أسمرا إيقاعُ الحلمِ ودوزناتُ الصّبابة
بقلم الأستاذ: أحمد عمر شيخ - شاعر والروائي ارترى المصدر: الإفريقية
مدينةٌ تتناسلُ عبر أروقةِ الغيمِ.. تتوسدُ يرقاتِ الفرحِ الوثيرْ.. تنثرُ قوافلَ الفرح على ضفافِ القولِ وحسنها الفاتن أشبهُ بإيقونةٍ عذبة
يتفرَدُ الكونُ بعزفها على إيقاع المكانْ. كعاشقٍ أقفُ مشدوهاً أمام محراب جسدها المرمري الآسر.. مُتدثرًا رداءَ الولهِ والصّبابة.
"أسمرا" عاصمة الدولة الإرترية الفتيَّة.
خمسٌ وعشرون عاماً قضيتها في تضاعيفِ حاراتها ودروبها ومساءاتها اللازوردية الوامقة. أحببتها كما لمْ أحبّ مِنْ قبلْ.. لتتغلغل في شرايين روحيْ كرقرقاتِ سرّ الخليقةِ وشهقة العصافير الشارده.
مقاهيها "مودرنا / إمبيرو / مدريْ جنَّتْ / رويال / روزينا".. أصدافُ الوعدِ الماثلِ.. وحكاوي الشّجن المعتّقِ بالرؤى والثرثراتِ الحميمة.
تترقرقُ الوجوهُ على دوائرِ نغماتِ الخطى والعابرين / العابرات وهمْ / هنَّ يشخصونَ إلى بناياتها ذات الطراز المتفرّدِ النجابة،، وقمم السحاب المتواري خلف جيوبِ المسافة.
الصبايا وهنَّ يتأرجحنَ علىَ جسورِ الأرصفة الخلابة.
أشدُّ قدميّ على مدى ربع قرنٍ من الزمن تدحرجتُ فيها مابين مدِّها وجذرها.. وأمواجُ الزمن وهي تحتويْ أحلاميْ / ألآميْ / انكساراتيْ / وانتمائي لها الذي لايحدُّ.. تحتوينيْ بحنوٍ ورقّة وعنفوانْ.
تستلقيْ "أسمرا" على ارتفاعِ 2300 قدم فوق سطح البحر.. تتوزعها مساحاتُ ربيعٍ دائمِ الخضرة والهواء العليل طوال فصول العامْ،، يتوسطها شارع "كمبشتاتو / الحريَّة"،، وهو يتمدًّدُ كجنحيْ فراشةٍ ملونةٍ / بهيَّةٍ يفوحُ مِنْ بينِ أردانها شذى الياسمينِ وحبقُ الرّياحين السامقه.
يلوحُ البنفسجُ مِنْ على أسوار بيوتها الخفيضة على استحياءٍ مدائنيْ مُحبَّبْ.. ويسقطُ على كتفيْ وعلى قصص عشقي للنساءِ اللواتي مررنَ في حياتيْ كبصماتِ لاتنمحيْ.. مديناً لهنَّ بأياميْ ولياليْ.
جامعُ "الخلفاء الراشدينْ" وهو يشمخُ بمئذنتهِ العالية وعلى واجهته نقشٌ يدشنُ سنة بنائه في 1900م.. على الطراز "العثمانيْ".. وسوق العاصمة الشهير "ماركاتو" و"الكاتدرال" وكنيسة "اندا ماريام / القديسة مريم" و"كدانيْ مِهْرَتْ" / صفوف المباني التي ترسمُ عراقة المدينة.
أغفو على سُرةِ معشوقتيْ "أسمرا" وأرتِّلُ "قصائدَ" عشقيْ لها و"رواياتِ" تجاذباتي معها. "قزا برهانو/ أبَّشاولْ / حدِّيشْ عدِّيْ / عداقا عرْبيْ / أخريا / مهرم جرا / و "أربعتيْ أسمرا" التيْ تشكِّلُ نواة المدينة.. حيث اجتمعتْ أربعُ نساءٍ وجمعنَ القاطنين / القاطناتِ على قلبٍ واحد.. فقيلَ "أسمَرَتْ" وتعنيْ "وحَدتْ" بلغةِ "التغرينَّة".
أعودُ صعوداً وأنا أزداد هيامًا بهذه الفاتنة كلما مضت السّنواتُ بيْ في باحاتها وأزقتها التي وسَمَتْ حياتي ورحلتيْ فيها. كمتيَّمٍ أتلَّوى بين أحضانها ولاأشبعُ مِنْ ممارسةِ "حبِّيْ" لها.. وهي تعطينيْ بكلِّ فورةٍ وسخاءْ.
كحسناءٍ تضمُّ نبضّ حسّ وجوديْ الإنساني في أرقى معانيهِ وصوره وتجلياته. سحناتُ أهليها وهمْ يرودونَ منعطفاتها ومستقيماتها تتوشحهم الأناقة والرزانة والكبرياءْ.. ربما هم مِنْ سلالةٍ بشريَّةٍ رفيعة الذوق والبشاشة.. أهمسُ فيْ داخليْ مرارًا وامضيْ.
"مايْ جهوتْ / قزاباندا / قجَّرَتْ / قودايف / قحوتا / عدي قُعداد / ظظراتْ / سمبل / ترافولو".. شواهدُ بوحِ المكانِ وتنوعه الخلّابْ.
يغشانيْ الليلُ بقبعاته الرماديَّة وأنا أرصدُ نجوماً تتوارى خلفَ دجنة الضبابِ والسكونْ.
"مايْ تمنايْ / عداقا حموسْ / براديزو / عدي أبيتو / عدِّيْ سقدو / بلاجو".. أتنقَّلُ عبر إطارِ غناءٍ شفيفٍ متجانسِ القوافيْ.
جنانُ الخلدِ تتمايلُ في خاطريْ وأجراسُ "الكاتدرائيَّة" تدقُّ عند الخامسة إلاّ عشر دقائقْ يوميًا وبذاتِ الخفقْ.
ويطرقُ سمعيْ آذانُ جامع "الشيخ عبدالقادر" وهوّ يبعثُ بصوتهِ الرائق الطمانينة في سقوفِ "أسمرينا".. مدينة المدائن وخارطة الهوى والجمالْ.
تمَّ اتخاذُ "أسمرا" كعاصمةٍ للمستعمرةِ الإيطاليةِ حينذاك في العام 1897م.. بعد أنْ كانتْ "مصوَّع" المدينة السّاحليَّة على البحر الأحمر عاصمةً أولى لـ"إرتريا".. وتمَّ تشييدُ مبانيها على الطراز الروماني الـ"آرتْ ديكو".
تهتزُّ أشجارُ "القلامطوسْ / البانْ" والنخيلُ "سييه" على موسيقى الوجدِ.. وأصواتِ الحضاراتِ التي تتميّز بها منطقة القرن الإفريقيْ والتيْ تُعدُّ العاصمة الإرتريَّة عروسها الصبيَّة التي تتوسدُ قلبَ الغمام والتجانس والوئام.
تتلألأُ دورُ السينما المعتَّقة في "أسمرا" كخمرةٍ أصيلةٍ عالية المزاج والتماهيْ: "إمبيرو / روما /دانتيْ / كابيتولْ / إفريقيا".. ومبانيها الأثرية التي تربو على الـ15 مبنىً بما أهَّلها أنْ تُدرجَ في يوم 8 يوليو 2017م في قائمة التراث العالميْ مِنْ قِبل منظمة التربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) ليكتملُ حفل زفافها بتتويجها بهذا المنجز التأريخيْ كوعدٍ يتجدَّدُ في كلِّ الأزمانْ.
تنامُ شطوطُ النّدى
تفيقُ على لحظةٍ نادره
انتماءُ العواصمِ
ضوءُ الطَّريقِ المؤاتيْ
مُدُني الظافِره
تجتاحُ همِّيْ
ريحانةٌ مُسْكِرَه
أسمرا الوامِقه - العاشِقَه - الباشِقَه - القادِرَه.