وثيقة لندن مدخل الحوار الغائب - الحلقة الثانية والأخيرة
بقلم الأستاذ: محمود عمر - بورتسودان المصدر: النهضة
وطنية الوثيقة ومواكبتها للمرحلة والواقع الارتري: إنَّ قراءة الواقع المحلي وتحليله انجع وسيلة
لتجاوزه فالمطلع علي النضال الارتري يخلص بأن الشعب الارتري مرَّ بعقبات ومخاض طويل في مرحلة حق تقرير المصير إذ يقول تريفاسكس الحاكم الانجليزي لإرتريا في كتابه (ارتريا مستعمرة في مرحلة الانتقال) (عند قيام حركة التجري شجعت الباريا في القاش سيتيت وجماعة السمهر للرغبة المشتركة في الحرية وظلت حافزاً لوحدتهم كما فكر ابراهيم سلطان في الوحدة مع الانفصاليين بالرغم من ان المسيحيين الارتريين اســسوا الحركة الانفصالية وحظيت بمناصرة الجبرتيين والساهو، الا ان وحدة الانفصاليين المسيحيين (الحزب التقدمي الحر) مع الرابطة الاسلامية زادت من ثقة الساهو والجبرتيين بانضمامهم الي بني ديانتهم وعقد اجتماع الكتلة الاستقلالية في الواحد والعشرين من يناير 1947م. وخرج التجمع بقرارات هي:-
1. وحدة الاراضي الارترية كما كانت قبل 1935م.
2. التاكيد علي رفض قرار التقسيم.
3. السعي للإعتراف بإستقلال ارتريا.
4. في حالة تعذر الاستقلال وضع ارتريا تحت حماية دولية مدة عشرة سنوات برقابة انجليزية. انتهي كلام ترفاكس.
إذاً الحراك المنخفضاتي في الاربعينيات مثــَّــل قاعدة أساسية لبناء الخط الوطني وأن من كان مع الاستقلال من المسيحيين التقرينية غالبيتهم اكلوقزاي وكان ابناء اسمرا من المسيحيين التقرينيا ركيزة أساسية لحزب الوحدة مع اثيوبيا.
وعند تلاعب الاثيوبيين بالقرار الفدرالي والغائه بإتفاق مع نخبة التقرينية إنطلق أبناء المنخفضات حاملين راية الكفاح المسلح دون استئذان من احد كمهمة أمـْـلــَــتــْــها المسئولية الوطنية في تلك الحقبة والتي سرعان ما التحق بها كافة أبناء ارتريا بالرغم من التشويه الذي قام به عملاء اثيوبيا للثورة من الوصف بالشفتا وعملاء العرب والمسلمين وكان لهذا الحراك فضل طرد المستعمر من ارضنا.
ثمة أزمة تقف الوثيقة لعلاجها وهي اكبر مخلفات مرحلة التحرير والقوي التقليدية وهي مرحلة الاستعباط الذهني الذي عانى منه المواطن الارتري، ألا وهي سطوة الاحزاب الظلامية وتحكـُّـمها علي مصير الامة الارترية واستغلال جهدها وتضحياتها واداراتها مما أدَّي الي استلاب المشروع الوطني. فكان هناك حزب العمل السري في جبهة التحرير الارترية الذي اذاق كأس الاذلال لكل من اختلف معه من المناضلين الشرفاء وجعل مسئولية الوطن والشعب في يد قيادة خفية لا يعلمها الا الراسخون في العلم بأسرار تجربة جبهة التحرير الارتريه. هذه الممارسة التي ادت الي انهيار مشروع جبهة التحرير الارترية الذي يدفع كل ارتري ثمنه خاصة ابناء الشهداء والمقاتلين واللاجئين الارتريين في السودان الذين ارتبط مصيرهم بجبهة التحرير بحكم التاريخ والمكون الاجتماعي.
هناك أيضاً دور الفكر الظلامي الطفيلي السري الذي نجرته مجموعة نحن واهدافنا في الجبهة الشعبية (حزب الشعب) الذي امسك بتلابيب قوات التحرير الشعبية ثم الجبهة الشعبية والذي استغل كل مقدرات المناضلين الشرفاء وأدار التنظيم بقوة خفية واذاق ويلات القتل والتعذيب والاعتقال والاذلال كل من اختلف معه حتي ولو كانوا من رحم الجبهة الشعبية الذين ابلو بلاءاً حسناً لتحقيق الانتصار ولايعلم ماهية هذا الحزب وكيف يدار حتي العالمين بكواليس تجربة الجبهة الشعبية السرية، الا انه اعتمد علي أبناء التقرينية خاصة ابناء قبيلة المركز (حماسين) امناء علي مصالح ومصير الشعب الارتري. كما قامت تنظيمات قومية ودينية اخري سلكت نفس المنهج الاقصائي الخفي بنيت على أن يجعل رئيس الحزب التقدمي او القومي صاحب المبادرة ابن عمه أو ابن خاله ساعده السياسي والأمني الباطش أو أمين سر الحزب من وراء الكواليس، وكذلك التنظيمات الدينية لم تتجاوز هذه الازمة، فبالرغم من وحدة العقيدة والمنهج طفت علي مكوناتها العلاقات الاجتماعية فيكون خليفة الامير ابن عمه فالأقرب، فالأقرب. هذا الاستغفال السياسي والتزييف الفكري من قبل مكونات السياسة الارترية ولَّدَ الغبن والخوف لدي فئات آثرت اقامة تنظيمات اعلنت جهراً التعبير عن مكونات اجتماعية وعرقية ساعد علي تشجيعها منهج بعض دول الجوار.
إذاً الوثيقة رَدَّت علي مشاريع الاستحواذ والاستغلال الفكري بطرح محاولة تأثير إيجابية تعبر عن بدء حوار للمكونات الاجتماعية وامكانية تعايشها بطرح شفاف دون ممارسة سياسة النعامة وتغبيش الوعي والتقوقع.
تأتي مبادرة لندن بعد انتفاضة فورتو 21 يناير المباركة التي قادها الشهيد سعيد علي حجاي والتي أوضحت درجة الاحتقان بالداخل وكسر الجمود وبحكم المنطق يمكن ان تتكرر فورتو ثانية وثالثة لان سبب قيامها ومطالبها لم تتحقق. تأتي المبادرة ومعسكر المعارضة الأدِّيسي الذي لا يتجاوز السمينار ثم الملتقي ثم الجمود، هذه الدوامة التي اقلقت كل وطني في كيفية الخروج من متاهتها.
برزت معارضة أخرى في الغرب والذي بدأ بلقاء سدري ثم لقاء خبراء ارتريين في امريكا ثم لقاء ضاحية باريس، هذه اللقاءات خلصت الي ضرورة التنقيب عن تجربة الشعبية واعادة انتاجها وفرضها علي الشعب مجدداً. اذاً الوضع الذي تقف فيه ارتريا ليس محطة بيانات صفراء وادعاء حفاظ علي وحدة غائبة بل تقف ارتريا علي مفترق طرق بوجود معسكر معارضة ضعيف ونظام فقد عناصر بقائه بهروب واعتقال من كانوا يدافعون عن الدولة ويديرون دولابها، هذا الوضع سوف يؤدي الي هبوط حاد وانفراط في الأمن. لذلك فإن المبادرة جاءت في مرحلة بحاجة لخطاب يواكب المرحلة السياسية التي يعيشها العالم وهي مرحلة انهيار المشاريع الشمولية والاستحواذ الفكري وسيطرة ثورة الاتصالات والرقابة الالكترونية، مرحلة ادارة الدولة ومكوناتها بشفافية وليست مرحلة دولة الخدمات بل مرحلة التعبير عن الذات بوضوح وامانة ومعالجة مكامن الضعف لاعداد الذات لتجسير التعامل مع الاخر للتعايش معه مع إدارة التباين لصالح العيش المشترك، مرحلة الدولة المدنية التي يقول فيها المفكر الفرنسي جان جاك روسو (الدولة ليست علي طبيعة أبوية بل تقوم علي ادارة اعضائها العامة) ويقول ماري تريز (التقدم نحو الديمقراطية يعتمد علي حلول تتعلق بالتحول الداخلي وتوازنات السلطة السياسية والاجتماعية لكل قطـر ودمج الفئات النخبوية المهمشة وتحقيق مشاركة المواطنين جميعاً. واعتماد الحرية كشرط لاطلاق المبادرات الابداعية وضمان التبادل السلمي للسلطة).
لذلك الاحترام الزائف بين المكونات السياسية والاجتماعية او العلاقات اللفظية المجاملاتية تضر بالمجتمع. لذا تأتي وثيقة لندن لتحريك وخلخلة الاصطفافات المتخيلة القائمة بطرح مرحلي بدايته التعريف بالذات بل معالجتها من الامراض التي جعلتها خارج التأثير بالرغم من سعة الارض وتعداد البشر وما قدم من تضحيات حتي تؤدي مهمتها الوطنية الآنية لقيادة التغيير وتجنيب البلاد مستقبل الدولة الفاشلة.
إن مهمة النخب في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ الوطن ليست التحدث مع الضحية وتبرئة الذمة منها بل المهم مقاومة الجلاد كما ان دور النخب ليس معارضة كل منتوج حديث بل تمحيص المنتج وبحث قنوات التواصل معه. لذلك الحل يكمن في الثقة المتبادلة في مناخ تسوده المصارحة الشفافة وتقبـُّــل النقد دون تحيز او تكبر او نفاق ومحاباة دون تحفظات شخصية لأن الثقة ليست شكلاً ثابتاً بل تأتي بأشكال وصيغ مختلفة حتي تضع المجتمعات ثقتها في غيرها تبدي الملاحظات في سلوك الآخر ومدي تطابق الاقوال مع الافعال وتقوم باختبارات وتجارب مصغرة بهدف قياس مستوي الثقة الذي يمكن ان تضعه في الآخرين فإن جاءت الملاحظات إيجابية أمكن المجتمع أن يضع ثقته فيمن اختبره ولكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد فكما يمكن بناء الثقة، كذلك يمكن كسرها، فالثقة مادة قابلة للكسر يمكن ان تشرخ او تكسر تماماً وبسرعة من خلال موقف محدد تهتز فيه الثقة بشكل عنيف، فكل ما هو في الحياة الشخصية ينطبق علي الحياة العامة، حيث يمكن تدمير زواج دام طويلاً بحادثة خيانة واحدة يمكن ايضاً ان تنهار الثقة بين مكونات المجتمع بمجرد سوء فهم لأي عملية سياسية أو عسكرية خاطئة، مما يتسبب فيما تعانيه الشعوب والدول الآن من حولنا.
لذا يكمن التحدي في تعميق الثقة والحفاظ عليها من كل الاطراف ولايجدي في هذه المرحلة الحب العذري والشعاراتي لإنقاذ الشعب والوطن من طرف واحد، لذلك يجب أن تكون مرتكزات الحوار الاجتماعي الاقرار بمبدأ التباين الثقافي والاثني وضرورة القبول بالآخر ثم محاربة التهميش بكل اشكاله والشفافية ثم كيفية تقاسم السلطة والثروة وضرورة التحول الديمقراطي وعقد ورش تمهد للانطلاقة والانتقال الي آفاق ارحب.