موقع اريتريا الإستراتيجي كان الدافع وراء تعاقب المستعمرين عليها - الحلقة الثانية
بقلم الأستاذ: حسين محمد باقر - كاتب وبـاحث
بِسْمِ اللهِ الرحمن الرَّحيِم
سياسات الإيطاليين في التعامل مع الأريترين: قبل الحرب العالمية الأولى لم تكن السياسة الإيطالية في مستعمراتها تختلف عن سياسة
سائر الدول المستعمرة، لكنها عندما أصبحت أكثر ليبرالية جاء النظام الفاشستي يِجعلها أكثر رجعية.
ففي أريتريا كان الإيطالي هو الأساس، والاريتري كان يعتبر مواطنا من الدرجة الثانية وفقاً لسياسة التمييز العنصري التي أقرتها في أريتريا، ومن حيث مجالات العمل كان الأريتري يُطلب لإنتاج مواد خام للصناعات الإيطالية، كما كان يؤمن اليد العاملة الرخيصة للمؤسسات الإيطالية وكان يشكل المرتزقة في خدمة القوات الإيطالية بأجر بخس زهيد، كما أن التمييز في القوانين جعل منه ضحية، ولم يكن له صوت في إدارة بلاده وشؤونها، وإقتصر اشتراكه في الإدارة الإيطالية على المراكز الدنيا وكل ما حصل عليه من خدمات عامة وإجتماعية، جاء دون ما يستحق - لم يسمح للمواطن الأريتري ان يستعمل وسائل المواصلات العامة التي يستعملها الإيطالي وكذلك في المطاعم والكفتريات والمنتزهات وكل المرافق العامة حيث لم يسمح للمواطنين أن يرتادوا الأماكن المخصصة للأوربيون، ومع ذلك لم يصدر من الأريترين أي بادرة إنزعاج لقد كانوا يسكتونهم بسياسة (الخبز والسلوى)، فالطعام وسائر المواد الإستهلاكية كانت متوفرة ورخيصة والضرائب كانت رمزية، كما كان الكرم عامراً يعبر عنه بأستعراضات غنية من الهدايا والمنح للعاطلين عن العمل كما عمت مظاهر التكريم ومنح الكثيرون فرص العمل.
لقد بقى الشعب الأريتري في حالة بسط وإنشراح طيلة مدة الحكم الإيطالي مما جعله طائعاً لحكامه.
في مجال التعليم والصحة في عهد الأيطاليين:
لم يكن يوجد في أريتريا سوى أربع وعشرون مدرسة إبتدائية (حسب تقرير اللجنة الدولية الرباعية) للتحقيق في أوضاع المستعمرات الإيطالية السابقة التي أوفدتها هيئة الأمم المتحدة عام 1948م وجاء في مذكرة أرشادات سرية ارسلها (السنيور فستيا Vistia) مدير التعليم في أريتريا عام 1938م الى المدرسين في نهاية السنة الرابعة : يجب أن يكون بوسع الطالب الأريتري التحدث بلغتنا (الإيطالية) بصورة مرضية، كما يجب أن يعرف العمليات الحسابية والضرب على الآله الكاتبة والإختذال. بعد هزيمة الإيطاليين واستيلاء بريطانيا على أريتريا كان هناك الأهمال التربوي بشكل عام، وكان نقص في عدد المعلمين المدربين وفي الكتب المدرسية الصالحة وفي المباني المدرسية المناسبة أما الإعتمادات التي كانت بوسع الإدارة الإنجليزية تخصيصها في هذا المجال كانت محدودة جداً لكنه كان بالأمكان مواجهة كل العقبات فبعد فترة من الوقت تمكنوا من تشييد بعض الأبنية التربوية المتواضعة وفتح عدد قليل من المدارس بمساعدة القليل من المعلمين جيئ بهم من السودان ومن الأريترين المثقفين، ثم زاد عدد المدرسين والمعلمين سنة 1943م، كما جيئ بكتب مدرسية من مصر والسودان تم إعداد وطبع كتب باللغة التجرينية.
وحيث حال العجز المالي دون بناء المدارس، جمعت التبرعات وبنيت المدارس في سنة 1950م وقامت الإدارة البريطانية من بناء مدرسة ثانوية واحدة وتسع وخمسين مدرسة ابتدائية (حسب ما جاء في تقرير اللجنة الرباعية) وكان التدريس يجرى باللغة الإيطالية أثناء الإحتلال الإيطالي، مما جعل عدداً كبيراً من الأريترين - بالإضافة إلى تواصلهم الدائم بالمقيمين الإيطاليين يجيدون التحدث بالإيطالية ونظراً للظروف التي خلقها هذا الوضع فرض استمرار التعليم باللغة الإيطالية إلا أن حاجة الإدارة البريطانية إلى أفراد يتكلمون الإنجليزية، بالإضافة إلى أن الكثيرون من أبناء الجيل الجديد طلبوا تعلم الإنجليزية، كل هذا فرض سياسة التخلي عن الإيطالية، فكانت اللغة الإنجليزية تدرس في آخر السنة الابتدائية ثم في كافة مراحل الدراسة الثانوية وترك انتقاء لغة التدريس الابتدائية للمجالس التربوية المحلية التي كانت تفضل اللغة العربية حيث كان الأكثرية مسلمة وتفضل اللغة التجرينية حيث كانت الأكثرية مسيحية، وآثار التطور الثقافي حماساً كبيراً في أوساط الأريترين فكان الأهالي على استعداد للقيام بشتى التضحيات من أجل إرسال أبنائهم إلى المدارس، وكان المعلمون مزيجاً من الضباط الإنجليز والأريترين والإيطاليين الذين كانوا يجيدون الإنجليزية وأعطيت دروس بالضرب على الآلة الكاتبة والإختذال ونظمت محاضرات ومناقشات، كما عرضت أفلام وكان ذلك بمساعدة (البريتش كونسيل) المجلس الثقافي البريطاني، كما أنشئت مكتبة زودت بالكتب والمنشورات والمجلات الإنجليزية.
الحرب العالمية الثانية:
بعد إنتصار الدول الأربع (الحلفاء) الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي وبريطانيا وفرنسا وهزيمة دول (المحور) المانيا النازية وإيطاليا الفاشستية والإمبراطورية اليابانية إنتهت الحرب في أريتريا سريعاً حيث تمكنت القوات البريطانية ومعها بعض الفرق من بعض مستعمراتها من دخول الأراضي الأريترية من جهة الغرب في الأول من ابريل عام 1941م وفي اليوم الثاني من أبريل سقطت مصوع وأصبحت اريتريا كلها تحت الإحتلال البريطاني وبعد اربعة أيام كان قائد الحملة البريطانية (الجنرال بلات) يحتل مكانه في قصر الحكم الإيطالي السابق في أسمرا.
فقد تركت تلك الحروب ذيولها من الفوضى والعذابات الإنسانية وغرقت أسمرا وسائر المدن الكبرى باللاجئين المدنيين والطليان والجنود الهاربين وفي الداخل أشتد الجوع والهلع و وكانوا الإنجليز في وضع غير مؤهل لتسلم هذه المسئوليات مباشرة مما عرض البلاد للوقوع في حالة فوضى واسعة فالمؤن لم تكن كافية وبات خطر الأمراض والجوع يهدد اريتريا بسبب الهزيمة الإيطالية.
إدعاءات أثيوبيا في مطالبتها بضم أريتريا إليها.
يقول السير ترفاسيكس:
منذ الوهلة الأولى لسقوط ايطاليا وإنتصار الحلفاء - عملت الحكومة الأثيوبية على إبتلاع اريتريا من خلال أختلاق مبررات واهية ولم يبقى أمام الإثيوبين سوى تحريك بعض التأييد الأريتري وفي هذا السبيل وجهوا عنايتهم نحو الكنيسة القبطية اولاً فالكنيسة كانت الحامي الدائم للتقاليد الحبشية، ولابد أن يكون لها نفوذ كبير بين مسيحي اريتريا وأثيوبيا، ولابد من أجل مصلحتها هي من العمل في سبيل وحدتهم السياسية إضافة إلى أنه كان لكنيسة أريتريا مصلحة مادية في الموضوع فقبل الإحتلال الإيطالي كان للكنيسة أملاك شاسعة، بما فيها أراضي (بحري) الخصبة، حيث كانت الأمطار الغزيرة تعطى البلاد أجور أراضيها الزراعية، وجاء الطليان فإنتزعوا هذه الممتلكات بوجودها إلى أراضي حكومية، ثم وزعوها على كثير من قرى الهضبة الجائعة وعلى عدد قليل من المستوطنين الطليان، أما الإنجليز فإنهم رفضوا كل مطالبة بإعادة الأراضي إلى الرهبان، فالوحدة مع أثيوبيا ورضى أمبراطورها، من شأنهما وحدهما أعادة الممتلكات إلى الكنيسة كذلك كان مطران التيجراي واريتريا الأب (مرقص)، الذي سبق له أن تعاون مع الطليان والذي رُسم مطراناً على يد بطريك موال للطليان متحمساً للقضية الإثيوبية.
بعد سنة 1943م أصبح كل راهب داعياً للقضية الإثيوبية، وأصبحت كل كنائس القرى أوكاراً لتأييد الأثيوبيين، وتحول إحتفال ديني مثل الـ (مستقل) (عيد الصليب) إلى مناسبة لاشهار الروح الوطنية الأثيوبية، وصارت كاتدرائيات المدن وكنائس القرى والإديرة تزين سياسياً. وقد تعطى موعظة المطران في عيد المجوس سنة 1943م فكرة هذا الواقع، حيث قال يومها: الصبي المولود الجديد يُحمل إلى الكنيسة بعد ولادته بأربعين يوماً، وتحمل المولودة الأنثى بعد ولاتها بثمانين يوماً ليصير لهما أسمان يعرفان بهما.
عندما يبكي الطفل ترضعه أمه وحالما تلامس شفتاه ثديها، يكف عن البكاء، أما أنتم ايها الناس فهل تحملون أسماء: أن لكم أماً و عليكم ان تعرفوها مثلما تعرفكم هي أن معنى هذه الموعظة وأضح.
لقد مهدت هذه النشاطات الطريق لقيام حركة سياسية منظمة قامت سنة 1942م، اثر تدخل اثيوبي وعلى أساس استغلال لشكاوي الأريتريين المسيحيين وكانت المناسبة مسيرة قام بها الشباب من الموظفين الأثيوبيين الذين أرسلوا إلى أسمرا في نزهة مدبرة من أجل القيام بمهام غامضة وفي أسمرا لم يكن من الصعب عليهم الإتصال بالانتلجنسيا المسيحية الاريترية وكان كرمهم وحسن ضيافتهم وقصصهم عن أثيوبيا الجديدة، يجمع حولهم في المقاهي العديد من الحانقين على الأوضاع في أريتريا، فيقارنون بين فقرهم وبين إزدهار زائريهم، وكان هؤلاء يجيدون الحديث عن مطالب اثيوبيا في (الولاية المفقودة) ويعنى بها أريتريا وعن المكافآت التي تنتظر المخلصين لقضية اثيوبيا.
وهكذا ابصرت النور سنة 1942ه جمعية اسمها: (محبر فقرى هجر) جمعية حب الوطن، كان هدفها العمل على ضم اريتريا إلى أثيوبيا، وكان أعضائها أكثرية الأريتريين الذين حصلوا على أكرم المكافآت من الحكومة الايطالية و كان رئيسها شاباً اسمه (جبر سفل ولدو) وكان قد وصل إلى ارفع مركز بين العاملين مع المفوض الإيطالي السابق في أسمرا وكثيراً ما تحركت هذه الجمعية لاستغلال عداء أبناء المدن المسيحية للطليان والعرب والجبرتيين لقد كانت دعايتهم جذابة ومنطقهم مقنع (والكلام للسيد ترفاسكيس)، أن أثيوبيا هي البلد الذي يسود فيه الحبشي من غير أن يستغله الأوربي، وحيث يبقى العرب والجبرتيون والقبائل المسلمة تحت سيطرته و وكذلك بإمكان حتى الحبشي المتواضع الثقافة الوصول إلى أرفع المناصب في السلطة، كان لهذا الأسلوب في الدعاية وقعه الفعال مما جعل مثقفي أسمرا المسيحيون ينخرطون بسرعة في خدمة القضية الأثيوبية، وفي نهاية عام 1942م، كان مجلس أسمرا الاستشاري قد أكتسب طابعاً ظاهراً موالياً لأثيوبيا.
كانت أثيوبيا تدعي بأنها مارست سيادة فعلية على الهضبة قبل قيام النظام الإيطالي بإحتلال اريتريا ويضيف الكاتب : من حق الأثيوبيين الدفاع عن وجهة نظرهم من الزاوية العنصرية أيضاً فيمكن لإثيوبيا مثلاً الإدعاء بان شعوب الهضبة تجرينية العنصر بالتالي منتسبة إلى سائر ملوك أثيوبيا، فإن أكثرية التجرينية هم من المسيحيين الأقباط، وبالرغم من أن أكثرية تجرينيي المرتفعات الشمالية والأراضي المنخفضة المجاورة كانت من المسلمين و فبالامكان القول بان كثيرين منهم كانوا في الماضي من المسيحيين الأقباط، وأن بعضهم لا يزال يمارس العادات الحبشية، هناك أيضاً حجج إقتصادية وإستراتيجية لصالح اثيوبيا هذه الحجج التبريرية كانت تصوغها بريطانيا لتعزيز مخططها الذي كان يهدف إلى تقسيم اريتريا بين أثيوبيا و السودان الذي كان تحت الإستعمار البريطاني وإذا تعذر تحقيق ذلك فالخيار الثاني كان ضم اريتريا إلى أثيوبيا دون قيد ولا شرط.
وفي عام 1946م عينت الحكومة الأثيوبية الكونيل نقاهيلي سلاي ضابط أرتباط اثيوبي Liaison في أسمرا وكانت مهمته في طبيعتها استشارية وبالرغم من إشتراط الإدارة الإنجليزية لقبوله، بعدم تدخله في السياسة المحلية و فإنه لم يتأخر عن كشف طبيعة المهمة المرسل من أجلها فسريعاً ما تحول مقره إلى مركز الإجتماعات للقيادات والكوادر المسيحية المساندة لمشروع الإنضمام إلى أثيوبيا الذين لم يعودوا يتخذون قراراتهم إلا بموافقته، وراح يوزع المعاشات عليهم، وفي الوقت نفسه أطلق حملة تميزت بعنفها ضد العرب والإيطاليين وبعض الأحرار من الأريتريين المسلمين وكتبوا المسيحيين عرائض باسم الشعب الأريتري يطالبوا فيها بطرد العرب - في الحال - من اريتريا وإقصاء جميع الطليان من مراكز الإدارة ومراكز الشرطة التي كانوا يشغلونها و ولم ينسوا أن بربطوا هذه المطالب بـ رغبة الشعب الأريتري الحارة في الوحدة مع أثيوبيا مع العلم بأن الشعب لم يستشر في كتابة المعروض. وفي أبريل 1946م وقعت حوادث صغيرة حركها المسيحيون الاريتريون في مصوع وكرن، جرح فيها بعض العرب وحطمت بعض ممتلكاتهم، وفي شهر يونيو عمدت الحكومة الإثيوبية بصورة مفاجئة إلى طرد 130 عربياً إلى اريتريا بعد مصادرة أملاكهم في اثيوبيا وفي شهر يونيو أبعدت إثيوبيا بإتجاه الأراضي الأريترية 145عربياً آخر و 92 ايطالياً وليس معهم أكثر من الثياب التي كانوا يلبسونها. هذا التدابير التي إتخذتها اثيوبيا كانت مناقضة للعرف الدولي لكنها ترمي إلى إقناع الاريتريين المسيحيين بإصرار اثيوبيا وقدرتها على مواجهة الغرباء غير المرغوب فيهم.
وبما أن مستقبل اريتريا أصبح الآن على مفترق طرق كان من الطبيعي أن يؤخذ راي الاريتريين بعين الإعتبار، وكانت هناك حاجة ماسة لأن يُعطى الاريتريين اقصى درجات الحرية وأن يشجعوا على إبداء آرائهم.
نواصل في الحلقة القادمة انشاء الله