تاريخ الفرقة الفنية لقوات التحرير الشعبية - الحلقة الخامسة
بقلم الفنان المناضل: عبدلله عثمان اندول
بموجب توجيه المناضل محمود جابر، وصلت إلى مدينة كسلا وبما أن الخيارات كانت مفتوحة أمامي،
وعملاً بقناعاتي التنظيمية في ذلك الوقت، إتجهتُ إلى مكتب قوات التحرير الشعبية - البعثة الخارجية بدلا من التوجه إلى مكتب جبهة التحرير الأرترية.
كان يترأس مكتب قوات التحرير الشعبية بكسلا حينها الأخ مصطفي يعقوب وهو مناضل مشهود له بالتفاني والأخلاص والسهر على مصالح التنظيم التي خدمها بكل ما أوتى من مقدارات وإمكانيات في تلك المرحلة الحرجة من مسيرة التنظيم.
إستقبلني المناضل مصطفى يعقوب، متعه الله بالصحة والعافية، بحفاوة بالغة ووجهني إلى مكتب الخرطوم حيث إنضممتُ إلى المناضلين إدريس محمد على وسعدية محمد سعيد وإجتمعنا مع المناضل الشهيد عثمان عجيب، الذي كان ممثلا للتنظيم في الخرطوم في ذلك الوقت وأتفقنا على قرار إعادة تأسيس الفرقة الفنية وتمت الموافقة على تخصيص الميزانية اللازمة لذلك الغرض ومن الخرطوم توجهنا أنا والمناضلة سعدية إلى القضارف لمباشرة العمل على تكوين الفرقة.
بدأنا مشوار التأسيس الثاني للفرقة الفنية لقوات التحرير الشعبية من مدينة القضارف للمرة الثانية، ودون أن نضيع وقتاً، عقدنا لقاءات مكثفة مع المواهب الشبابية المتواجدة هناك أسفرت عن إلتحاق العديد منهم ومن أوائل الذين التحقوا بنا أذكر الأخوة صالح عُمر مسلم وموسى أحمد إسماعيل وحسن شريف وحسين إدريس شيخ وجميعهم شباب متحمس لخدمة وطنه وقضيته وذويي مواهب فنية عالية وعزيمة ورغبة قوية في العطاء والتضحية، ثم إنضم إلينا لاحقاً الأخ أحمد صالح مفكوت وتبعه الأخ عماد عدلان، وهو موسيقي سوداني مقتدر من أبناء روينا في القضارف، وقد لعب الأخ عماد دورا لايستهان به في مختلف مناشط الفرقة منذُ إنضمامه إليها ودخوله الى الميدان وحمله السلاح، كما أنه كان ضمن صفوف الفرقة عندما دخلنا مدينة أغردات في اليوم التالي لتحريرها في الأول من سبتمبر عام 1977 وإستمر مع الفرقة كعضو فاعل في جولتها الفنية الخارجية في العام 1978، تحية محبة وتقدير للأخ المناضل الفنان عماد عدلان.
في بدايات العام 1977، وصلنا إلى كسلا في طريقنا إلى الميدان وفيها إنضم إلينا الأخ عثمان إبراهيم والاخ إبراهيم مالك وبعد إقامة قصيرة في مدينة كسلا حزمنا آلاتنا الموسيقية المتمثلة في آلة أكورديون وعدد أربعة الات كمنجة وألة بيز جيتار والة جيتار وإيقاع والة عود، وتوجهنا إلى مقر الفرقة في معسكر حشنيت الحدودي الذي يقع على مسافة ثلاثة ساعات بالسيارة شمال شرق مدينة كسلا على وجه التقريب، وكان يعتبر معسكرا خلفيا رئيسيا لتنظيم قوات التحرير الشعبية - البعثة الخارجية، الذي قام ببناء قوة عسكرية كبيرة في زمن قياسي إثرإنفراط العقد بين طرفي قوات التحرير الشعبية (اللجنة الإدارية والبعثة الخارجية) كما أشارنا في الحلقات السابقة.
يقع معسكر حشنيت على ضفاف خور موسمي تنشر على ضفتيه أشجار الدوم الباسقة الطول وعلى طرفه الأخر، تقع مجموعة من التلال الصغيرة، وكان مقرا رئيسيا للعديد من أجهزة التنظيم ومن ضمنها جهاز الإعلام الذي كانت تنضوي تحت إدارته الفرقة الفنية والذي كان يترأسه المناضل علي أحمد عضو المجلس المركزي لقوات التحرير الشعبية.
بعد وصولنا إلى حشنيت، إلتحق بالفرقة كل من الأخوات خديجة محمد على وامنة حامد وجميلة صالح، كما إلتحق كلٌ من الفنان عثمان عبدالرحيم والاخوة محمود عبدالله وجابر محمود وحسن ادم ومحمود ود حسب والجدير بالذكر أنه كان يتم إخضاع كل عضو جديد من أعضاء الفرقة لدورة تدريب عسكرى تولى أمرها المناضل محمود عنقي الذي كان بمثابة القائد العسكري للفرقة الفنية بجانب دوره فيها كمنشد بلغة التقري.
لم يستغرق التأسيس الثاني للفرقة الفنية لقوات التحرير الشعبية وقتا طويلا ولم تصاحبه مصاعب كبيرة تستحق الذكر لأن كل الظروف والمتطلبات كانت مهيأة لأعادة تكوين الفرقة من حيث توفر الألات الموسيقية والمُنشدين والمغنين المقتدرين وعلى رأسهم الفنان الكبير إدريس محمد على الذي كان يكتب الأناشيد بالتقري ويلحنها ويؤديها بنفسه، إضافة الى توفر الأشعار الوطنية والثورية باللغة العربية لشعراء كبار من أمثال محمد عثمان كجراي وأحمد سعد والمناضل سليمان كليم، وفي مجال الرقص والعروض التراثية، كان من حظ الفرقة ان إنضمت اليها فرقة الفنون الشعبية بقيادة الفنان الكبير محمد عمر أبلاي ومعه الفنان الشعبي الكبير حامد عبدالله والفنان موسى صالح رحمه الله، وامنة شقشا وحسن إسماعيل وعلي أوكير، مما شكل دفعا كبيرا لأداء الفرقة ولتنوع أعمالها الفنية والتراثية.
كانت الأوضاع الأمنية مستتبة وهادئة في معسكر حشنيت في تلك الفترة كونه بعيدا عن مناطق العمليات العسكرية،الأمر الذي ساعد على حرية الحركة في ساعات النهار حيث يقضي أعضاء الفرقة أوقاتهم في التدريب العسكرى والانشطة الاخرى، ثم يلتئم جمعهم في الليل لأدء التمارين والبروفات الموسيقية من أجل خلق التوافق والتناغم المطلوب للعمل الجماعي في العزف الموسيقي وفي الإنشاد والرقص التراثي وفي أعمال التمثيل والإلقاء، خاصة بعد أن فاق عدد أعضاء الفرقة الثلاثين عضوا في فترة وجيزة، مما تطلب مضاعفة الجهود لرفع مستوى الأداء الفني للفرقة.
أحيت الفرقة عرضها الفني الأول في الثاني والعشرين من مارس 1977، بمناسبة إنعقاد المؤتمر التنظيمي الأول لقوات التحرير الشعبية، بحضور المئات من الوفود من ممثلي أجهزة التنظيم ومكاتبه الخارجية ومنظماته الجماهيرية إضافة الى الوفود الصحفية والدبلوماسية القادمة من العديد من الدول المساندة للقضية الإرترية، وقد شكلت تلك المناسبة فرصة سانحة للفرقة الفنية لتقديم منتجها الفني وكُنا مطمئنين للغاية على جاهزية وإستعداد عضوية الفرقة لأداء فقرات فنية تليق بأهمية المناسبة وتعكس المستوى الفني الراقي الذي حققته في زمن وجيز من خلال البروفات والتمارين اليومية المكثفة وبالفعل نجحنا في تقديم باقة من أعمالنا الفنية من أناشيد ورقص تراثي وفقرات تمثيل على مدى فترة إنعقاد المؤتمر وقد لقيت كل تلك الأعمال رضى وأعجاب الحضور.
وفي شهر مايو من العام 1977، وبمناسبة عيد العمال، أحيت الفرقة حفلا كبيرا أخرا في معسكر "لوكوييب" الواقع في الداخل الأرتري، وقدم فناننا الأول إدريس محمد على في ذلك الحفل إنشودة جديدة بلغة التقري بعنوان : " إب سِبت كُم مسؤولين وحدت أفيات إ أتيت" وفيها أشار إدريس الى قادة الثورة الأرترية بكلمة "مسؤولين" ووجه إليهم صوت لوم وعتاب لعدم جديتهم في معالجة قضية الوحدة الوطنية، وحمّلهم وزر فشل جهود تحقيقها، واردف القول صراحة بأن أولئك المسؤولين لاتهمهم الا مناصبهم وامتيازاتهم على حساب المناضل البسيط، وهكذا عبر إدريس في تلك الإنشودة عن درجة الاستياء السائد في الاوساط الجماهيرية ضد نزعة الإنشقاقات المتلاحقة التي أهدرت طاقات الثورة وشتت الصف الوطني وخلقت الأحتراب والصدام المسلح بين أبناء الوطن مما جعل تحقيق الوحدة الوطنية امرا بعيد المنال.
أما أنا ومع محدودية الأناشيد التي كنتُ أقوم بتأديتها لعدم ميلي الى التأليف والأنشاد بقدر أهتمامي ومحبتي لعزف الالات الموسيقية، فقد قُمتُ في نفس الحفل بأداء إنشودة جديدة بلغة التقري وهي أيضا عن جراحات الأنشقاقات والتشرزم والدعوة للملمت الطاقات والعمل من أجل الوحدة، ولكونها أنشودة تناصح وتآخي، لقيت قبولاً وإستحسانا من الحضور الذين طلبوا إعادة أدائها مرة أخرى ففعلت.
وبالنسبة لإنشودة الأخ إدريس بعنوان إب سبت كوم مسؤولين، فأن جهاز أمن التنظيم لم يريد لها ان تمر مرور الكرام فقد أُستدعي الأخ إدريس وتم التحقيق معه ثم حُبس ولكنهم أطلقوا سراحه في اليوم التالي لإدراكهم التام بأن سجنه قد يجلب نتائج عكسية على إستمرارية الفرقة وقد يؤدي إلى حالة إستياء يصعب السيطرة عليها داخل التنظيم بالنظر إلى دور وتأثير الأخ إدريس ومكانته الكبيرة في القلوب.
وفي الأول من سبتمبر من العام 1977، جاء تحرير مدينة أغردات تتويجاً للعمل العسكري المشترك بين جبهة التحرير الأرترية وقوات التحرير الشعبية وفي اليوم التالي لذلك الحدث التاريخي وصلنا إلى مدينة أغردات التي كانت ماتزال روائح البارود تعبق أجوائها، مدللةً على ضرواة المعارك التي خاضها أبطالنا الأشاوس في تلك المدينة الباسلة وهزموا فيها الجيش الأثيوبي شر هزيمة.
سرعان ما إستعادة مدينة أغردات عافيتها وبدأت الحياة تدب في شوارعها وفي سوقها المركزي وسادت فيها أجواء الفرح بذلك الانتصار التاريخي الحاسم وقمنا بإحياء حفلتين كبيرتين بجانب موقف الباصات في وسط المدينة وكان الحضور كبيرا جدا من قبل جماهير المدينة ومن جموع الشعب الذين حضروا من القرى المجاورة والمدن الأخرى وبمشاركة المقاتلين من كلا التنظيمين.
مكثنا في أغردات بعض الوقت ومنها إنطلقت الفرقة في جولة خارجية طويلة إمتدت لعدة أشهر.
نواصل بإذن المولى... في الـحـلـقـة الـقـادمـة