الفنان الإرتري إبراهيم فانوس ورفاقه وأغنية (أسناي رئينا وتالينا) للفنان إدريس محمد علي
بقلم الأستاذ: يبات على فايد - شاعر وكاتب وناقد
شكر: أكتب هذه المقالة صعودا إلى رغبة حسناء، ودَّتْ لو أني أكتب عن هذه الأغنية إعجابا بها،
وهأنذا أستجيب محبة شاكرًا لها هذا الإحساس الجميل بقوت الأسماع.
استهلال - الغناء قوت الآذان:
لعل خير ما أستهل به هذه المقالة لأولئك الذي قد لا يعرفون المعاني، ويطربون لطرب المؤدي، وأصيحابه في هذه الفرقة الجميلة، هو ما حُكي عن التلذذ بالسماع من غير ما فهم للمفردات ومعانها، تماهيا روحيا مع إحساس المؤدي، وشعوره بما هو قائله، إضافة إلى التلذذ بسماع الموسيقى، تلك اللغة المشتركة بين جميع العالمين أقول:
مما يحكي أبوبكر الصولي في كتابه أخبار أبي تمام، أن أبا تمام هوى مغنية فارسية التقاها في مدينة "أبْرِشَهْر" تغني بالفارسية فقال فيها:
أَيَا سَهَرِي بَليْلةِ أَبْرَشَهْرٍ
ذَمَمْتَ إليَّ يَوْماً في سِوَاهَا
شَكَرْتكِ لَيْلةً حسْنَتْ وَطَابَتْ
أَقَامَ سُرُورُهَا ومَضَى كَراهَا
إذَا وَهَدَاتُ أَرْضٍ كانَ فِيهَا
رِضَاكِ فَلاَ تَحِنَّ إلَى رُباهَا
سَمِعْتُ بهَا غِنَاءً كانَ أَحْرَى
بِأَنْ يَقْتَادَ نَفْسِي مِنْ غِنَاهَا
ومُسْمِعَةٍ تَقُوتُ السَّمْعَ حُسْناً
وَلَمْ تُصْمِمْهُ لاَ يُصمْم صَداهَا
مَرَتْ أَوْتَارَهَا فَشَجَتْ وَشَاقَتْ
فَلَوْ يَسْطيعُ سَامِعُهَا فَدَاهَا
وَلَمْ أَفْهَمْ مَعَانيهَا وَلكِنْ
وَرَت كَبِدِي فَلمْ أَجْهَلْ شَجَاهَا
فَبِتُّ كأنَّنِي أَعْمَى مُعَنًّى
يُحِبُّ الغَانِيَاتِ وَمَا يَرَاهَا
وعلى اختلاف الروايات في هذه الأبيات، سأتناول الشاهد، فالشاعر يقول:
ومُسْمِعَةٍ تَقُوتُ السَّمْعَ حُسْناً
وَلَمْ تُصْمِمْهُ لاَ يُصَمْم صَداهَا
أي ربَّ مغنية وهبت الأسماع قوتا، فهو يجعل السماع قوت الأذن، وحاجتها إليه، وإنَّ هذه المغنية إنما تطعم الأذن حسنا، غناءً، وإن صوتها لا يصمم مستمعها، وإنما يغذيه.
ثم يقول:
مَرَتْ أَوْتَارَهَا فَشَجَتْ وَشَاقَتْ
فَلَوْ يَسْطيعُ سَامِعُهَا فَدَاهَا
إن هذه المغنية مسحت على أوتار آلتها، فشجت مستمعها، أي هزته حزنا، وطربا، وأنها أتعبت بغنائها مستمعيها وهزتهم أشواقا، وحنينًا إلى ما شاء الله لهم من الذكريات، ثم إن من يستمع لها لو اسطاع أن يفديها لفداها إعجابا بأدائها، وتعبيرها عن حاجات مستمعها.
ويزيد على ذلك قوله الذي يهمنا في هذه الهنيهة، وهو عدم فهم المعاني مع التجاوب بشجىً:
وَلَمْ أَفْهَمْ مَعَانيهَا وَلكِنْ
وَرَت كَبِدِي فَلمْ أَجْهَلْ شَجَاهَا
يقول إنه لم يفهم معاني مفرداتها، لجهله بلغتها، ولكنها أحرقت كبده، وأنه عرف، وعلم بمدى حزنها، وشجنها، فشاركها شعورها، وبادلها إحساسها.
ويقول ختاما:
فَبِتُّ كأنَّنِي أَعْمَى مُعَنًّى
يُحِبُّ الغَانِيَاتِ وَمَا يَرَاهَا
أي أنه بات ليلته تلك في أبرشهر مستمعا إلى تلكم المغنية كالأعمى الذي أضحى أسير الجميلات المستغنيات بجمالهن عن كل زينة، وإن هذا الأعمى يبذل كل هذا الحب لأولئك الحسناوات رغم عدم رؤيته لهن.
وإنه إنما كان يشير إلى بشار بن برد وقوله:
يا قَوْمِ أُذْنِي لِبَعْضِ الحيِّ عَاشِقَةٌ
والأُذْنُ تَعْشَقُ قَبْلَ العَيْنِ أَحْيَانا
قَالُوا: بِمَنْ لاَ تَرَى تَهْذِي؟ فَقُلتُ لَهُمْ:
الأُذْنُ كاَلْعَيْنِ تُوفي القَلبَ مَا كانَا
الفنان إدريس محمد علي و(أسناي رئينا وتالينا):
الأغنية للفنان الإرتري الكبير، إدريس محمد علي (فك الله أسره) من سجون الطاغية الإرتري إسياس أفورقي، وقد نالت كل استحسان بوقتها وما تزال، وهي تتحدث عن إرتريا، وكيفية تتالي االمستعمرين عليها، لحسنها، وجمالها، وموقعها الإستراتيجي، إلا أن الفنان إدريس محمد علي كما هي عادته من إيراد التداخل بين الوطن والحبيبة، يزاوج في هذه الأغنية بينهما، فيجعلها حبيبة ووطنا.
الفنان إبراهيم فانوس و(أسناي رئينا وتالينا):
لما كانت نصرة البلاد من الوطنية، والولاء، كان نصر الفنان إبراهيم فانوس لبلاده كبيرا، وقد قال الشاعر:
كلانا على دينٍ به هو مؤمنٌ
ولكنَّ خذلان البلاد هو الكفرُ
وإن نصرة البلاد تكون واجبا على كلٍّ بحسب موقعه، ولعمري إن الشاعر لمسؤول عن نصرة بلده، والفنان، كما هي مسؤولية السياسي والمقاتل وحتى بائع الحليب، والماء، وكل ينصر بلده بإحسان ما وليه من واجب.
ولقد سرني أن أستمع إلى هذه الأغنية في نسختها الثانية، بعد أن استمعت لها من قبل في نسختها الأولى، وإن دلَّ إنتاج هذه النسخة الثانية، فإنما يدل على محبة تجويد الفنان إبراهيم فانوس لأدائه، في ما وليه من نصرة لبلده تعريفا بها، ولفتا لأنظار العالمين إليها فنا جميلا، وجد كل استحسان حيثما غنيت، وغيرها من الأغاني الإرترية.
الأغنية التي بين يدينا غنيت بمسرح لووب بألمانيا، كما غنيت بأميركا في مسرح ملينيوم كندي سنتر، وقد طافت بها مجموعة مشروع النيل في مدة أشهر ثلاثة على اثنتين وعشرين ولاية أمريكية، وأشبعت الأغنية آذان كل من استمع لها حسنا ولذة.
التفاعل والمحبة:
إن المشاهد لهذه الأغنية سيتلمس مدى التفاعل الكبير، والمحبة القصوى التي يستشعرها المؤدون، فكأنما كل واحد من أولئك الفنانين صاحب الأغنية، وكأنه يتغنى لوطنه الأم، هذا هو الغناء يوحد الأفئدة، ويربط بين الناس ولا روابط بينهم إلا الإنسانية السمحة.
ولا يخفى علينا التوزيع الموسيقي الجميل في هذه النسخة والنسخة السابقة، إذ استمتعتُ كثيرا كثيرا ههنا وهناك. كذلك دُهشتُ وأُعجبتُ بأداء الفنان صليب فوزي للأغنية بالتقرايت، في النسخة الأولى، وأداء الفنان المصري باسم وديعة في النسخة هذه، وإنه لجهد مقدر ذلك الذي بذل حتى تؤدى هذه الأغنية بكل هذا التناسق والتوافق بين الفنانين كلهم أجمعين.
نعم هؤلاء هم سفراء الإنسانية في هذا العمل العالمي الجميل أقدمهم تقديرا ومحبة.
أفراد مجموعة النيل في هذه الأغنية:
المغنيان:
• إبراهيم فانوس – من إرتريا.
• باسم وديعة – من مصر.
• كان المغني الثاني في النسخة الأولى الفنان صليب فوزي – من مصر.
الإيقاعات:
• آسيا مدني – من السودان.
• عادل ميخ – من مصر.
• كاسيفا ماتاوا – من كينيا.
• باذيبو – من يوغندا.
العود:
• محمد أبو ذكرى – من مصر.
الكاولة (الناي):
• نادر الشاعر – من مصر.
الجيتار:
• ديف أوتيانو – من كينيا.
البيز:
• أحمد عمر – إرتري مصري.
الكورال:
• سلامنش زمني – من إثيوبيا.
• آسيا مدني – من السودان.
ختاما:
هناك الكثير من الشباب الإرتريين الذين بذلوا وما يزالون يبذلون في حقل الفن انتصارا للوطن، وإني لأرجو لهم كلهم كل توفيق وسداد، وأوصيهم بمحبة أعمالهم، وجعلها مشاريع حياة، عندها ستهتز أرضها، وتنبت، وتورق، وتزهر، وتثمر، وتمشي بين الناس حياة.
شكرا للفنان الإرتري إبراهيم فانوس.
شكرا لمجموعة مشروع النيل، على هذا الإمتاع، وهذا الجمال، وهذا القوت الجميل للآذان.
محبة وودادا !!!