الفنان ادريس محمد علي مدرسة فنية إستثنائية تستحق التأمل
بقلم المهندس: سليمان فايد دارشح - كاتب وبـاحث ارترى
تجاذبتني مشاعر شتى أرجعتني الى زمان قديم ما يزال صداه يتردد في دواخل الناس زمن يضخ بثورات
وحركات تحرر وطني ونضال ضد الاستعمار في ثلاث قارات، آسياء وأمريكا اللاتينية وأفريقيا السمراء، عالماً يصخب بالمعرفة والأدب والعلوم ويتغذى بالغناء والسلام والحرية، يتنفس شعراً وطموحاً وعشقاً وتمرداً.
جاء في ذلك الزمان الجميل فتى تقوده خطاه في بطء واثق، طموح بلا تردد، إسمه إدريس محمد علي همد حجي.
لم ينشأ ذلك الفتى في أسرة فنية ولم يجد أحداً يشجعه على السير في اتجاه الفن، بل على العكس لقى العنت والتعنيف والإكراه، حمل الفتى مسئوليات أكبر من طاقته، فقد توفى والده وهو في العاشرة وقام برعايته شقيقه الأكبر حامد سعيد محمد علي وهو من الرعيل الأول للثورة الارترية.
وفي ظل هذه الظروف كان الصغير ادريس محمد علي يبحث عن وسيلة للتعبير عما في نفسه من ضغوط وعن أحلامه في الحياة فلم يجد أفضل من الموسيقى وانجذب بحسه العالي الى كل ما سمعه من غناء وشعر للفنانين الكبار أمثال ادريس ود أمير وعمر باشقير وعثمان ادريس ويرا (أجولاي) وغيرهم. ثم بدأ يبحث عن مصادر أخرى للفن والشعر فسافر الى السودان وكان قد سبقه الى هنالك شقيقه علي محمد علي الذي تولى رعايته.
إعتمد الفنان ادريس محمد علي على موهبته الفطرية الواعدة التي حباه بها الله عز وجل، ثم أخذ أسلوبه عن كل من أجاد العزف على آلة العود من الموسيقيين السودانيين منهم على سبيل المثال برعي محمد دفع الله وحسن خليفة العطبراوي وبشير عباس فكان كمن يضع العود في جيبه لشدة ما أحبه وأجاده عزفاً وتمكناً وعشقاً لدرجة الإنبهار توطدت آنذاك العلاقة بين الفنان ادريس محمد علي وبين العديد من الفنانيين السودانيين الكبار، وكان اختياره لعضوية اتحاد المهن الموسييقية وعضوية اتحاد الأدباء والفنانيين بكل من ولاية البحر الأحمر وولاية كسلا وولاية القضارف تعبيراً عن عمق هذه العلاقة.
غنى وأجاد وأبهر بغنائه وعزفه، لفت الأنظار إليه والأسماع، كان ذلك الفتى الوسيم الأنيق يبشر بميلاد شيء ما في ساحة الغناء والطرب في ارتريا، الرجل امتلك عقلية موسيقية جبارة بالفطرة، فقد أكد في أول تجاربه في الغناء أنه مشروع فنان متميز صوتاً وأدءاً وابتكاراً، برز نجمه في مدينة كسلا والقضارف وذاع صيته في ارتريا وشرق السودان.
عُرف بشعبيته الكبيرة في تلك المناطق وبنهجه المتفرد في الغناء فهو بحق وحقيقة جيل لا وجود له، يهتم بالتفاصيل من أجل التجويد مستنداً على أرضية فكرية قوية، قال عنه النقاد وكبار الموسيقيين والفنانين، إذا ذكر الفن الحديث بلغة التجري أو (التقرايت) ذكر العملاق ادريس محمد علي، وتحدثوا عن بصمته الفنية وألحانه وقدراته على التميز ومواكبته التطور الغنائي وجمعه بين فنون الأداء لأغاني التراث والأغاني الحديثة.
الفنان المبدع ادريس محمد علي ظاهرة من الظواهر بكل المقاييس وعبقري في اختياره الكلمات القوية والمؤثرة ووضع اللحن والأداء ونقل الأغنية لكل المربعات وجعلها ليست حصراً على العاطفة والتجارب الانسانية فحسب، بل نقلها الى الوطن في كل أرجائه وصدق في كل ما قدم من أغانيه وهو مدرسة فنية استثنائية تستحق التأمل.
لخص الفنان ادريس محمد علي مدرسته الفنية في مبادئ أساسية نذكر منها على سبيل المثال.
• ملامسة مكامن الاحساس والمشاعر والعواطف والوجدان وطرح القضايا الوطنية والتعبوية بمفردة تسرى في الوجدان.
• اختيار النغمات ذات الجذور الشعبية الارترية.
• صياغة الألحان في تركيب حديث متطور وإيقاعات تراثية مليئة بالحيوية والحماس والعاطفة الدفاقة.
الرجل قد رفد الساحة الفنية الارترية بعدد وافر من الأغاني التي شكلت منه مدرسة غنائية ذات خصوصية تؤكد عبقرية صاحبها وديمومة منجزها.
ادريس محمد علي فنان عملاق عظيم بذل مجهوداً مقدراً في مسيرته الفنية وشق طريق الفن الشاق حتى صار أمير أغنية التجري، ويعتبر من القلائل الذين تميزوا بجمع ثلاث أضلاع التطريب (كتابة الشعر والتلحين والأداء) معظم أغنياته وروائعه الخالدة بالتجري هي من قصائده والحانه وأدائه.
جوانب عدة في مسيرة الفنان ادريس محمد علي الابداعية التي يحصرها الكثير في كونه مطرباً وموسيقياً ووطنياً غيوراً وشجاعاً لا ينكسر ولا يستسلم ولا يتردد، معتزاً بنفسه وبأرائه وبما يعتقد أنه حق ولا يخشى في الحق لومة لائم، وهذه الخصال جرت عليه حنق الطاغين، حيث يقبع لأكثر من ثمانية أعوام سجيناً في إحدى سجون الهقدف ويتعرض لأسواء أشكال التعذيب الجسدي والمعنوي، جريمته أنه قال لا لدولة الظلم والنظرة الاستعلائية والقهر والتهميش وجريمته الأخرى أنه عشق الوطن والحرية والمساواة والعدل والتعبير، ولم تكن عنده مهنة الفن كغيرها من المهن لكسب القوت، وإنما رسالة سامية وواجب وطني.
المجتمعات البشرية المتحضرة والراقية تضع في أولوياتها مساحات كبيرة للابداع الإنساني في مناحيه وأرجائه المختلفة وتفرد للمبدعين أمثال إدريس محمد علي الود والتشجيع، وتضعهم دائماً في حدقات عيونها وليس وضعهم في غياهب سجونها - الحفر المظلمة - كما يفعل نظام الهقدف المتخلف حضارياً وخلقياً والمتجرد من كل القيم الإنسانية والوطنية !! ومن هنا يتأتي ضرورة العمل بصورة أكثر محلياً وعالمياً لفك أسر الفنان إدريس محمد علي والإهتمام بأعماله وإبداعاته كرد جميل لهذه القامة الفنية، الذي سكب كل روحه وجماله وصوته الشجي والعذب القوي لخدمة الفن والغناء والطرب الارتري.
ومن المعروف أن الفنان ادريس محمد علي أنه من أساطين المتحدثين بلغة التجري والملمين بشوارد مفرداتها ودقيق مأثوراتها وحكمها وأمثالها، وقد تميز برصانة الحس ودقة التعبير عن مشاعره، وأن هذه الملكة الكبيرة بناصية اللغة ليست نتيجة اجتهاد شخصي فحسب ولكنها لغوية عرفت في المنطقة التي ولد وترعرع بها، منطقة (قانجيو) بالساحل الشمالي لذلك كانت البيئة لها أثر كبير في تكوين شخصية الفنان ادريس محمد علي.
الفنان ادريس محمد علي علم من أعلام الغناء الارتري غنى للوطن والحرية والجمال والقيم الفاضلة ورسم بجهده وعرقه مدرسة الغناء بلغة التجري، بالإضافة الى أنه عطر الفن الارتري بأغانيه وأناشيده الرائعة باللغة العربية من خلال إنتقائه أجمل الكلمات لشعراء أفذاذ منهم الشاعر محمد عثمان كجراي والشاعر أحمد سعد والشاعر سليم كليم والشاعر سليم قاسم والشاعر المرهف المبدع عبد الرحمن شنقب.
إدريس محمد علي من الصعب أن نتحدث عن أعماله ونعرفه في هذه العجالة، فهو الغني عن التعريف، وقد عرف نفسه بثراء فنه وتنوع أغانيه الوطنية والحماسية والعاطفية، وهو من القلائل الذين فرضوا أنفسهم على الساحة الفنية الارترية.
إدريس محمد علي نبع فياض دوماً يشتم عبق الكلمة ويعصر الحرف ليخرج منه نغماً أسطورياً لا يصدأ، رقيق شفاف مرهف الحس تخطى بصبره وثباته عتبة المجد، حمل عناء الوطن والغربة والمجهول وقاسى مسافات الزمان واحتل مساحات واسعة في أفئدة الطيبين الشرفاء، سافر شرقاً وغرباً وجلس على سجادة الحزن وهو يغني ويحلم بالغد المشرق لارتريا !!
لذلك أُعتبر الفنان ادريس محمد علي، ركن من أركان الفن الارتري، ومن الفنانيين الملتزمين مثَّل الوطن ووجهه المشرق وعبر عن الشعب بكل متغيراته الحياتية، وهو أيضاً من الفنانيين الذين أثروا المكتبة الغنائية الارترية بروائع الأعمال التي ستظل خالدة، بل صارت روائعه الفنية جزءً أساسياً ومهماً من المشهد الثقافي والتراثي الارتري.
الفنان ادريس محمد علي يطل بأغانيه الوطنية عبر كل الشرفات بدراً يضيء درب العتمة ويفتح مسارج النور الى وطن يتعافى في كل لحظة من جرح وينزف جرحاً آخر. ظل هذا الفنان الكبير يعطي دون كلل أو ملل يرفد الساحة الغنائية الارترية بالروائع ويقدم للأجيال القادمة تذكرة العبور بالأغنية الارترية الى آفاق أرحب حزنت وأعتصرت أدمع كل جموع الشعب الارتري بمختلف انتماءاتهم الدينية والسياسية والاجتماعية يوم اعتقاله من قبل نظام هقدف الحاكم وكان اعتقاله حزن أمة لأن الرجل بقامة أمة بمعنى الكلمة، جسَّد خلال مسيرته الفنية كل شيء جميل في أمته.
وهو كما يقال: (الوطن والحرية شتلوها جوه ادريس محمد علي) الرجل حمل وطنه في أنسجته عشقاً وولهاً وعطاء، واستطاع هذا الفنان الكبير التعبير عن هموم وطنه وآماله وتطلعاته في أصدق صورة باللحن والكلمات.
تبوأ في مرحلة التحرير الوطني مناصب كبيرة في الفرق الغنائية للثورة الارترية وكان عطاؤه متصلاً في الإسهام والارتقاء بالفن الارتري ونقله خارج أسوار حدود الوطن للتعريف بالقضية الارترية وتأجيج حمية الغيرة الوطنية وإباء النفس في نفوس الشباب الارتري للذود عن الأرض والعرض.
وفي مرحلة ما بعد التحرير كان - فك الله أسره - من كبار الفنانيين الذين أسسوا مدرسة للفن والغناء، وأنه كان و ما يزال مدرسة قائمة بذاتها، استلهم منها المبدعون الشباب وتغنى الكثير بفنه وأغانيه التي لا يخلو منها أي بيت فرح أرتري في داخل ارتريا وخارجها.
كما أن العلاقة بين الفنان والشاعر ادريس محمد علي وجمهوره علاقة استثنائية بين فنان يستوطن قلوب الملايين وملايين تقيم في قلب الرجل، وعلاقة استثنائية تتجسد في أغانيه المشهورة، وهم يغنون (هوي هوي مرحبا، بعلا قرين دالي، وارتريا يا جارة البحر، ريم مدر، قروم مكاريتا، باسم الألاف والملايين من شعبنا، مهر الحرية، يافتاة) وغيرها من الأغنيات والأناشيد.
عرفتُ الفنان ادريس محمد علي عن قرب، كان كريماً صاحب مروءة وواجب ولا يتأخر برهة في مد يد العون والمساعدة لأي صديق ولا سيما زملاءه في قبيلة الفن الارتري، كما عرف بين الناس بحسن الخلق وطيب معشره، صاحب مواقف إنسانية، متواضع وقنوع، قلبه مترع بالإيمان والنقاء والطيبة والبراءة، يبدي رأيه بجراءة وشجاعة ولا يقر ظالماً على ظلمه، ولا يسالم جائراً. إجتماعي من الطراز الأول وصال للرحم وملاذ للمتخاصمين، يصلح بين الناس وهو سليل أسرة همد حجي ذات الجذور الأصيلة والعريقة والتي تعطرت سلالتها بأريج الزهد وسماحة الخلق والحكمة والرأي السديد والمروءة والشهامة.
في الختام أقول هذه السطور ليست توثيقاً للمدرسة الفنية للفنان ادريس محمد علي، وإنما هي محاولة تأمل بعض الملامح من حياته وابداعاته الفنية، الرجل قدم للفن الارتري الكثير ولم يلتفت اليه الناس في محنته بالصورة المطلوبة.
ومن هنا نوجه نداءنا العاجل الى كافة أبناء اتريا الشرفاء والحقوقيين في العالم وأحرار العالم وكل المنظمات الدولية لحقوق الإنسان والمؤسسات الديمقراطية الوطنية بضرورة القيام بحملة اعلامية وسياسية مكثفة لفك أسر هذا الصرح الشامخ في أرض ارتريا الفنان القامة ادريس محمد علي.