تحديات وآفاق الثقافة العربية في إرتريا
بقلم الأستاذ: ياسين محمد عبدالله - مدير مركز "سويرا" لحقوق الانسان
انه لمن المفارقات المدهشة أن يكون النزوع الي الارتباط بالعرب وبثقافتهم أهم ملهم للنضال
الوطني الارتري ثم تتأسس الدولة وليدة هذا النضال علي معاداة العرب وكل مايمت اليهم بصلة. غير أن هذه المفارقة لم تكن وليدة يوم الاستقلال انما نتجت عن هواجس دينية وثقافية قديمة حركتها العوامل النفسية أكثر مما فعلت الأسباب الواقعية، فالارتريون وان كانوا ينتمون لثقافات متعددة فان جذور أغلبهم ترجع لمنبع واحد وهو الجزيرة العربية التي هاجروا منها قبل الميلاد. وقد أدت الهجرات اللاحقة بعد الإسلام إلي اعادة تجديد الروابط الثقافية القديمة لسكان ارتريا مع جذورهم العربية وفي ربطهم بالحضارة العربية ـ الإسلامية. لكن بعضهم ظل علي الروابط القديمة التي صارت هي نفسها تتفتت بفعل الانقطاع المكاني وترسبات الصراعات الدينية في المنطقة.
ان جزءاً كبيراً من ارتريا يقع في المنطقة المعروفة تأريخياً باسم الحبشة، وتمثل ارتريا نقطة تماس بين الحضارتين العربية الإسلامية والحبشية الارثوذوكسية، وقد أسهم النضال الوطني الارتري الذي فجره المسلمون الارتريون المنتمون للثقافة العربية وموقف العرب الداعم لهذا النضال في اثارة الحساسيات القديمة بين الاحباش والعرب، من خلال تركيز الحكومات الاثيوبية المتعاقبة علي اتهام العرب بمحاولة اقتطاع جزء من أراضيها بدعمهم للثورة الارترية، وهو بكل أسف ما كان يتأثر به بعض الارتريين الذين ينتمون للثقافة التقرينية أيضاً. وكان يفترض في استقلال ارتريا وقبله الثورة الارترية ان يضعا حداً لسوء التفاهم هذا لولا سيطرة التيار المتأثر بنفس تلك الحساسيات علي الثورة في السنوات العشر الأخيرة من عمرها وعلي مقاليد الأمور في ارتريا اليوم وتعامله مع العرب بنفس الذهنية المتوجسة وسعيه المستمر لتكريس القطيعة مع العرب، وتفريغ المشروع الوطني الارتري من أهم أجندته.
ان الثقافة العربية في ارتريا ثقافة أصيلة وعميقة الجذور ومع ذلك يرفض النظام الاعتراف بها ويضع العراقيل امام تطورها متبنياً نفس السياسات الاثيوبية تجاهها. وتتضح السياسة المعادية للثقافة العربية في ارتريا اكثر ما تتضح في ثلاث قضايا مركزية هي: اللغة الرسمية للدولة، التعليم وعلاقة ارتريا بمحيطها العربي.
فبالنسبة للغة الرسمية وبخلاف ما كان عليه الامر في فترة الحكم الذاتي في اطار الاتحاد الفيدرالي مع اثيوبيا ـ حيث اعتبرت العربية والتقرينية لغتين رسميتين لارتريا ـ يعتمد النظام اليوم التقرينية لوحدها في التعاملات الحكومية وبالاطلاع علي الدستور الجديد والخالي من أي نص بخصوص اللغة الرسمية لارتريا، مما يعني تكريس الامر الواقع، يتضح تماماً اصرار النظام علي استمرار هذا الوضع غير العادل. وفي مجال التعليم يضع النظام العراقيل امام التعليم باللغة العربية ويفرض التعليم باللغات المحلية في مناطق كثيرة في ارتريا، ضد رغبة السكان المنتمين للثقافة العربية. اما علاقته مع العرب فهي استفزازية وعدائية حيث تتفاوت علاقته بجيرانه العرب من التوتر الي التحرش والحرب، في الوقت الذي يقيم فيه أقوي الروابط مع اسرائيل بهدف عزل ارتريا عن محيطها العربي ومن أجل تسهيل تنفيذ مشروع تقرنة المجتمع الارتري.
ان رفض الاعتراف بالثقافة العربية في ارتريا يشكل أكبر تهديد للوحدة الوطنية الارترية إذ يكرس عدم المساواة بين المسلمين والمسيحيين وبين المنتمين للثقافة العربية والمنتمين للثقافة التقرينية. والسؤال الذي يتبادر إلي الذهن في هذه الحالة هو: ماهي مصلحة نظام وطني في تبني سياسة تضر بوحدة شعبه وضد رغبات وتطلعات أغلبية هذا الشعب؟ فحتي اسرائيل التي يعجب بها النظام ويسعي الي تقليدها في كل شيئ تعتبر اللغة العربية لغة رسمية بجانب العبرية، وقد اتخذت أخيراً قراراً بجعل تعليم اللغة العربية الزامياً في المدارس الاسرائيلية كما تعمل بكل ما تستطيع لكسر الطوق العربي من حولها. إننا لاندعو النظام الارتري إلي تقليد اسرائيل (وهو لا يحتاج لمثل هذه الدعوة) لكننا نود ان نقول له ان حساباته خاطئة حتي بالاستناد إلي نموذجه المفضل. فالثقافة العربية التي يحاربها النظام ليست فقط ثقافة أصيلة ارترياً بل هي أيضاً ثقافة عالمية ولها أدوات تمكنها من تجاوز كل حدود فكيف يمكن للنظام طمسها في بلد يرتبط اغلب سكانه بها ويقع داخل مجالها الجغرافي؟.
ان اكبر تحدٍ يواجه الثقافة العربية في ارتريا اليوم هو تحدٍ سياسي بالدرجة الأولي وهو تحدٍ خطير تتعلق به أهم حقوق المواطنة وترتبط به الي حد بعيد فرص استقرار وتطور ارتريا. فقد خاض المنتمون للثقافة العربية النضال من أجل الاستقلال الوطني للمحافظة علي خصوصيتهم الثقافية وروابطهم بمحيطهم وبرفض النظام لتلك الخصوصية وهذه الروابط فانه يكون قد وضع نفسه في تحدٍ سافر مع تطلعاتهم ومهين لنضالاتهم.
وتواجه الثقافة العربية في ارتريا تحديات أخري غير تلك السياسية التي تم التركيز عليها في هذه الدراسة مثل افتقاد المنتمين إليها إلي منابر الحوار والتواصل وغياب دور النشر التي تهتم بنشر النتاج الثقافي الارتري وغياب الصحف والمجلات ماعدا نشرات متقطعة الصدور تصدرها المنظمات السياسية وهي ذات اهتمامات محددة وغير معنية بالقضايا الثقافية، وقد تم التركيز علي الجانب السياسي في التحديات التي تواجه الثقافة العربية في ارتريا لأن أغلب التحديات الأخري انما ترتبط الي حد بعيد بهذا التحدي. فالصراع الثقافي هو جزء من صراع الهوية الدائر في ارتريا اليوم والذي فجره النظام الحاكم من خلال سعيه إلي فرض هوية واحدة علي الشعب الارتري، موظفاً كل امكانات الدولة في سبيل ذلك.
ان سياسة الحكومة الارترية الحالية تحرم المنتمين للثقافة العربية من امتلاك الأدوات الضرورية لتطوير حياتهم الثقافية وهي تنحاز ضد المنتمين إلي هذه الثقافة في المجالات كافةً. وباقرار الدستور الذي جاء خالياً من أية اشارة إلي اللغة الرسمية للدولة يؤكد النظام بأنه سيسير في اتجاه تهميش دور الثقافة العربية في ارتريا مما ستكون له انعكاسات سلبية علي علاقات أرتريا بمحيطها العربي. ومع ذلك فإن الثقافة العربية في ارتريا لن تقتلع فهي تمتلك مقومات افرزتها اواصر الجغرافيا والتأريخ وفوق ذلك فهي ثقافة ترتبط بوجدان الناس واصالتهم.