماع أول قائد ميداني يأتي الى الخرطوم وكان الشهيد طاهر سالم، وهكذا بدأت تتواصل الاجتماعات في هذه الدار سواء كان ذلك اجتماعات عامة لمناسبات كبيرة او لاجتماع (التشكيلات) الاسبوعية، حينما كنا في الحركة كنا نسميها (الخلايا) وكانت سباعية العدد اما في الجبهة فقد رسخ اسم (تشكيلة) دون ان يحدد عدد أفرادها.
في الشهور الاخيرة من العام 1962م وليعذرني القارئ اذا كررت هذا التعبير، كنت اعيش حالة غربة وإغتراب، الغربة ومعاناتها، لكن أخ كبير وهو من ابناء اغردات القدامى في الخرطوم كان يرعاني ويخفف من معاناتي وهو المغفور له عبدالرؤف عبده قرقر، كان يعمل مع (السيد الكوباني) وكان هذا التاجر يملك مطعما كبيرا في الخرطوم بجانب مخبز، وكنت ازوره في محل عمله بين فترة واخرى، ذات مرة وبعد انتهاء الدوام الدراسي المسائي اتجهت إليه وكنت املك دراجو هوائية اضع كتبي ودفاتري في (السبت) أو المكان المخصص في الدولاب الخلفي كعادة كل الطلاب، كان يومها مداوما في المخبز، وجدت معه شخصين الاول استاذي في مدرسة اغردات وهو المغفور له الاستاذ يوسف على اسد والذي درسني مادة العلوم باللغة الانجليزية في الصف الثالث الاوسط، وقد فرحت لرؤيته لاننا في الفصل كنا نحترمه ونقدره لخلقه وكفاءته في تدريس مادة العلوم، حين رأيته فرحت به وسلمت عليه بمودة وحفاوة وهو ايضا بادلني ذات الشعور ثم عرفني بالشخص الآخر الذي كان يقف بجانبه وقال لي: أعرفك على الأخ عثمان صالح سبى، وعرفني به وأنني من تلاميذه النجباء، وبحس المعلم سألني المغفور له السيد عثمان صالح سبى أرى معك كتبا ودفاتر؟، فقلت له نعم انا قادم من الدراسة وأدرس في الصف الثاني الثانوي، وكان الأخ عبدالرؤف يتابع ما يجري أمامه منشرحا، ويبدو ان الضيفين كانا في زيارة له.
في العام 1963م قابلت المغفور له عثمان صالح سبى مرتين الأولى كانت عرضية وكان معه ولأول مرة أتعرف على المرحوم محمد ابو القاسم حاج حمد، اما في المرة الثانية فكانت في اجتماع مع اللجنة الفرعية وكنتُ عضو فيها، وكان ضمن الأجندة الإعداد لقوائم عدد من الشباب لإرسالهم الى سوريا لتلقي التدريب العسكري ودراسة التمريض وصيانة أسلحة ...الخ.
عثمان سبى بشخصية المرحة سألني في حديث جانبي ان كنت اريد الذهاب الى سوريا لتلقي التدريب العسكري فقلت له اذا اتيحت لى هذه الفرصة سأطلب معها كورس في فن التصوير ـ تصوير المعارك فضحك وقال لي: هذا اختيار يؤسس لتوثيق العمل العسكري.
في ذاك الزمان زاد نشاط فرع الخرطوم او العاصمة المثلثة وتوسعت الخلايا، ونشطت الاجتماعات الإسبوعية، وكلما كان تأتي اخبار القتال في الساحة الاريترية كان النشاط يزداد اكثر واكثر.
حركات التحرير الافريقية والعربية والاسيوية وفي امريكيا اللاتينية كانت حاضرة في الاعلام وفي الشارع السوداني بالاضافة الى النشاط السري للمعارضة السودانية ضد حكم الفريق عبود، وكانت اناشيد لمحمد وردي (انا افريقي حر) والفنان عبدالكريم الكابلي ونشيده آسيا وافريقيا وتغنيه بالثورة الجزائرية (اغلى من لؤلؤة بضة صيدت من شاطئ البحرين)، ولحسن خليفة العطبراوي نشيد (انا لست رعديدا يكبل خطوه ثقل الحديد) كتبه الشاعر الكبير محي الدين فارس، هذا النشيد كان يثير الشجون. في هذا المناخ إنفجر الشارع السوداني كالبركان كانت بحق ثورة، بدأ هديرها بجامعة الخرطوم حيث كان شهيدها (القرشي) وامتلأت الشوارع والساحات بالجماهير التي كانت تهتف بالثورة وتنادي بسقوط العسكر. شاركت في احدى هذه المواكب الهادرة، حيث بدأنا المسيرة من ميدان عبدالمنعم بالخرطوم (نادي الاسرة) الآن واتجهنا إلى شارع الحرية عبورا جسر الحرية وكنت سعيدا وسط الجماهير الهادرة، وهتافها الذي يعانق عنان السماء. إنتهت المسيرة في ميدان الأمم المتحدة بقلب الخرطوم، واذكر من الاريتريين الذين رافقوني في هذه المسيرة الهادرة شخص اسمه (ودي سللي) كان من افضل (الترزية) الاريتريين في ذاك الزمان، وربما يكون هناك عدد من الاريتريين في المسيرة او مسيرات أخرى لكني احكي مارأيته.
أتذكر هنا الشاعر العظيم محمد الفيتوري نظم ملحمة شعرية وتغنى بها المناضل الثائر الفنان محمد وردى:
اصبح الصبح كأن الزمن الماضي...
مع الماضي نشور...
فارفعي راية اكتوبر...
الثورة مازلت تعيش
اصبح الصبح فلا السجن
ولا السجان باق
بعد أيام من ثورة اكتوبر وبالتحديد في يوم المتاريس (يوم المتاريس هو ذاك اليوم الذي أغلق فية الشعب السوداني كل الطرق المؤدية للعاصمة المثلثة)، ودعت الخرطوم متجها إلى كسلا بدعوة من قيادة الجبهة استعدادا للذهاب الى أرض الوطن.
ونواصل في الحلقة الرابعة...