سكان البحر الأحمر

بقلم الأستاذ: أحمد السيد عثمان - كاتب وبـاحث ارترى

وقد استفاد كثير من أبناء مصوع من مكانتها التجارية، فقاموا بدورالوسيط التجاري

بين تجار الأقطار والمناطق المختلفة.

وقد وفر هذا الظرف الفرصة لبعض سكان مصوع للإزدهار الإقتصادي، والبروز الاجتماعي.

وقد إشتهرت عدة عائلات في المجال التجاري في مصوع، ومنها عائلات الصافي، الغول، وباطوق، وبازهم، والنهاري، وقد جمعت هذه العائلات ثروات طائلة جعلتها من أغنى أغنياء المنطقة.

وقد ظلت أبواب مصوع مفتوحة للباحثين عن فرص الإزهار والتفوق، بما فيهم أولئك الذين جاءوا إليها متأخرين نسبيا. والتاجر المعروف عبيد بن أحمد بن عبدالله باحبيشي الذي جاء إلى مصوع في عام 1871م، يعتبر نموذجا لذلك.

استقر الباحبيشي في مصوع، وكانت بدايته متواضعة، ولكنه مع مرور الأيام حقق نجاحًا باهرا في أعماله التجارية في مصوع، ثم تزوج بإمرأة من المناطق الداخلية (من مندفرا)، وتوسعت أعمال أسرته التجارية لتصل إلى الهضبة، حتى أصبح اسم العائلة معروفا في كافة أريتريا، بمشاريعها التجارية، وأعمالها الخيرية.

الحياة الدينية:

وصلت دعوة الإسلام إلى مصوع وضواحيها في فجر التاريخ الإسلامي.

وينقل الدكتور ميران كلمات لشخصية مصوعية استجوبها: لقد قبلنا نحن المصوعيين الإسلام قبل أهل مكة!”. ويبرز الدكتور ميران الدور الهام الذي لعبه الإسلام في تشكيل المدينة، فيشير إلى أن الإسلام أصبح “ركيزة أساسية تحدد هوية المجتمع.

يعتقد المصوعيون أن المهاجرين الأوائل من أصحاب النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) هبطوا إلى مصوع قبل توجههم إلى الداخل، حيث يقع مقر النجاشي في الحبشة. يرى الدكتور ميران أن هذه الهجرة كانت ذات أثر رمزي، ولم تترك أثرا ملموسا في المنطقة. ويرى الدكتور ميران أن التأثير الحقيقي للإسلام في مصوع والمناطق المحيطة لم يبدأ إلا بعد هبوط الأمويين في دهلك في القرن الثامن.

إنتشر الإسلام في وقت لاحق، على يد بعض الشخصيات الدينية المؤثرة، وأسرها التي حملت لواء الدعوة بعدهم. ومن بين هذه الأسر تشتهر أسر بيت الشيخ محمود، عد درقي، عد معلم، عد زبير، عد كبيري. وأكثر هذه الأسر شهرة وأبعدها أثرا كانت عائلتان وهما: عائلة عد شيخ، وعائلة الميرغني، وهما من أتباع الطريقة القادرية والختمية على التوالي. كان تأثير عائلة عد شيخ بعيد المدى، وطويل الأمد. وقد بدأ تأثيرهم يتراجع مع وصول الإيطاليين الذين كانوا أكثر قربا من المراغنة، وأكثر توجسا من عد شيخ بسبب علاقاتهم الودية مع مناؤئيهم من أتباع الحركة المهدية في السودان.

كانت مصوع وضواحيها مليئة بالأضرحة، والمساجد، والجوامع. وكان أبرز ضريحين في المدينة وضواحيها ضريح الشيخ حامد نافعوتاي في إمبيريمي، من عد شيخ، وضريح السيد هاشم الميرغني في حطوملوا.

وأهم الجوامع وأقدمها في مصوع هما جامع الحنفي، وجامع الشافعي، ويقدر عمرهما بأكثر من 800 عام.

وكانت لدى مصوع محاكم إسلامية منتظمة نسبيا، تتمتع بسلطات قضائية واسعة.

ووثائق محكمة مصوع المتبقية هي مورد تاريخي مهم، وقد أشار إليها الدكتور ميران في مواضع كثيرة من كتابه.

وكانت لمصوع أوقاف كثيرة تبرع بها أبناؤها وأثرياؤها على مر العصور.

الشخصية المصوعية:

مدينة مصوع تميزت بطرازها المعماري المتميز الذي يشابه طراز مدن البحر الأحمر الأخرى مثل جدة، وسواكن. ويشير الدكتور ميران إلى أنه حتى اليوم، وعلى الرغم من كل عمليات التدمير، يمكن بسهولة مشاهدة النقوش العربية الجميلة على منازل وشوارع مدينة مصوع. وقد شهدت مصوع تغييرات كبيرة في هيئتها المعمارية، في فترة حكم الخديويين المصريين، حيث قام الخديويون بمشاريع إنشائية مهمة، أهمها بناء جسر يربط بين جزيرة مصوع وجزيرة طوالوت، ويربط طوالوت بأرض الداخل وذلك في عام 1870م.

يتحدث الدكتور ميران بتفصيل عن الشخصية المصوعية، مسلطا الضوء على دور العائلات في مصوع، وأثر التزاوج بين هذه العائلات عبر الأجيال، ثم يستطرد في الحديث عن معايير النخبوية في مجتمع مصوع.

ولقد شكلت مصوع لنفسها عبر قرون من التمازج سمة إقتصادية وإجتماعية مميزة، تتسم بالتكامل، والإنصهار. يعبر عن هذا إيلاريو كابومازا، وهو ضابط استعماري إيطالي واسع الإطلاع، حين يصف مصوع وأهلها قائلا: بفضل عاداتها السلمية، وعلاقاتها التجارية مع العرب، والهند، ومصر، فضلاً عن اتصالها المستمر والمتواصل بالأوروبيين، فإن سكان مصوع وضواحيها هم، بدون شك، الأكثر تحضراً، وأكثرهم استيعابا للحضارة الغربية من بين جميع سكان المستعمرة“.

الخلاصة:

إن تاريخ مصوع، حافل، ومثير، ومبهج، ولكنه في نفس الوقت أيضا محزن ومبكي. لقد قام الدكتور ميران بعمل رائع في كشف خفايا بعض الجوانب التاريخية والتراثية لمصوع. ومع الأسف فإن مدينة مصوع التي يصفها الكاتب في كتابه في أيام ذروتها هي أبعد ماتكون مما تبقى منها في حاضرها. إن الصورة التي نقلها الكاتب من خلال آخر زيارة له لمصوع، بعد سنوات من نشر كتابه، هي صورة قاتمة، تعكس الحالة المحزنة للمدينة اليوم. يقول الدكتور ميران: الرحلة الأخيرة إلى مصوع - بعد مرور أكثر من ثماني سنوات على زيارتي للمدينة للمرة الأولى - تركت انطباعًا عن مدينة أشباح، مهجورة، لا حياة فيها، على الأقل بالمقارنة مع ما سبق أن شاهدته“.

ولقد زرت بصفتي الشخصية مدينة مصوع في أوائل السبعينيات، قبل الدمار الذي حدث فيها في وقت لاحق. وإنني على يقين، بأن مصوع التي رأيتها في السبعينيات بطرازها المعماري الفريد، وعاداتها الأصيلة، وأسواقها النابضة بالحياة، وأسرها العريقة، غير مصوع البائسة الحزينة التي رآها الدكتور ميران في زيارتية الأولى والثانية.

إن البون بين مصوع في أيام عزها وسؤددها وبين حالها اليوم بون شاسع وكبير، وإن التاريخ ليتقطع ألما وحسرة لما أصاب وحل بها من تراجع وضمور. وبلدة حرقيوا المجاورة، والتي ظلت مركز القوة والحكم لقرون، هي بدورها بلدة مهجورة، لا حراك فيها، تشكوا العزلة، وفقدان فلذات أبنائها، وأسرها العريقة.

إن مصوع مدينة صلبة، شهدت الكثير من التقلبات في تاريخها، لكنها لم تترنح لعوادي الأيام. لقد أصيبت بالعديد من النكبات في تاريخها، لكنها سرعان ماكانت تنهض، لتكمل مسيرتها في العطاء الحضاري والإنساني. وإني كلي أمل ورجاء في أن تنفض مصوع عن نفسها آثار الحرب والإهمال، لتتبوأ مركز الصدارة، لتعود كما كانت مدينة التبادل التجاري الحر، ومدينة الفرص، والازدهار، والعطاء!

شكرا للدكتور على هذا الكتاب الرائع، وأظن أن كتابه هذا جدير بالترجمة إلى العربية، كما ترجم إلى العربية قبله كتاب مفوضية مصوع لمؤلفه الإيطالي أود ريسي.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click