اريتريا... دولة في مرحلة الانهـيـار

بقلم الأستاذ: عبدالقادر محمد عمر أفندي - كاتب وناشط حقوقي إرتري - لندن، المملكة المتّحدة

منذ اعلان الاستقلال في عام 1993 رسميا وتشكل العلم الاريتري بألوانه الأربعة ومثلثه الأحمر وغصن الزيتون الأصفر،

خريطة إرتريا

بدأ الاريتريون يعيشون أحلام لحظات الاستقلال ونهاية الماسي والتشرد، الا أن شريحة معتبرة من هذا الشعب لم تكن مرتاحة لا لهذا العلم الذي وصفته بأنه (مشؤوم ويبشر بجفاف طعم الحرية والاستقلال والازدهار، تماما كغصن الزيتون الأصفر الجاف الذي يتسوط قلب العلم) ولا للنظام الذي أشرف على مراحل الاستقلال وأستغل شرعيته الثورية، وفي مقدمتهم راس النظام (اسياس أفورقي) المثير للجدل طوال مراحل النضال الثوري وما بعده، حيث فرض اجندته ورؤيته عن كيفية حكم اريتريا وطالب بحل كل الرايات الثورية الأخرى وطلب من الوطن الجديد تبني رؤية الجبهة الشعبية ونظام حكمها الأوحد.

وكعادته هذا الشعب بكل مكونتها تبني نهجا وسطيا مسالما طالبا من جميع أبنائه بإعطاء الدولة الوليدة فرصة للحياة والتقدم، وبناء مستقبل زاهر للبلاد من أرضية مشتركة والتفكير بعقلية الدولة لا بعقلية الثورة. الا أن النهج الديكتاتوري ولإقصائي لكل من يخالف الرأي والمنهج الذي تبناه حزب (الجبهة الشعبية للديموقراطية وللعدالة) وهو الحزب الوحيد والحاكم للبلاد منذ الاستقلال، أصبح اما طريدا أو سجينا أو ميتا.

فأصبح الشعب الاريتري رويدا رويدا يفقد ملاح الدولة المدنية لصالح الديكتاتورية التي رفضت تطبيق الدستور الاريتري الوحيد والذي تم الاستفتاء عليه في عام 1996 بل أدخل النظام الديكتاتوري الفاشي البلاد والعباد في حرب ضروس مع اثيوبيا خاصة اكلت الأخضر واليابس ومنيت بهزيمة ساحقة وادينت دوليا بالعدوان وفقدت السيطرة على أراضي اريترية عزيزة ولم تحقق الحرب المشؤومة أيا من أهدافها وطموحاتها، بل ارتدت على الشعب الاريتري فقرا ودمارا وتشردا وفقد الشعب من الشهداء في بضع سنين ما لم يفقده في أكثر من ثلاثون عاما من حرب الاستقرار. واليوم ما زال هذا الخطر في ان يتكرر من جديد حقيقيا في ظل نفس الأوضاع والمعطيات والقيادات.

واليوم نحن كشعب أريتريا نتساءل: لماذا تم اقحام كلمتي (الديموقراطية) و(العدالة) في منهج حزب الجبهة الشعبية ان كانت لا تؤمن بها او العمل بمقتضاها؟ وبطبيعة الحال الكل يعرف الإجابة، وليس هنا مجال في الخوض فيها بالتفصيل. وان كان مختصر مفهوم الديموقراطية هو التداول السلمي للسلطة وحكم الأكثرية وحماية حقوق الأقلية والافراد، فان الحكومة الاريترية وتحت ظل هذا المفهوم الشمولي أو درجة من درجاته لم تقم بتطبيقه أو الاقتراب منه ولو لدرجة واحدة، فهي تراه منهجا مستوردا فاسدا لا يصلح لهذا الشعب، وان كان نصف سكان العالم تقريبا مع تمركزهم الشديد في أوروبا والأمريكيتين والهند وأجزاء أخرى من العالم يعيشون تحت ظل نوع من أنواع الديموقراطية المتكيفة محليا، لا أن قائدنا (الديكتاتور) صاحب النظريات الانتقادية لم يتمكن عقله المتهالك من تأسيس فكر منهجي عادل يصلح لشعبه بعد مرور اكثر من ربع قرن من حكمه الجائر.

فاصبح البلاد والعباد أسرى القيود السلطوية الثلاث (السياسية والاقتصادية والثقافية) بحجة رفضه للإملاءات الخارجية او المخاطر الحدودية التي تتربص بثورته العظيمة وتضحياته الجسيمة، ونعرف جميعنا جيدا بان الفكر الديموقراطي الغربي و روحه الليبرالية هي نتاج حراك فكر بشري اجتماعي وثقافي غربي ويتلاءم مع مالاته وطموحاته وليس بالضرورة صالحة لكل زمان ومكان ولكنها تظل احدى الانجازات البشرية الكبرى في أنظمة الحكم، وليس هنا مجال الخوض في معانيها وتفرعاتها وعن صوابها واخطائها، وكما ذكرنا هي نتاج فكر انساني بعد مخاض عميق وعسير استمر لقرون وسالت من اجله الدماء والحروب، ولا ينكر الا ظالم أو مكابر بأن أبرز نتائجها ومخرجاتها المتميزة هي فصل السلطات الثلاث (التشريعية والقضائية والتنفيذية) وهذا الذي نحلم به كإريتريين منذ الاستقلال المجيد ولم يتحقق.

هل النظام في اريتريا نظاما ديكتاتوريا فاشيا ؟

الإجابة ببساطة نعم. ومن أراد تعريف معنى الديكتاتورية والفاشية عليه العودة الي التاريخ والبحث في مدلولاتها وأسباب وجودها في المصطلح السياسي الاجتماعي، ويكفي هنا أن نذكر التشابه الفاشي الشديد بين الحكومة الاريترية والواقع المرير الذي نعيشه، فأبرز ملاح الفاشية الديكتاتورية هي الايمان بنظام الحزب الواحد وتركيز السلطة في يد طبقة محدودة ومعينة ذات الأهداف المشتركة وتقيد الحريات الفردية والجماعية والصحفية وحصر حق الاجتماع في نظام الحزب الواحد وسيطرة النظام على الاعلام وتوجيهه للتأثير على الراي العام ليسهل السيطرة عليه. وبناء على ما تقدم فإننا نعرف بان الديكتاتورية هي الوريث الشرعي للفاشية من خلال تركيز الحكم في يد الحاكم الفرد (الديكتاتور) دون التقيد بالدستور والقوانين أو أي عوامل اجتماعية او ثقافية داخل الدولة، وهذا ما نعانيه نحن كإريتريون وبشدة هذه السنوات، وعليه فإننا نعاني الأن من حكم ديكتاتوري فاشي بامتياز.

انهيار المجتمع المدني الاريتري:

لا شك بان ما سبق ذكره من القدر اليسير عن الحالة الديكتاتورية الاريترية، ذهبت بأدراج الرياح بالمجتمع المدني الاريتري المأمول به ناهيك عن الحريات السياسية والاقتصادية التي هي في حال الاحتضار منذ أن تسلم الحكم السلطوي وحتى هذا اليوم. فهذا الوضع المأزوم وبلا مخارج انعكس على الشعب الاريتري الذي أفقده (اسياس) بوصلته و مدنيته وأبرز أنانيته لصالح الفرد والقومية والطائفة على حساب الجماعة ودولة الامن والسلم والازدهار. هذه الحالة الاستثنائية من تاريخنا المجيد أفرزت لنا وطنا منبوذا من جيرانه جائعا بين خيراته وجاهلا ومجهولا في منطقته.

كلنا يعلم بأن من أنشأ الثورة هي كل تلك المظالم والتراكمات المستبدة التي سبقت ميلاد الثورة والتقطها كوكبة من الأحرار المبدعين الإريتريين وبجسارة فمشى خلفها الشعب الاريتري طائعا منقادا لنداء الحرية والسلام والاستقرار فأعلن شرارته الأولى في الفاتح من سبتمبر للعالم. والأن وقد مر علينا أكثر من ربع قرن من التحقيق السياسي للاستقلال كوطن عضو في الأمم المتحدة وبعض المنظمات الدولية والإقليمية وخطت اريتريا جملة خطوات مقدرة في مشوارها السياسي الخارجي الا أنها وبفضل هذا النظام الديكتاتوري تخلفت وبشكل مخزي في مجال الحريات وحقوق الانسان وتنمية المجتمع والازدهار الاقتصادي، فحول المجتمع الى مجتمع عسكري يتشكل للهجوم أكثر من تشكله للدفاع والامن والسلام، وفرض عليه ثقافات دخيلة ومتنقلة خلقت توترات اجتماعية كما نراها اليوم وبشكل بارز في أحداث (اسمرا) واعتقال المعارضين لهذه التوجهات الشاذة والتي هي ليست ضمن سياقه التاريخي والثقافي والاجتماعي لهذا الشعب البطل. فالمجتمع الاريتري لم يكن في تاريخه مجتمعا محنطا ثابتا جامدا بل كان مجتمعا متفاعلا بمحيطه وأعراقه وثقافاته وهجراته، ويسبح في اللحظة الواحدة بين ثبات قيمه التاريخية وافكاره الثقافية وبين متغيرات الحياة والحداثة في الجوار والعالم، فهو شعبا محتفظا بأصله وموروثاته ومتصلا بعصره ومعطياته، وهذه الانسيابية في فهم حركة التاريخ كانت وقود ثورته المجيدة في 61 وما تلاها، فثورته ولادة وهذا ما نراه اليوم في أحداث (اسمرا) كشرارة اجتماعية أولى والقادم أعظم.

نظام ايل للسقوط... نهاية الديكتاتورية:

لا شك بأن نظام (اسياس وزمرته) يعد نظاما مسرطنا ومتسرطنا ودخيلا قاتلا في نسيج الشعب الاريتري بكل فئاته وأطيافه، فنشره الخوف والموت والدمار ما هو الا دليلا بأنه ضعيف وأوهن من بيت العنكبوت، وما تعامله مع شعبه بهذه الطرق والأساليب الملتوية فيما مضى والان مع احداث (اسمرا) الأخيرة الا كما يتعامل مع شلة من المجرمين الأسرى في إطار نسيج فولاذي محكم لا تنفذ منه الا بسلطان الا دليل ضعفه ووهنه. فشعبنا اليوم وان كان يعيش حالة تراكمية من الضعف والافتقار ويقضي معظم يومه مفكرا كيف يتجاوزه بلا جوع او سجن أو تشرد أو موت، الا انه وكما أسلفنا شعب ولاد محب للحرية ولا يرضى بالضيم ويصنع ثورته بنفسه في اللحظة التي يقررها.

وما استمرار الديكتاتور في (حكمه) ان جاز تسمية سلطته بالحكم، الا لأنه شخصية سلطوية وصولية تعمدت استخدام الثورة وشعارات التحرير لمارب أخرى مازال جلها طي الكتمان في عتمات وظلمات أعماق جبه وجب من يؤازره حتى هذه اللحظة من (الدولة العميقة)، وان طفح بعض هذه الأفكار الشيطانية الي السطح فإنها بفعل عوامل التعرية السياسية والتعفن الزمنى. ولا ننكر بان هناك فئة معتبرة سوآءا من الشعب أو الزمرة الحاكمة ربطت مصالحها ببقائه وديمومته وتتبنى كل اطروحاته ومرئياته وفلسفته في الحكم الداخلي والتعامل الخارجي دون وجود سند قانوني أو دستوري. هذه الفئة من الشعب لا شك بأنها الأقلية ولكنها للأسف الشديد تملك وسائل الحكم السياسي والعسكري ولحد ما الاقتصادي، مخلفة لنا مجتمعا مشلولا يفكر بمخيخ ومفخخ بأفكار شاذة ودخليه على المجتمع. ويتبع هذه الفئة المتسرطنة فئة المتطفلين النفعيين ذوي المصالح الضيقة التي لا تتجاوز المصالح الإقليمية أو الفئوية أو المناطقة أو الاقتصادية أو الثقافية، فربطوا مصيره بمصير هذا النظام وكونوا له قاعدة الهرم التي يستند اليها. وهذه الفئة اشد خطورة على الشعب من راس الهرم، وهم من سيقول بعد سقوط راس الهرم وصفوفه الأولى بأنهم كان مخدوعين أو مستضعفين في الأرض، ونقول لهم: ألم تكن ارض الله واسعة فتناضلوا فيها بالحق والموقف من أجل وطنكم ومستقبلكم؟ ألم تشهد أعينكم وعقولكم وهي ترى نور الحرية يكسوها الظلام ؟ مالكم كيف تحكمون !!

وما يجب علينا أن نفهمه الأن وبلا تلكئ أو مماطلة وبعد مرور أكثر من ربع قرن من الاستقلال بأن هذا النظام الشمولي الاستبدادي في أريتريا بأنه نظام فاسد ومفسد ويستعصي على الإصلاح، فهو نظام اشرف على بنائه مجرمون محترفون بحق هذا الشعب، والتاريخ يعلمنا بأن الحق والعدل أقوى من الظلم والطغيان والاستبداد، فاصبح لزاما على أحرار اريتريا الأن هدم هذا النظام وقلعه من جذوره وبناء نظام أكثر استجابة لرغبات الشعب وتطلعاته.

فالديكتاتورية (الاسياسية) عبرت محطة أوج قوتها في سنوات الثورة والاستقلال ومرت بمرحلة ضعف قوية في الحربين الأخيرتين مع اثيوبيا والتخلخل الداخلي الذي أصابها سوآءا في الحركات التصحيحية المتعددة التي حدثت داخل اطارها السياسي والعسكري، أو التنافر الجماهيري المتنامي نظرا لكذب وعودها وفراغ أهدافها. هذه الزمرة المتشرذمة على ذاتها الأن تمر بمرحلة الشيخوخة والتجفيف وتنتظر الضربة القاضية من المخلصين من هذا الشعب بكل أطيافه المدني والعسكري لتسقط الي مثواها الأخير في مزبلة التاريخ.

نعلم بأن هناك معاضة مأزومة، مفككة وركيكة ولا تحمل حلا مثاليا ولا فكرا متكاملا للصعاب والتحديات وبالتالي لا تقوى على التغير، وعاجزة عن قرائه الواقع والمحيط بشكل جيد وتوظيفه سياسيا واقتصاديا لصالح الوطن، ولا يكاد ينفلت عقلها أبعد من حركات بهلوانية سياسية لإراحة الضمير، فلم نشهدها تستغل ظرفا تاريخيا معينا أو تبنى حلفا استراتيجيا مكونا. فشلت فشلا ذريعا في تكوين أو تشكيل قيادة ذات كاريزما ونفوذ وتأثير وفقدت الندية في الطرح والتوجه لمواجهة النظام الاستبدادي، فالمعارضة التي تجعل أكبر همها استبدال ديكتاتورا ليست بمعارضة جيدة، فالتخلص من المستبد هو حل نصف المشكلة، أما صناعة البديل الجيد وهو الأهم وهو ما يبحث عنه هذا الشعب ويركز عليه. ولا شك بأن مقاومة الوباء الخارجي أسهل بكثير من مقاومة الوباء الداخلي، ولكن هذا قدرنا في هذه المرحلة الحساسة التي يتم فيها التمحيص بين الطيب والخبيث.

وندرك الأن أكثر مما مضي بأن النظام الهش قد تجاوزه التاريخ ويعاني وباستمرار من شروخ كبرى متأكلة تنذر بسقوطه المدوي الهائل، وعلينا كمواطنين الاستعداد بوطنية مخلصة لتجاوز مرحلة السقوط والفوضى التي تتبعها نهايات الديكتاتوريات عادة، فهذا النظام رسخ جذوره المسمومة في الأعماق الوطن، واقتلاع الشجرة في صغرها أهون وأسهل من اقتلاعها في الكبر، فقد تحول هذا النظام من نظام ثوري وطني الي نظام امبراطوري ملكي يتبنى تأسيس سلالات حاكمة متناسخة تحمل جيناته الديكتاتورية وأفكاره الشيطانية.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click