لوحات إريترية التِقرنجية شوايقة إريتريا
بقلم الأستاذ: سيف اليزل سعد عمر المصدر: سودانيز اون لاين
لستُ هنا بصدد إثبات علاقة بين الشايقية والتنقرنجية على الرغم من إحتمال وجودها بالتنقيب وبصورة علمية
فى تأريخ حضارات كوش والنوبة وأكسوم الضاربة فى جذور التأريخ. فشلُوخ التقرنجية فى الصدغ أصغر حجما من شلوخ الشوايقة فى الجِضُوم. وإذا كانت هناك قبيلة تُشابه شُلُوخِها شلوخ الشوايقة فهي قبيلة (الكَرايُو) ذات الأصول الكُوشية التى تسكن وادى أواش شرق الهضبة الحبشية. وإذا كان هناك تشابه فهو تشابه إيقاعات الشايقية بالطنبور والدلوكة مع إيقاعات التقرينجية بالكِرار (الطنبور) والكبرو (الدلوكة) بالإضافة لإفتتاحية الإغنية بالرمية (الله لى يا الله) عند الشوايقة و (اللالوى) عند التقرينجية.
لإريتريا تسعة قوميات أو مجموعات عرقية هي: الحدارب، التِقرِي، التِقرنجية، الساهُو، العَفر، الرّشايدة، النَارَا، الكُنامٓة والبِلين. كل من هذه القوميات التسعة لها لغتها الخاصة بها، هذه اللغات أُصولها إما فى اللغات النِّيلية أو الحامية أو السامية.
أكبر هذه القوميات عددا هى قومية التِقرينجية. لابد فى زمن التعقيدات الإجتماعية هذا وصراعات الهوية، من توضيح أو التعريف بقوميات (التِقراى) و (التِقرِنجيّة) و (التِقِري) فهناك الكثير مما يجمع بينها وهناك أيضا ما يميزهم من بعضهم البعض ومن بقية قوميات إرتيريا أو أثيوبيا أو السودان. المجموعة القومية التى تسكن شمال إثيوبيا وجنوب إريتريا فى مرتفعاتها الجبلية هى قومية (التِقراى).
هذه القومية فى البلدين تتحدث لغة واحدة إسمها (التقرنجية). لأسباب سياسية بحتة وبسبب النزاع الإثيوبي الإريتري وبسبب الحدود السياسية التى قسمت هذه القومية، إختارت المجموعة فى الجانب الإيرتري إسم اللغة (تقرنجية) كإسم (إثنى) لها فى إرتريا، واحتفظت مجموعة إثيوبيا بإسم (التِقراى) والفرد منهم يعرف نفسه بأنه (تِقراوى) ومركز حاضرتهم هى مدينة مغلى. تِقراى الجانب الإثيوبى لا يمانعون أن يُطلق عليهم إسم (حَبشَةَ) بينما تقرنجية إريتريا لا يُحبذون إسم (حبشة) بإعتبار الأحباش جزء من دولة حاربُوها وحاربتهم لسنوات عديدة ولازالت هذه الحَرابة مُستمرة. فالجبرتة مثلا (ناطقين بالتقرينجية) يدين غالبيتهم بالإسلام ولا يحبذون أن يطلق عليهم إسم (حبشة) أو تقرينجية. مجموعات صغيرة منهم ليس لديها إعتراض على تعريف أنفسهم بأنهم تِقراى.
موضوع التقرنجية ليس بهذه البساطة فى الجانب الإريتري، فليس كل الذين يتحدثون التقرنجية هم تقراى ومنهم من يريد أن يُعّرف بإسم قبيلته كالجبرتة والعقامى مثلا. أما التِقرى فهم سكان المنخفضات الإريترية وحتى أجزاء من مناطق شرق السودان ويتحدثون لغة التِقري. أي أنهم مثل التِقرنجية إسم القومية يطابق إسم اللغة. لغة التقري هي بنت عم لغة التقرينجية فأصل اللغتين هي اللغة القئزية. سنفرد مقالا منفصلا لقومية التِقري فى القريب العاجل. بالنسبة لقومية التِقرى فإنهم يعتبرون كل التِقراى، حتى التقرينجية منهم، يعتبرونهم (حبشة). فإذا وصفوا مواطن إريتري أو مواطنة إريترية بأنه (حبشتايتو أو حبشتايتا) فيعنون مواطن أو مواطنة من قومية التيقرنجية فى الغالب الأعم مسيحى / مسيحية الديانة.
ما يُعقد الأمر لهذه القوميات المتواجدة فى السودان أنهم .جميعا فى نظر الغالبية العظمى من السودانيين أنهم (حبشة، حبشي أو حبشية). وهو ما لا يقبله الغالبية العظمى من التقري والتِقرِنجيّة . وهو ما يؤدي إلي خلافات، خاصة بين مجموعات التقري التى قسمتها الحدود بين السودان والدولتين الجارتين. إطلاق كلمة حبشى على هذه القوميات هو فى الواقع عدم معرفة بالكثير من تفاصيل الديانة والقبيلة والهوية ولجذور الصراع السياسي فى هذه المنطقة. هذا لا ينفى أيضا إن إطلاق كلمة حبشة إذا تطابقت مع أصلها تجد قبولا واسعا من سكان إثيوبيا.
إشتهر المطبخ الإثيوإرتيري عالميا بوجبة الزِغنِى مع الإنجيرا. وقمة الكرم التِقراوى أن يقدم لك وجبة زغنى الدجاج بكامل تقوصه. وهى أن تقطع أجزاء الدجاجة إلي إثنى عشرة قطعة متساوية مع إثنتا عشرة بيضة مسلوقة داخل ملاح الزغنى. سِر تطبيخ الزغنى يكمن فى تحمير البصل مع السمن وبهار البربري الحار لمدة لا تقل عن ساعة، بعدها يُضاف الماء والدجاج ثم فى مرحلة أخيرة يضاف البيض المسلوق. هناك طريقة محددة لأكل الزغنى أخذت منى وقت طويلا قبل أن أتعرف عليها. فالتقراي والتِقرِنجيّة والتقري لايأكلون الإنجيرا بالطريقة التى نأكل (نحن السودانيون) بها الكِسرة. إنهم يأكلون الإنجيرا بهدوء يبدأ من أطراف الصحن او الصينية ثم قليلا قليلا إلي الوسط. يقطعون قطعة صغيرة من أطراف الإنجيرا ثم يمسحونها مسحا خفيفا على ملاح الإنجيرا. أكل الأنجيرا فرصة لإظهار الحب للطرف الآخر إن كانت زوجتك أو شقيقتك أو أحد والديك أو صديقك عن طريق إطعام الآخر من لقمة فيها قطعة من لحم الدجاج وبعض من البيض المسلوق. عملية تخمي الأنجيرا مع إضافة الحلبة المطحونة ورائحة البربري تعطي تكسب بيوت التقرينجية رائحة مميزة.
الجبنة أهم من الأكل عند التِقراي والتقرينجية والتقري والغالبية العظمى من القوميات الإثيوإرترية. شراب الجبنة عادة قديمة ومتأصلة عند هذه القوميات. وهى فى الحقيقة أكبر من رشفات فنجان القهوة فى لحظات مرورها بعصب الاحساس فى الفم. شراب الجبنة عند التقرينجية وغيرهم هو أحاسيس وشعور يصعب وصفه مهما فصلنا فى الشرح والبحث. كيف لا والقهوة موطنها وأصلها وثقاتها هى الهضبة الحبشية وما تفرع منها من حضارات وقوميات. للجبنة عند هذه القوميات تقُوص وطرائق و قوانين غير مكتوبة تجعل من شرابها متعة هى جزء من حياة التقرنجية وغيرهم من القوميات الإيثيوإرترية. فالجبنة تكاد تكون مرادفة للإعتقاد خاصة وأنها فى مراحل تطورها مرت بدور الديانة وقصور الأمراء لذلك هناك طقوس محددة لشرابها. تبدأ هذه الطقوس بإرتداء المرأة لملابس أفضل حالا مما كانت تلبسه فى ذلك اليوم بعد يوم عمل شاق فى البيت.
ثم تبدأ فى تهيئة مكان إعداد القهوة والذي عادة ما يتم أمام الضيوف وليس فى التُكُلْ (المطبخ). تُغَطَي الارض بحشائش و أوراق الشجر الخضراء و الزهور. بالعدم يتم فرش قطعة كبيرة مطرزة او منقوشة من أي مادة كانت ليوضع عليه كانون الفحم. يُطلق البخور الحبشي لطرد (الأرواح الشيطانية) طيلة فترة شراب الجبنة. ثم يتم تنقية حبات البن الأخضر بعناية وغسلها جيدا بالماء ثم يقلي (يحمص) أمام الضيوف بينما ينتشر دخان البن وسط الحضور برائحته المزاجية المعروفة.
تنتهى عملية القلي بوضع البن فى هبابة ثم الطواف بها أمام كل الحاضرين بداية من الأكبر سنا لإستنشاق رائحة القهوة بعدها يتم سحن البن و يغلى مباشرة فى جبنة الفخار مع إضافة الزنجبيل حسب المزاج. تُصب القهوة فى الفناجين من صبة واحدة غير منقطعة بمهارة عالية. ثم تقدم للحضور مع فيشار الذرة الشامية أو البلح أو الحمباشة (نوع من معجنات التِقرنجية). من الضروري جدا أن تُشكرَ التى أعدتْ القهوة بأن تقول لها: طُعُمْ بنُ. ترد هي عليك داعية الرب أن يعطيك كل ماهو طاعم: طُعم يهبكُم.
فى تلك الجلسة لابد من شراب القهوة ثلاث مرات: الأبول، ألتون والبركة (بالأمحراوية)، فى السودان (البكر ثم التنى والبركة)، بالتِقري (أوَّل، دِقّم، ثالساي وبركتْ). حديثا كشفت إحدي الوثائق^ التى كتبت بالقئزية أن هذه الإسماء الثلاث كانت لثلاثة من الملوك فى طريقهم إلى أورشليم القدس. كانوا خلال رحلتهم هذه يشربون الجبنة لتساعدهم على السهر. و عادة شراب القهوة ثلاث مرات ماهي إلا عادة لتخليد ذكراهم.
من أميز مظاهر وملامح نساء التقرنيجية التى تميزهم عن بقية الإريتريات من القوميات الأخري هى طريقة تسريح الشعر (المُشاط) وطريقة اللبس. هناك أشكال مختلفة للمشاط عند التنقرنجية الخلاف الرئيسي بينه وبين مشاط الشايقية هو أنه يبدأ من أمام الرأس وتنتهي الضفائر فى الخلف عند بداية الرقبة ثم يترك بقية الشعر مفرودا دون تضفير. بينما مُشاط الشايقية يبدأ من أعلي منتصف الرأس فى شكل ضفائر صغيرة حتى نهاية الشعر مُنسدِلة علي الجانب الأيمن والأيسر للمرأة.
أما اللبس التقليدي فهى فساتين الزوريا القطنية مع تطريز ملون يبدأ من الرقبة مرورا بالصدر ينتهى عند الساقين بعلامة الصليب. نفس طريقة التطريز هذه تنتهي بها أكمام الفستان الطويلة. لايوجد فرق كبير بين نساء ورجال التِقرنجية فى طريقة الرقص. يختلط النساء مع الرجال فى حلبة الرقص الدائرية، توضع راحة اليدين أو أطراف الأصابع فى أعلى الفخذين مع إنفراج خفيف لليدين عند الكوع إلى الخارج، ثم التقدم خطوة واحدة للأمام ووضع القدم الثانية مكان الخطوة الأولي فى تناغم مع إيقاعات الدلوكة (الكبرو) ومع كل خطوة إستدارة خفيفة جدا للكتف إتجاه اليسار ومرة أخري إتجاه اليمين. عند لحظات تسارع إيقاعات الكبرو تتوقف الدائرة عن الدوران ويتواصل الرقيص ثنائيا او ثلاثيا مع إهتزاز الكتفين والرقبة.
قومية التِقرنجية هى أكبر القوميات الإثنية فى إريتريا وهى التى تسيطر على الجزء الأكبر من مفاصيل السلطة فى إرتيريا. إِتحَدُوا فى لحظة تاريخية مع تِقراي إثيوبيا بقيادة الراحل ملس زيناوي وأسقطوا نظام منقستو هيلى مريام فى أديس أبابا. يتهمهم البعض بممارسة الإستعلاء العرقي تجاه القوميات الإريترية الأخري. لا أريد الدخول فى نقاش هذا الموضوع لانه يحمل مضامين سياسية وتفاصيل معقدة ليست من هدف هذا المقال. إلا إننى أستطيع ان أقول أن قومية التقرنجية كغيرها من قوميات إريتريا تعتز جدا بثقافاتها ومورثاتها أحيانا يصل لمرحلة التعصب. فى إحتفالات التِقرنجية الإجتماعية الخاصة نادرا جدا إتاحة فرصة لأغانى التقري أو أغانى من أي قومية أخري. ففى فترة من فترات النزاع الإريتري مع إثيوبيا والسودان مُنعت الأجهزة الإعلامية فى أسمرا من بث الأغانى الأمهراوية والسودانية. تفاصيل اكثر حول هذا الموضوع تجدونها فى مقال سابق بعنوان "فيامتا: أغنية تثير حربا كلامية بين إثيوبيا وإريتريا".
هذه لوحات من لوحات إريترية لواحدة من أكبر وأعرق القوميات الإريترية شكلتها تداخلات التاريخ والسياسة والتداخلات الإجتماعية.
هوامش:
شلوخ التقرينجية هى فى الوقع فصدات صغيرة تُفصد عند الصدغ أو نهاية الحاجب أو فوق جفن العين العلوى.
يهبكُم: صيغة إحترام ما تستخدم دائماً لدي التِقرنجية مفردها يهبكا. والأصل العربي فيها واضح وتعنى يعطيكم او يعطيك.
الكريسماس ونظام التقويم الإثيوبي - فينتاهون ترونيه - مكتبة الكونجرس الأمريكي.