حجي جابر: مصوّع.. في البحث عن ذاكرة

إعداد الأستاذة: ليلاس سويدان المصدر: القبس

أن تكتب عن مدينة يعني أن تتبع أثر التاريخ وتحولات المجتمع ومسارات الإنسان والبنيان، وأن تلتفت إلى تقاطعات الزمن والحدث

ميناء مدينة مصوع

والذاكرة، وأن تلج إلى حواضن الحكايا ومصائر البشر، وأن تحضر سيرتك الذاتية ضمن هذا المدى المكاني في زمن ما، برؤية خاصة جدا تتجاوز ما يكتبه علماء الاجتماع والانثروبولوجيا، إنها كتابة ذاتية عن مدينة متعددة الأوجه قد لا يتشابه حولها نصان.

بعض الروائيين كتبوا عن مدن بعينها وأصبحت سيرهم ونتاجاتهم مرتبطة بها،. بعض الكتابات الأخرى عن المدن كانت حقلا من حقول الاستشراق. ولكن تظل المدينة في كل كتابة عنها بأي جنس أدبي أو غيره، ذلك اللغز الذي له ألف حل والفضاء المكاني الذي نصنعه ذهنيا من الواقع والخيال والوجدان.

في هذه الزاوية يروي بعض الكتاب العرب سير مدنهم التي كان بعضها أحيانا فضاء سردهم الروائي.

على الدوام كنتُ قريباً من مصوّع (*)، على بعد شارعين ربما، أو أقرب، لكن من دون أن أصلها. ظلّت تلك المسافة الفاصلة هي التعريف الأكثر ملاءمة لعلاقتي الملتبسة بمسقط رأسي مصوّع. وأقول ملتبسة لأني لا أعرف على وجه الدقة ما إذا كان لفظها لي بمجرد ولادتي خشية عليّ وأنا المولود تحت قصف الطائرات الإثيوبية والكوبية، أم هو محض تخلٍ، كما تفعل بعض الامهات لشتى الأسباب.

ذاكرة مستعارة:

عبرتُ ضفة مصوّع على البحر الأحمر إلى الضفة المقابلة، في ما يشبه المحاكاة لما فعله صحابة الرسول هرباً من الجور إلى الجوار، مع فارق أني سلكت الوجهة المعاكسة. وبقيتُ هناك أرقب العودة وألملم من شتات الهاربين ما يصنع ذاكرة مؤقتة عن مصوّع. لم يمض وقت حتى كنتُ قد حفظتُ أسماء أحيائها وشوارعها الكبرى وأسواقها. حفظت أسماء شيوخها ودراويشها. أصبحتُ جاهزاً تماماً لأي لحظة لقاء مخاتلة. وقد كان.
كما غادرتُ المدينة دون مقدمات، كذلك جاءت فرصة عودتي. أصبحتُ على بعد ساعتين فقط من ردم تلك الهوة الزمانية والمكانية. وهنا انتبهتُ أني بكل ما أحفظه عن مصوّع، بعيد جداً. ختمية، طوالوت، سقالة قطان.. الخ، لم تكن تلك الكلمات المجردة تحمل في رأسي شكلاً. لم أكن قادراً على تجاوز أحرفها إلى الصوت والملمس والرائحة. كانت الذاكرة المستعارة محض مواساة لا تُقيم أوداً إلا بقدر ما غاص الواحد في الانتظار والتسلّي.

بلا حكايا:

في الطائرة بدا جميع من حولي بذاكرة صحيحة. ملامحهم تشي بأنهم يعودون إلى مكان يعرفونه. كانوا على موعد إذن مع تلك الشوارع الترابية التي قضوا أعوامهم الأولى يذرعونها، على موعد مع المدرسة الابتدائية وناظرها البغيض، الدكّان الصغير في زاوية البيت، وجارة عجوز لئيمة لا تني تحتفظ بالكرات التي تسقط في فناء منزلها. كانوا على موعد مع الخطوة الاولى، والكلمة الاولى، وربما الحب الأول. شعرتُ بالغبن على تفويت كل تلك التفاصيل التي كانت ستجعلني مثل هؤلاء، ممتلئاً بالحكايات ومفاخرا بها أينما حللت.

ألهذا أشعر بالضيق؛ لأني لا أملك حكاية واحدة تخصني في مصوّع ؟.

ما أسوأ ان نكون فارغين من الحكايا. لا معنى لأشيائنا ما لم نشدها إلينا بالحكايات. نحكم وثاقها فلا يعود شيء يقدر على افتكاكها. لهذا عادة ما نكون أكثر قدرة على مغادرة الأشخاص والأماكن والعادات دون عناء متى ما غابت الحكايات التي تصلنا بها.

حكايات الآخرين لا تكفي.. تظلّ شيئاً خارجياً تماماً مهما اعتقدنا العكس. لهذا ربما لم تصمد كل الحكايات التي أثثت ذاكرتي وكان مصدرها الآخرون. لهذا تلاشت مع أول اختبار، لهذا لم ترتسم على ملامحي لأبدو ككل الجالسين حولي.

هل جاء الانتباه متأخراً؟ نعم. هل فات الأوان؟ لا. ليس بعد.

أنعشتني هذه الفكرة. حقنتني بطاقة لافتة. بقدر ما كنتُ محبطاً من تأخري عن كل من يرافقني في الطائرة، بقدر ما وجدتها فرصة لأرى مصوّع بعين ناضجة وذهن متوثب، وذاكرة عطشى. سأملأ روحي بالحكايات، سأمد الوشيجة تلو الأخرى، بحيث لا يغدو بالإمكان أن أنفصل عن المدينة.

في مصوّع، سأحب وأكره، وأتشاجر، وأصاحب. سأطلق مشاعري من قيدها، سأسرّح حواسي لتلتقط كل شيء تقدر عليه. سأرمي بها شباكاً جائرة تصطاد الجيد والرديء.

دليل اللقاء الأول:

لم تكن الطائرة قد أقلعتْ بعد!، كانت المضيفة أمامي لا تزال في منتصف حركاتها الصامتة وهي ترشدنا لتعليمات السلامة.. يا لهذا العناء.

ليتها تقوم بما أحتاجه الآن بالفعل، ليتها ترشدني للطريقة التي ألتقي بها مصوّع للمرة الأولى. ترفع يدها عالياً فتستأثر بالاهتمام. أبقى معلّقاً عند اليد الممدودة. لا أفهم معنى الحركة على وجه الدقة، لكني أشعر بضرورتها. تخفضها فيزداد تحفّزي. تواصل تلك الحركات بينما يذهب ذهني إلى المدينة، تستحيل كل حركة بالفعل إلى دليل اللقاء الأول. أمتلئ بالتعليمات فأصبح جاهزاً أكثر، لكن الطائرة على حالها، ملتصقة بالأرض.

ليتها تفعل ذلك في طريق العودة. ليتها تأبى أن تبرح المكان وقد وصلته مثلي، أخيراً. ليتها تنغرس في تراب المدينة، تنزرع فيه، تتلاشى فيه حتى تغيب تلك الحدود الفاصلة. ما أشهى هذه الفكرة. ذهبت بي بعيداً بحيث خطرت لي شتى الصور للطريقة التي سأصير فيها منتمياً للمدينة بكلّيتي؛ ماذا لو كنتُ مثلاً تلك القطعة الرخامية التي غرسها الصحابة ناحية بيت المقدس قبل أداء صلاة الظهر وتركوها خلفهم في طريقهم للنجاشي، تشتكي البرد والعزلة وقد دخلت أسوارها ضمن حرم الميناء البحري ؟.

ماذا لو ؟!

ماذا لو كنتُ تلك المرساة الحديدية الصدئة التي تتدلى من رافعة ضخمة على حافة البحر، وقد طال انتظارها لأي قادم من أي اتجاه؟ ماذا لو كنتُ سقالة قطّان ذلك اللسان الممتد في عمق البحر وقد هجره العابرون فلم يعد يوصل إلى شيء؟ ماذا لو كنتُ تلك القبة التي تستقرّ فوق قصر الحكم الذي سبق الاستقلال، وقد نخرتها ثقوب الحرب من دون أن يُعيد لها السلام طمأنينتها؟ ماذا لو كنتُ ذلك الصنبور الوحيد الذي يتوسّط فناء بيتنا وقد غادرناه باكراً بحيث لم يعد يتذكّر إلا وجوه سكّانه الجدد؟ ماذا لو كنتُ تلك النافذة المطلّة على الغرفة التي شهدتْ مولدي منتصف السبعينات، وهي الآن تضجّ بشقاوة أطفال سيتحدثون عنها غداً بكثير من الاشتياق، وسينازعونني بكل جرأة هذا الجذر الخارج من الأرض ؟

ماذا لو...

أخرجني صوت قائد الطائرة من استغراقي وهو يتلو اعتذاراً طويلاً لعدم قدرته على الإقلاع نحو مصوّع بسبب عدم جاهزية مطارها في الوقت الراهن لاستقبال الطائرات.

(*) مصوع إحدى مدن إريتريا المطلة على البحر الأحمر

Top
X

Right Click

No Right Click