التقـرايـت الأصل والـتطور
بقلم الأستاذة: اميرة ابايزيد حسن
أصل التقرايت او لغة التقرى كما نجد فى كثير من المصادر والمراجع هى لغة "الجئز"
او "الجعيـز" او "القئز" والتى هى لغة سبئية نسبتاً الى "مملكة سبأ" القديمة فى جنوب الجزيرة العربية فى ما هو اليوم الجمهورية العربية اليمنية، وتنتمى الجئز الى مجموعة اللغات السامية الجنوبية. ويعرف الكثير عن مملكة سبأ و "يعتبر مجتمع سبأ واحداً من أكبر أربع حضارات عاشت في جنوبي الجزيرة العربية أسسوا مجتمعهم ما بين 1000-750 550 الميلاد بسبب الهجمات التي دامت قرنين والتي كانوا يتعرضون لها من جانب الفرس والعرب". (1)
وقد هاجرا السبئيون الى السواحل الأفريقية قبل حوالى خمسة قرون قبل ميلاد المسيح، ويروى بعض المؤارخون ان هجرة السبئين الى السواحل الأفريقية تلت كارثة إنهيار سد مأرب والتى تلاها المجاعة والقحط وشح فى المياه ادت الى نزوح السكان من ديارهم شمالا ً الى بلاد العرب وشرقاُ عبر البحر الى أفريقيا حيث تمازجو مع السكان الأصلين، ومن هذا التمازج نمت حضارة ما يعرف بـ "بلاد الحبشة" فى ما هو اليوم شمال أثيوبيا وارتريا و السودان "من بين المساهمات الكثيرة التى قدمها المهاجرون الوافدون من اليمن ﻹفريقيا لغة سبأ التى عرفت فى الحبشة بأسم جعيز نسبة الى القبيلة التى كانت تتخاطب بها ويبدو ان عمر الجعيز كلغة تخاطب كان قصيراً نسبياً، إذ اختفت كلغة حية فى حدود 1000 بقيت لغة الأدب والطقوس الدينية فى الحبشة الى يومنا هذا والجعيز أم اللغات الرئيسية الثلاث ا لتى يتخاطب بها اليوم فى الحبشة و إريتريا، والسودان، وهى التجرنية، والتجرية، والأمهرية" (2)
و نجد فى موسوعة ويكيبيديا الحرة التالى بما يخص اللغة السبئية: "اللغة السبئية لغة يمنية قديمة منطوقة في اليمن استمرت منذ الالفية الثانية قبل الميلاد إلى عام 800 ق.م، وكانت تكتب في الخط المسندي، وهي لغة قوم سبأ المعروفين وموجود عدد من كلماتها في القرأن. إستعملت في إثيوبيا في القرن الثامن قبل الميلاد وتنحدر منها اللغة الغجرية والامهرية في إثيوبيا، وهناك أدلة اثرية كتابية مكتشفة حديثأ توكد أن اللغة السبئية كانت تنطق في إثيوبيا وأرتيريا منذ 2000". (3)
وليس معروف من هذا الكلام إذا كان المقصود من اللغة السبئية لغة الجئز ولكن على الأرجح ان المقصود هو لغة الجئز لأنه يقول: أن اللغة السبئية كانت تنطق في إثيوبيا وأرتيريا منذ 2000 "وكما هو معروف ان لغة الجئز كانت منطوقة فى أثيوبيا وإرتريا ولا زالت تستعمل فى الطقوس الدينية فى الكنائس الأثيوبية واﻹرترية ألأرثدوكسية، وان الأنجيل بعهديه القديم والجديد مكتوب بلغة الجئز وكذالك كتب دينية أخرى مثل الـ "فكارى إيسوس" و"وداسى ماريام" و "مزمورى داويت" وغيرهم من الكتب الدينية الأخرى فى الكنيسة الحبشية. وتنتمى لغة الجئز مثل اللغة العربية الى اللغات السامية الأخرى مثل لغات حضارة الهلال الخصيب القديمة (الأكادية) والكنعانية والعبرية والآرامية واللغات العربية الجنوبية. (3) ومن لغة الجئز إنحدرت اللغات الأرترية والأثيوبية: التقرايت، والدهلكية، والتقرنية فى الشمال والأمهرية، والهررية، والقراقية، وألأرقوبية، والقافاتية (لغة مندثرة) فى الجنوب، وتعد لغة التقرى الأقرب الى لغة الجئز فى كلماتها وتركيبها اللغوى من بين اللغات الأخرى مثل الأمهرية والتقرنية والقراقية.
بينما بقيت اللغات الحبشية مثل الأمهرية والقراقية والتقرنية معزولة فى هضبة الحبشية إنطلقت التقرايت الى فضاء اوسع وأرحب مع إنتشار الأسلام بين الناطيقين بها فى فجر الأسلام وأمتزاجها باللغة العربية، ومن جراء ذالك التمازج إكتسبت التقرايت من التطور ما فات على اللغات الأخرى المنحدرة من لغة الجئز حيث إكتسبت قوة المعنى و جمال التعبير وروعة التصوير ونتج عن ذالك تراث غنى و "..هذا التراث وجمال لغة (التجري)، نابع من أصولها الحضارية العربية وهي من اللغات الجئزية السامية القديمة الأصيلة، وتكتسب كل هذا التماسك اللغوي والتعبير الأخاذ في شعرها وتنوعها من انتمائها للتراث العربي.." كما كتب الأخ محمد عثمان على خير. (4)
هذا االتمازج مع اللغة العربية نجده كذالك بدرجات متفاوت فى لغات أخرى لشعوب مسلمة مثل الساهوية والعفرية والدهلكية والتقرنية كما يتكلمها أهلنا الجبرتا والصومالية والسواحلية والهررية والهاوسا والولف والفولانى فى أفريقيا والفارسية والبشتونية والأردو فى أسيا مثلا ً، إلا َّ ان مدى إمتزاج التقرايت باللغة العربية يكون الأكثر عمقا نسباً لأصول التقرايت السامية وتقارب الناطقين بالتقرايت جغرافيا من الجزيرة العربية وجيرتهم للسودان وروابط العقيدة والدين التى تربطهم بالعرب وباللغة العربية. فمثلا ان حوالى الثلث من مفردات وكلمات التقرايت موروث من اللغة العربية كما نرى فى هذه القصيدة الشعرية الماخوذة من كتاب "إينو ليتمان " و التى قالها شاعر التقرى "سلطان ود حامد" من قبيلة عد تماريام فى عتاب لأصدقائه واقرانه الذين لم يدعوه الى مجلسهم لمشاركتهم شرب القهوة وهذا يعتبر عيب كبير فى العرف البلدى، (الأصل مكتوب بأحرف الجئز نقله الى الأبجدية العربية جلال إبراهيم): (5)
حَمَّدْكـُوكـَا إلهى، وَهَـا تـُو جلا َّ جلالـُو
قـَلِى ظِقـُوبْ ودِِّيُـو، إبْ أرْزَاقـُو وَ مَالـُو
وقلى دِبـُورْ وَدِّيُـو، فـَلِـيـلا َيْ ظـَعْـدَا أظـْفـَارُو
وقلى فـَدَابْ وديـو، إتْ كـَبَاكِبْ أقـَّارُو
وقلى حَوَانْ وديـو، نـَسُّؤ مِنـُُّو دِرَارُو
وقلى مايت وديـو، أكـَفـِّنْ تـُو لأدَّالـُو
قلى حي وديـو، قـَنـَادَالـُو وَ بَهَالـُو
أمْعِلْ مَـنـَا مُولا َيـِّى، مِـنـَّا نـُورْ لأنـْوَارُو
ولا َلِى منا مولايى، عِـنـْتـَاتْ لإقل عَاوَارُو
وجـَنـَّة منا مولايى، مِـنـَّا سِرْ لأسْرَارُو
وإسَاتْ منا مولايى، إقِـلْ لا َإكـُويْ عَامَالـُو
وربِّى أمْـرَنـَا، وَ أدَامْ بَعَلْ لا َإيمَانـُو
حِـنـَا مَا ربِّى تـُو هَـيْبَنـَّا، مِلـُؤْ هَـلا َّ أكـْزَانـُو
لا َإت فـَتـِّـيـُو أبـِّيكـَّا، إنـْتـَا مَا تـْوَدِى أكـَانـُو
لا َإت تـَهْيـبـُّو كـَلأكـَا، كِلْ وُرُو لِـوْعِلْ إبْ مَالـُو
مِنـْدِى نـَهَـرْسَكـَّا، فِـظـَعْ وُ كِـبـُودْ قِـسَانـُو
سِكـَابْ لا َلِى كـَلـْئِينـَّا، عـَقـَمْبـِسْـتـَا لا َجَارْجَارُو
أنـا فـَاظِعْ تـْمَـيـِكـُو، وَ أدَّامْ بـِعِـدْ إىْ فـَالـُو
أبَّـرَا أبـُوك، قِـيسَا إبَّـا دِنـَانـُو
قـَتـْلـَوُ أبـوك، كِـلـُّو سَعَـيـُو طِـرْعـَانـُو
شَغـَّالا َ قـَتـْلـَتـُو، أدَّامْ مَا مِـنـَّا حَـوَانـُو
نجد ان عدد المفرادات و الكلمات الموروثة من اللغة العربية فى هذه القصيدة القديمة يصل الى حوالى 40 كلمة من أصل 120 كلمة وهذا يساوى حوالى الثلث وعليه ان تأثير اللغة العربية على التقرايت هو تأثير واسع و شامل وعميق.
إن تأثير اللغة العربية على التقرايت ليس محسورا فى الكلمة المنطوقة فقط بل وتعداها الى الكلمة المكتوبة حيث يوأكد ذالك الدكتور جلال الدين محمد صالح ".. لقد عبرت التجري عن ذاتها بالحرف العربي لاعتبارات عدة، وأصبح الناطقون بالتجري بحكم العقيدة والشعور بأحاسيس الانتماء العربي وجدانيا، واقتصاديا، وجغرافيا، ألصق الناس بالحرف العربي، يتلون به كتاب الله، ويدرسونه في الخلاوي القرآنية، منذ نعومة أظفارهم، بل ويكتبون به لغتهم التجري، إذا ما أرادوا التخاطب بها في مراسلاتهم..". (6)
وفى نفس المقال ينقل لنا كذالك الدكتور جلال الدين ما كتبه الكاتب السودانى ضرار صالح ضرار "أن الحرف العربي هو الذي كان معتمدا في كتابة لغة التجري أيام الحكم العثماني، أو المصري الخديوي، أو الإيطالي، وكانت تصل الرسائل من مصوع إلى بورتسودان، وسواكن، وعقيق، فيقرؤونها بسهولة... فعرفوا الأحرف العربية، وأخذوا يستعملونها في كتابة هذه اللغات السامية". (7) وهذا خير دليل لأثبات ان التقرايت لغة مكتوبة ليست لهجة مبتورة الجزور.
ولكن بالرغم من هذا التقارب مع اللغة العربية والتى يُجيدها جل الناطقين بالتقرايت إلا َّ ان التقرايت لم تستفيد من ذالك التمازج والتقارب مع اللغة العربية بالدرجة المرجوة، ولم تتطور كلغة مكتوبة الى درجة انها أصبحت اليوم لغة مهمشة وفى درجة متدنية من التطور حتى مقارنتا بالتقرنية، والتى لم يكن لها فى يوم من الأيام صند مثل ما كانت اللغة العربية بالنسبة للتقرايت. وقد كان ممكنا ان نحتفظ بالتقرايت واللغة العربية فى أن واحد لو كنا كتبنا التقرايت بالأبجدية العربية كما فعلو أجدادنا فى العهد العثمانى والمصرى لأنه ليس هناك عداء ثقافى او حضارى بين الناطقين بالتقرايت والشعوب العربية او بين التقريت واللغة العربية، بل و بالعكس أن التقرايت تكون المستفيدة من مثل ذالك التمازج كما أثبت تأريخها وتطورها عبر القرون.
قال شاعر فلسطين والعرب المرحوم محمود درويش الذى فارق هذه الفانية الى دار الخلد قبل أسبوعين فى تقديمه لـ "جِدَاريَّة محمود درويش" "لقد استبدا بى هاجس النهاية منذ أدركت أن الموت النهائي هو موت اللغة إذ خُيـِّل الـَّي بفعل التجدير أننى أعرف الكلمات، و أعجز عن النطق بها فكتبت على ورق الطبيب.. لقد فقدت اللغة أي لم يبقى مني شئ.." (9،8)
قال رحمه الله هذا الكلام فى مقام الفرد ولكن هذه حقيقة تمتد الى الشعوب كذالك، وان الشعوب مثل الفرد تموت عندما تموت لغتها لأن اللغة هى وجدان الشعوب والوعاء التى تحفظ فيه إرثها وثقافتها والذاكرة التى تدون فيها تأريخها، وان الشعوب التى تنسى وتقتل لغتها عن وعى او بدون قصد تموت موتا بطيئا وتذوب تدريجيا فى كيان الشعوب المجاورة وتفقد المقومات التى تجعلها أمة مستقلة، وإن ما أشارا اليه الأخ محمد إدريس مسمر فى مقاله السابق عندما قال "لاحظتُ شخصياً اللكنة الغريبة التي نشأت في المنخفضات الإرترية مع الجيل الصاعد خلال العقدين الماضيين خلافاً لما عهدناه" (10) ربما يكون البداية لهذا الزوبان فى ثقافة ولغة غير ثقافتهم وغير لغتهم، وان اللغة التى لا تـُكتب نهايتها المحتومة هى الأندثار والأنقراض وهذا ما قد يحصل للتقرايت على المدى البعيد إذا لم نتدارك الأمور ونجعلها لغة مكتوبة بالأبجدية العربية التى يفهمها جل الناطقين بها.. إذن
الخيار خيارنا وكما يقولو أهلنا "أرْويكـَا دِيبْ حَـنْـتِـيـكـَا، ومُورَاكـَا دِيبْ إدِيـكـَا".