شموع تنير الظلام الفنان المبدع محمود دبروم
بقلم الأستاذ: عمر جابر عمر
فى نفوس الأرتريين درجة عالية فانهم لا يلتفتون الى تلك الشموع ويعتبرونها استثناء ومظاهر عابرة
ستختفى مثلها مثل كل جميل فى حياتهم. ولكن الحقيقة هى ان تلك الشموع موجودة بيننا ومن حولنا وأمامنا ومن خلفنا - فى كل مجالات الأبداع والنجاح:
فى الأدب والفن والرياضة والعلوم والأقتصاد والأجتماع - فقط علينا أن نضعها فى موضعها الصحيح ونحتفل بها ومعها فى كل خطوة نجاح وابداع - ذلك هو الطريق الذى نهزم به اليأس ونبدد الظلام ونجعل حياتنا ضياءا وفرحا وسعادة.
وفارسنا اليوم هو الفنان المبدع (محمود دبروم) الذى نادرا ما يخلو بيت ارترى من لوحة من لوحاته التى كان يرسمها خلال العقود الثلاثة الماضية. فناننا نشأ فى بيئة عادية لا تمايز فيها ولا تمييز الا ما فرضته الجغرافيا حيث أتيحت له فرصة التجوال فى متاجر ومعارض الأيطاليين فى العاصمة (أسمرا). كان يتوقف أمام تلك اللوحات والتشكيلات فى واجهات المتاجر وتصيبه الدهشة ويسأل نفسه: كيف فعلوا ذلك؟!
انه نداء الأبداع الفطرى كان يدفعه الى استكشاف ما لا يتوقف عنده أطفال فى عمره فى ذلك الوقت. كان يجد تشجيعا فى المدرسة كلما اكتشف أحدهم موهبته فى الرسم ولكنه فى نهاية الأمر هاجر مثل مئات الشباب الأرترى واستقر فى السعودية.
داهمته الحياة بمطالبها وتحدياتها ولكنه كان رغم ذلك وكلما وجد وقتا يستجيب لنداء الفن ويجلس يرسم ويرسم ولا يغادر المقعد حتى يكمل اللوحة!
رأته بالصدفة أحدى الموظفات الأمريكيات فى موقع العمل وحملت لوحته وطافت بها على الموظفين وقالت لهم: يوجد بيننا فنان! بعدها نشط فى اقامة المعارض المشتركة مع الفنانين الأجانب ثم مع السعوديين وفاز بجائزة وشهادة تقدير فى مسابقة أجرتها الخطوط الجوية السعودية وشارك فيها أكثر من مأتى فنان.
لم يذهب الى معهد فنى أو أكاديمية فنون ولكنه بالممارسة وقراءة الجديد فى الصحف والمجلات المتخصصة فى الفنون التشكيلية استطاع أن يصقل موهبته ويتعلم قواعد المدارس الفنية الختلفة من تقليدية وسوريالية وتكعيبية كما أنه أتقن مزج الألوان وتركيبتها. وبعد وصوله الى لندن حاول الألتحاق بمعهد فنى لزيادة المعرفة - ولكنهم اعتذروا عن قبوله - والسبب؟ قيل له انه وصل الى المرحلة التى يصل اليها الفنان بعد اتمام تلك الدراسة التى يبحث عنها - فلماذا يدرس؟
استمعت اليه أول مرة فى لقاء عن (الرعيل الأول) - تحدث بمشاعر انسانية واحساس فنان – تحدث عن القضية دون أن يتحدث فى السياسة! كان يتحدث من القلب عن أبناء وطنه وشموخ وطنه وعزة شعبه.
التقيته مرة ثانية فى داره العامرة فى ضاحية لندن - ورغم الأجراءات الأمنية التى تحكم مداخل البنايات فى العاصمة البريطانية - الا انك بمجرد أن تدخل منزل الفنان (دبروم) تجد نفسك فى محراب فنى - تناسق فى الألوان ولوحات على الجدران فى ترتيب فنى بديع وحركة رشيقة تحدث عن روح شفافة وصفاء مريح. ومع كل ذلك تشعر بأنك فى منزل ارترى تقليدى أصيل فى ضيافته واستقباله والجو الأسرى الذى يحيط بالمكان.
سألته هل يتابع الأنترنت؟ قال: كنت - ولكنى وجدتها تهجم وسباب فتركتها - قلت له لا عليك يا محمود - انه اعلام الجهالة والتجهيل أصاب الجميع.
طرائف فى حياة الفنان:
فى معرض سنوى تقيمه الجبهة الشعبية فى دولة أوربية طلب الفنان أن يكون له جناح لعرض لوحاته - وبعد تسويف وافقت ادارة المهرجان بشروط منها أن يكون جناحه فى آخر المعرض بحيث يصل الزائر الى المعرض الى جناح (دبروم) بعد أن يكون قد صرف كل النقود التى معه ولا يجد ما يشترى به من لوحات الفنان! ولكن النوايا الطيبة تهزم المخطط الشرير - افتتح بعضهم (كشك) صرافة فى آخر المعرض لتبديل النقود للقادمين من اوربا - فكان هؤلاء يقفون أول ما يقفون فى جناح الفنان (دبروم).
وباع كل لوحاته! طرفة أخرى: من عادته انه يوقع على لوحاته بالحرف الأول من اسمه (م) ويكتب اسم الأب كاملا (دبروم) - حدث مرة ان أحد أصدقائه التقى ببعض المعجبين بالفنان دبروم ولكنهم لا يعرفون من هو ومن أين هو؟ بدأ هؤلاء فى الأجتهاد لمعرفة اسمه - قال الأول ربما كان اسمه محارى ؟ ولكن الثانى قال ربما كان مكئيل؟ انفجر صديق الفنان غاضبا وقال لهم: ألا يخطر ببالكم اسماء مثل محمد ومحمود وكلها تبدأ بنفس الحرف؟ أم أن هؤلاء القوم لا يبدعون؟ لعلمكم اسمه محمود.
محمود كررها ثلاثة مرات ثم ذهب الى صديقه الفنان وقال له أرجوك أن تكتب اسمك كاملا بعد اليوم - أنت تعيش فى مجتمع جيناته مبرمجة وذاكرته مركبة على الوراثة والموروث!.
تلك لمحات عابرة من حياة الفنان - ولكن لوحاته تحكى قصة شعب بأسره يبحث عن مكان له تحت الشمس ويبحث عن الفرح فى ركام الحزن والسعادة من خلف أسوار الشقاء.