يا قبائل اللويوجيرقا... اتحدوا
بقلم الدكتور: جلال الدين محمد صالح
في عام 1848م، وجه فيلسوف الماركسية (كارل ماركس) مع صديقه فريدريك انجلز نداءهما الشهير إلى طبقة العمال:
(يا عمال العالم اتحدوا). حديثا استعار هذا النداء مفكر إيراني معارض هو الدكتور موسى الموسوي؛ ليجعل منه عنوان كتابه، ولكن بعبارة (يا شيعة العالم استيقظوا).
ها أنا كغيري أستعيره من خزينة ماركس الفلسفية؛ لأجعل منه عنوان مقالي هذا (يا قبائل اللويوجيرقا... اتحدوا).
ليتجاوز حواريي ماركس من الإرتريين - أينما وجدوا - عن تطفلي على شعار شيخهم (كارل) واستعماله في غير موضعه.
(اللويوجيرقا) كلمة (أفغانية) ربما تكون (فارسية) أو (بشتونية) في أصلها، أطلقت على البرلمان الأفغاني، بعد سقوط نظام (طالبان) عقب هجمات 11 سبتمبر الإرهابية في 2001م، وتعنى (مجلس القبائل)، لا تعرفها أدبيات السياسة الإرترية، ولكن ذات يوم دخلت موقع (هورن أوف أفريكا Hornofafrica.de) وهو تابع لاستخبارات نظام أفورقي، فوجدت مقالا يشن كاتبه حملة حادة على تنظيمات المعارضة، مطلقا عليها اسم (اللويوجيرقا) من باب السخرية والاستهزاء بأصولها القبلية، مصورا للقارئ أنها مجموعات قبلية، تجسد شكلا من أشكال تراثها المتخلف في نظره، الذي يعود بها إلى أعراف أصولها القبلية في (مجلس القبائل) ليست أهلا للحكم والقيادة، وإنما خلقت لتنقاد وتٌحْكم من كل من ينعت نفسه بالحضارة والتحضر والتمدن، ممن لا يحمل عقلية (اللويوجيرقا) الرجعية في حد زعمه.
دخلت الموقع نفسه قبل يومين مضيا، فوجدت مقالا للكاتب نفسه، يصف بالإرهاب، وغسل الأموال، إنجازا حضاريا عظيما، حققه الارتريون في استراليا، ودعوا إليه الأخ الداعية الشيخ أبو الرشيد محمد جمعة من برمنجهام، واتهم الكاتب أبا الرشيد بالاشتراك في منظمة إرهابية متورطة في غسل الأموال.
عجبت من هذا أيما عجب، وحُقَّ لي أن أعجب، فكل ما حولي يثير العجب، ورددت في نفسي ومع نفسي، وبكل مرارة، قول الشاعر السوداني محمد أحمد المحجوب:
هذا زمانك يا مها زل فامرحي *** قد عُدَّ كلب الصيد من الفرسان
فيا لسخرية القدر، عندما نوصف مرة بـ(باللويوجيرقا) ومرة باللويوجيرقا الإرهابيين!!.
كلما بدرت وبدت بادرة سياسية من أبناء من أسموهم (باللويوجيرقا) باسم (المنخفضات) كانت أو (المرتفعات)، باسم الله كانت، أم باسم (الشيطان) وأيا كانت طبيعتها، ومهما كانت صادقة في نواياها، تصدت لها أقلام عديدة بأعنف اللغات وأحدِّها، مخونة إياها، ومزايدة عليها، ومتبرئة منها، محاكمة إياها إلى حسها الوطني المرهف، جاعلة من هذه الحس هو المعيار الأوحد في قياس الولاء الوطني، عند كل فرد أو جماعة، بمقدار البعد منه، أو الاقتراب إليه، يتحدد قرب الفرد، أو اغترابه وبعده عن الإخلاص الوطني!!
بعض هذه الأقلام تنحدر ممن وصفهم ذلك الكاتب بـ(باللويوجيرقا) وهي بريئة في ذاتها، مخلصة في وفائها الوطني، لا تكتب حين تكتب إلا تحت تأثير حب (ليلى) وغرامها، وهي مصممة على إعادة ليلى من أيدي خاطفيها إلى أيدي عاشقيها.
هذه الأقلام البريئة، ألْوَلِهَةُ (بليلى) ذابت في حب (ليلى) ذوبان الملح في الماء، والسكر في اللبن، وهامت في عشقها هيام المجنون في عشق ليلى، لا ترى كل شيء إلا من خلال ليلى، وكل جمال في نظرها هو دون جمال ليلى، وكل ما عدا ليلى قبح ودمامة، وخيانة وتآمر.
هذا الحب، وهذا العشق، وهذا الْوَلَهُ، وهذا التَّيْمُ، وهذا الهيام، هو شيء جميل في حد ذاته، إذا ما نظرنا إليه من الزاوية الرومانسية، تشكر عليه هذه الأقلام البريئة وتحمد، لكن لا تحسد فيه أبدا؛ لأن الحب متى زاد على حده المعقول صار جنونا، أعمى البصر والبصيرة معا، انقلب بالضرر على صاحبه، وارتد بالأذى عليه، يهيم في الطرقات عاريا من كل شيء عقلاني، سوى عشق (ليلى)، يقذفه الصبيان بالحجارة، وهو يصيح باسمها ، وربما لا تقر له ليلى بهذا الهيام، وتسخر منه وتعجب، ولهذا قيل: من الحب ما قتل!!.
آخرون من غير هؤلاء، تدعو مواقفهم وأسلوب تناولهم للحدث إلى الريب والشك في دوافعهم. كلما رأوا بادرةَ يقظةٍ وإفاقَةٍ، في جماعة منا ــ نحن أبناء (المنخفضات) أو (اللويوجيرقا) - سمنا ما شئت، تستنهض قومنا، أو تشكو ظلمنا، وتنادي بالتكتل تحت أي اسم كان، لاسترداد حقنا المسلوب، وأرضنا المنهوبة، ولملمت شتاتنا وجمع أطرافنا، هبوا هبة رجل واحد، وكأن صاعقة من السماء حلت بدورهم، يتداعون من كل حدب وصوب، كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، للفتك بهذه البادرة، أو الإجهاز على تلك الإفاقة، وهي تحبو ولَمَّا يشتد عودها، يرجمونها بكل ما في جعبتهم من سهام التخوين، وعبارات التشكيك، والمزايدات، لتوءدة وهي حية، لم يحن بعد موعد فطامها. هذا ما حدث يوم قامت حركة الجهاد الإسلامي الإرتري، وهذا ما كان يوم تأسست الحركة الفيدرالية، وهذا ما جرى عند إعلان (التضامن) مظلة لِلَمِّ الشتات، وهذا ما حصل يوم أعلن نفر من أبناء المنخفضات عن رابطة المنخفضات، مجرد رابطة، وهذا ما سيحدث لا محالة مع كل محاولة لاحقة، ما دام مصدرها أبناء المنخفضات، وما دامت تريد النهوض بقبائل (اللويوجيرقا) في منطقة المنخفضات، حتى جبهة تحرير إرتريا ما كانت نكبتها التي نكبت بها، وجريمتها الكبر التي أدينت بها، وجنايتها العظمى التي جنتها على نفسها، واستحقت بموجبها الإخراج من الساحة، إلا ولادتها في المنخفضات، وفي قياداتها من أبناء المنخفضات، من قبائل اللويوجيرقا، لم تشفع لهم ماركسيتهم التي أرادوا إثبات براءتهم بها، عسى أن يقبل بهم الآخرون، قالوا عنهم: عامة حردتي... عامة قتلتي... سرقتي.. قبليون.. متخلفون.. وملوثون بعفانات القبيلة، انتهازيون ما رفعوا المطرقة والمنجل إلا بانتهازية القبيلة، في دمائهم وعروقهم تسري القبلية العفنة، لا يشفيهم منها ترياق ماركس، ولا مطرقته..أينما ولوا وجوههم فهم قبليون من (اللويوجيرقا).
إذن المشكلة بالنسبة لهؤلاء ليس في الاسم، وإنما في المقصود من الاسم ذاته، حتى لو كان ثوب ماركس نفسه، وهو توحيد قبائل (اللويوجيرقا) في مشروع سياسي، يكون محل إجماعها، أو إجماع أغلبها على الأقل، تحت قيادة موحدة، تمثل قيمها وطموحاتها، وتخوض بها صراعا مصيريا ضد الهيمنة الأكسومية.
لماذا يحدث كل هذا؟ لماذا نوصف بـ(اللويوجيرقا) إذا قلنا: قبائلنا مظلومة، ولا بد لها أن تتحد؟.
لماذا نوصف بـ(الانفصاليين) إذا بدا لجماعة منا أن يطلقوا على أنفسهم اسم (المنخفضات) للمطالبة بحقوق لا يشك أحد في نهبها، ولجمع صفوف طالما أضعفها التشتت وهزمها التبعثر؟. لماذا يكون هذا الاسم (المنخفضات) جريمة كبرى، وخيانة عظمى، تستدعي كل هذا الاستنفار وتحتم التوبة والاستغفار؟.
من الذي يملك حق إصدار صكوك الأسماء الوطنية وختم التصديق عليها؛ ليقول لغيره عليك أن تعمل تحت هذا الاسم حتى تكون وطنيا وحدويا، وعليك أن لا تعمل تحت هذا الاسم حتى لا تكون انفصاليا خائنا متآمرا، أو ليحدد أن هذا الاسم بعينه وطني، وذاك الاسم تآمري انفصالي؟.
لماذا يصفون كل من سمى منا اسما جهويا بـ(الانفصالية) ويتهمونه بنفخ الروح في مشروع علي رادآي رحمه الله؟
ولماذا يحرمون علينا إعادة قراءة مشروع علي رادآي من زاوية أخرى؛ لنعيد إنتاجه على نحو يتناسب مع مصالحنا، ولا يتعارض مع وحدتنا الوطنية، في زمن ليس هو زمن علي رادآي وواقع ليس هو واقع علي رادآي؟!
من الذي يملك حق تجريم إعادة قراءة هذا المشروع أو ذاك؟ وما معاييره المعتمدة عنده في التجريم وعدمه؟ ومن أين استقىاها ؟!!
لماذا يلحقون وسمة الطائفية بكل من سمى منا اسما إسلاميا، ويتهمونه بالإرهاب والتطرف؟!!. أين الديمقراطية التي يتشدقون بها؟ هل للديمقراطية كهنة لا يملك حق تفسيرها إلا هم؟ وكنيسة لا يكون ديمقراطيا إلا من عُمِّدَ فيها؟!!.
لماذا يتهموننا بالتآمر مع إثيوبيا حين نتخذ من أديس أبابا مقرا لنا وقد سبقنا إليها غيرنا من قبلنا، وما جئناها إلا في الوقت الضائع اضطرارا، من بعد أن ضاقت علينا الأرض بما رحبت؟!! لماذا ينعتوننا بالقبليين العفنين، حين نسعى ونعمل في تمتين وحدة قبائلنا المظلومة، ولملمت شتاتها، على ضوء الواقعية السياسية؛ لتقف ونقف معها على أرضية صلبة، على قدم وساق؟ هل هذا شيء طبيعي فعلا ؟!!
لماذا في السودان نحن إرتريون، تقال لنا علنا على الفضاء، مهما قلنا: نحن سودانيون، حتى ولو أوصل القدر واحدا منا في العمر، ممن يتكلم إحدى لغاتنا (التجرايت) أو (البلينايت) قمة الوزارات السيادية، وجد من يقول له على الفضاء أنت إرتري؟!!
ولماذا في إرتريا نحن (دقي متاحت) إلى السودان أقرب منا إلى إرتريا، مهما قلنا نحن إرتريون، ولا يحق للبني عامر منا أن يقولوا: نحن بنو عامر، وعليهم أن يتجردوا من هذا الاسم، شرط إرتريتهم، ويقولوا: نحن تجري فقط؟!!
لماذا قال الرئيس إسياس أفورقي عن لاجئينا من قبائل اللويوجيرقا: إنهم في أرضهم، لا داعي لعودتهم، وليس في أولويات برنامجه إعادتهم إلى موطنهم إرتريا؟!!
إذا جئنا إلى السفارة الإرترية وجدنا في الباب من لا يتحدث معنا بلغتنا ولكن بلغته، يجبرنا عليها كرها، إذا كتبنا معروضنا باللغة التي نجيدها حتى نسدد ما علينا من رسوم، لوطن يستنزفنا كثيرا، دما ومالا، وأرضا، ولا يعطينا حتى القليل من حقوقنا الكثيرة، طلب منا ترجمته إلى اللغة التي يجيدها البواب، لغة أمه التي يتكلمها، ولا نتكلمها.
وإذا ما برز الواحد منا على إحدى القنوات الفضائية بشلوخه البارزة على خديه، قالوا له: أنت من همشكوريب، ولا علاقة لك بإرتريا!!.
وإذا ذهبنا إلى السفارة السودانية جرى التحقيق معنا لإثبات سودانيتنا أولا، وإن تكلمنا اللغة العربية التي نحبها ونجيدها، بلهجة أهل السودان، وكتبنا بها معروضنا، وإن وضعنا على رقابنا شالات الجبهة الإسلامية، وزينا رؤوسنا بعمائمنا البيضاء؛ لمجرد أننا من الناطقين بـ(التجرايت) أو (البلينايت)، ننتسب إلى مجلس (اللويوجيرقا) كما يسمونه... نظارة البني عامر... أو الحباب، وقديما كانوا يختبرون نطقنا، هل ننطق (الذال) فنقول: ذنب، أم نقلبه (دالا) فنقول: دنب، وما دروا أن كلا النطقين صحيح عربية!!.
قولوا لي - بالله عليكم - : ما الذي يحدث؟ هل نحن فعلا في المكان الصحيح والزمان الصحيح أم نحن في المكان الخطأ والزمن الخطأ؟!!
قبح الله الاستعمار الذي أخرجنا من رحم واقعنا، بولادة قيصرية، قبل اكتمال نمونا الطبيعي؛ لنعيش في هذه المنطقة النكدة هذه المأساة المؤلمة، بجسم متشوه، ممزق، كسيح، ضعيف المناعة، أينما انحزنا تشككت في مصداقية انحيازنا وإخلاصنا الجهة التي انحزنا إليها!!
مرة وأنا جالس في مكتب أحد أبناء البني عامر من شباب كسلا، دخل علينا صديق له، من أبناء (الشاجيه) وقال له ممازحا: ما عرفين ليكم أنتم أرتريون ولسودانييون، ملأتم البلد دكاكين؟. شعرت بالاستفزاز، وقلت له: ما في بلدو؟!! فقال لي: في بلدو؟ أنت مولود فين؟ فقلت له: في كرن، فقال لي: في كرن وفي بلدو؟!! فقلت له: نعم في كرن وفي بلدو!!.
على نقيض من هذه الحادثة وشبيهة بها، ولكن في الضفة الأخرى، ركبت مرة في الرياض سيارة أجرة، بعد أن سجلت ابني في مدارس الرواد الأجنبية بأم الحمام، وكان سائقها يتحدث معي بالعربية، دون أدني مشقة وصعوبة، ولكنه فجأة سألني: الأخ سوداني طبعا؟ فقلت: لا، قال: صومالي: قلت: لا، ففال لي: من فين؟ قلت: من إرتريا طبعا، قال لي: إذن تعرف التجرنية طبعا؟ قلت: لا أعرفها طبعا؟ فقال لي: لماذا لا تعرفها ألست إرتريا؟ قلت: ليست لغتي ولا أعرفها؟ قال لي: كل الإرتريين يعرفونها، أنت سوداني، أو صومالي!!.
قلت لك: أنا إرتري ولا أعرفها؛ لأنها ليست لغتي؟ فقال لي: من أي قبائل إرتريا أنت؟ عندها شعرت بالامتهان من هذا التحقيق الذي يجريه معي سائق تكسي، ربما يعمل في جهاز الاستخبارات الارترية، فقلت له مغاضبا: هل أنت إرتري حتى أقول لك من أي القبائل الإرترية أنا؟!!
فقال لي: يكفي إرتريتي تحدثي التجرنية؟ فقلت له: يكفي للشك في إرتريتك تحدثك التجرنية، كل من يتحدث التجرنية مشكوك في إرتريته، حتى يثبت العكس، فقد تكون أكسوميا من تجراي.
هؤلاء الذين يحكموننا في أسمرا مطلوب منهم إثبات انتسابهم إلينا، ما داموا يتحدثون التجرنية، وما دمت أنت تتحدث التجرنية، مطلوب منك أيضا إثبات إرتريتك، كيف تثبت لي أنك إرتري؛ لأقول لك من أي القبائل الإرترية أنا؟!!
البروفسور تسفاطيون كتب مقالا ترجم تحت عنوان (إرتريا كوطن أم) أكد فيه أن حكام إرتريا من التجراي، وليسوا منا، وطالب بنضال جديد؛ لتحرير إرتريا، وإحباط مشروع تجراي تجرنيا.
في 2005م، إن لم تخني الذاكرة، جمعنا لقاء مشترك في هولندا، بدعوة من ودي (بعتاي)، في مستهل افتتاحه جرى تعارف بين الحضور، عندما جاء الدور إلي، قلت: جلال الدين محمد صالح، من كرن، عندها قال الأخ سمري، وكان قادما من تكساس: ليذكر كل واحد منا قبيلته، ومدينته، أو قريته، كما فعل الدكتور جلال، وقال هو عن نفسه: أنا (بلوي) من الحماسين، وسمى قريته.
هكذا اضطر كل واحد من الحضور على ذكر عشيرته وقريته، إلا قليل منهم، ممن لا ينتمون إلى العشائر، والبعض من أبناء المرتفعات أظهر صلته بقبائل المنخفضات المعروفة عند البعض تهكما بـ(اللويوجيرقا) وآخرون منهم اكتفوا بذكر (أسمرا) مقرا لهم ومولدا.
في لحظة الاستراحة تجاذبت معه الحديث، وقلت له: ما الذي حملك على هذا؟
فقال لي: نحن من ملتزمي الجبهة الشعبية الأوائل، ربينا بأوامر صارمة أن لا نتحدث عن قبائلنا، وعشائرنا، ومناطقنا، وعقائدنا، ولكن في نهاية المطاف اكتشفنا أننا نحكم بأبناء التجراي، وعندما طالبنا بحقوقنا ألقي بنا في السجون، فليقل لنا كل من يعمل معنا: من أين هو؟ ولا يزاود علينا، حتى لا نلدغ من الجحر نفسه مرتين.
أول البارحة من مساء يوم الجمعة، بعد انفضاض المؤتمر التأسيسي لمنبر الحوار الارتري في الرياض، قابلني شباب من أبناء المرتفعات، في العشرينيات من عمرهم، سلموا علي، ثم تحدثوا معي عن (ودي عدي) ابن البلد (ود عد) بالتجرايت، وقالوا لي: من الضروري أن نتكتل على أساس (ودي عدي) فإن حكامنا في أسمرا من (تمبين) وليسوا من إرتريا، على حد وصفهم.
على كل هذا ما حدث، وبهذه المناسبة ومن غير أن يفوضني أحد، أحييهم باسمي وباسم كل أبناء المنخفضات، وأحيي معهم خالي (سمري البلوي) قبيلةً، الحماسيناوي جهةً، التيكساساوي سكنًا وإقامةً، وكل أخوالنا وإخواننا من أبناء عمومتنا من البجا، في مرتفعات إرتريا، وأحثهم ومعهم أبناء عمومتهم في المنخفضات على أن يطالبوا بحقوقهم، ولا يستكينوا، كل في موقعه الجغرافي، تحت أي اسم يراه مناسبا، ولا يعبأوا بالمزايدات، والاتهامات التي لا معنى لها، وأقول لهم: لا تحسبوا أن اسم (المنخفضات) أو أي اسم آخر يظهر لاحقا، يطلقه أبناء عمومتكم في المنخفضات على شكل من أشكال أنشطتهم الحقوقية، أنه خصم لكم، وأنه ضدكم، وأنه يستهدفكم، ويستهدف الوحدة معكم في وطن واحد، يجمع الجميع تحت ظلاله، فإنا وإياكم على قارب واحد، والأمواج من حولنا هائجة، تريد أن تغرفنا معا، فلا يرهبكم هديرها، لا تخرقوا السفينة مع الخارقين، ولكن أسهموا في إبحارها بسلامة، وفي وصولها إلى بر الأمان بعافية، حيث نعيش معا بأمن ووئام، في ظل نظام فيدرالي عادل، تنعمون به وننعم.
كل ما يقال ويشاع بشأن هذه الأسماء ما هو إلا أراجيف وأباطيل لا تستحق الإصغاء والمناقشة، علينا أن نتحالف نحو خطوة أكبر، تجعل منا نحن في المنخفضات، وأنتم في المرتفعات، قوة ضاربة أمام الهيمنة الشيفونية الأكسومية، وتجعل من وطننا إرتريا أرقى مكان يضرب به المثل في التعايش السلمي، والازدهار الاقتصادي.
حزب النهضة مشروع للتكتل في المرتفعات والمنخفضات معا، فما رأينا هديرا ولا تنديدا، الحركة الديمقراطية العفرية مشروع للتكتل في المنخفضات الجنوبية، فما رأينا تواقيع الإمام الغائب تخرج عليها بالبراءة باسم العفريين، حركة كوناما مشروع للتكتل في المنخفضات الغربية، فما رأينا الإدانات تتوالى عليها، إلا حين نال قائدها من مفجر الثورة الإرترية الشهيد عواتي، ولكن ما أن أعلن نفر من أبناء المنخفضات عن رابطة تسعى إلى لملمت شتات المنخفضات في كيان يجمعها، تعالت عليها أصوات النكير والتنديد تباعا، معتبرة ذلك فاجعة كبرى تحيق بالوطن، وبلية ماحقة تنال من وحدته وتماسكه، فلماذا كل هذا؟ هل في ذلك سر نجهله؟.
ما كانت إرتريا لتكون لولا تمسك قبائل المنخفضات بها، هذه القبائل التي حرمت اليوم من أن يكون لها فيها شأن وحقوق تذكر، تعيش مشردة في معسكرات اللاجئين، هذه القبائل التي يحلو للبعض أن يصفها بـ(اللويوجيرقا) مستهزئا بها، وساخرا من قيمها، وتراثها القبلي، ومتحالفا ضدها مع أناس ظلموها حقها، جهارا نهارا.
قال لي أحد محاوريَّ يوم أسسنا الحركة الفيدرالية: أنتم بطرحكم هذا تنادون بتقسيم إرتريا وهذا من العفانات القبلية التي حاربتها الثورة، وهو ردة إلى مشروع علي رادآي التقسيمي!!
فقلت له: صدقني أن قبائلنا ليست عفنا، ولا تحمل عفانات، أنها قبائل طاهرة، عفيفة، متسامحة، كريمة، تمسكت بوحدة إرتريا، وعلى أرضها وجبالها تفجرت الثورة، فأطعمتها، وحمتها، وتحملت كل ما صُبَّ عليها من الجحيم، أحرقت قراها، وأبيدت ثروتها، جهلت، وأفقرت، ونكبت، وما زالت تنكب، ثم للأسف عندما يقوم نفر من أبنائها بالدفاع عنها، والمطالبة بحقوقها، تحت أي اسم من الأسماء، توصف بالتآمر، والانفصالية، والإرهاب، والطائفية!!.
تتآمر على من، وهي التي يتآمر الآخرون عليها؟
تُرهب من، وهي التي يرهبها الآخرون بالسجون والمعتقلات، والاغتيالات، والاختطافات والاختفاءات القسرية؟!!
طائفية ضد من، وهي ضحية الممارسات الطائفية، كنائس تبنى في قراها وحضرها، خلال تغييبها وتهجيرها؟
تقسيم ماذا، وهي التي تمسكت بوحدة الوطن على حساب مصالحها الاستراتيجية، ووحدتها القومية، قسمت أراضيها، ومراعيها، ومزارعها على غيرها، رغم أنفها، بل قسمت في ذاتها كيانا ووجودا ؟ لماذا كل هذه الهجمة الشرسة على هذه القبائل المظلومة وبهذه الحدية والجدية معا؟.
إنها قبائل مضيافة، كل من وفد إليها وجد عندها صدرا رحبا، ووجها بشوشا، لا تستحق إلا الرحمة وحسن الاهتمام بمصالحها.
وفد إليها أناس قالوا لها: نحن أولياء الله الصالحون، فأكرمتهم، وبذلت لهم من المال أغلى ما عندها، إذا مدوا إليها بطون أكفهم ملأتها لهم دراهم ودنانير.
وإذا قلبوا أكفهم على ظهورها، انحنت عليها جباههم للتقبيل، وتزاحمت فيها شفاههم للتبرك، مع أن هذه الأكف لم تفتح لهذه الجباه ولهذه الشفاه مدرسة تعليم حديثة، كما لم تؤسس لها جامعة ترقى بمستواها، لا في شرقها بالسودان، ولا في غربها بإرتريا.
تبقى فقيرة؛ ليغنى ضيفها الوافد، تموت دونه؛ ليبقى هو حيا، لا تمانع من الانقياد له، ما دامت تعتقد فيه الصلاح، ما شعر كل من سكن بينها بالغربة، بل تَسَوَّد عليها وتزعم.
كم يجحف بحقها هؤلاء الذين يسخرون منها، ويشككون في نواياها، كلما خطت خطوة نحو مصالحها!! انقادت لإسياس أفورقي، وأخفته بينها، حمته بدروعها، وغذته بخيراتها، سخرت له جمالها، وكل دوابها، يأكل من لحومها، ويشرب من ألبانها، ولكنه كان أغدر الناس بها، وأسرعهم إلى الفتك بها، وهل تمسك الأفاعي سمومها، إذا ما خرجت من جحورها، أم تغير الذئاب طباعها، إذا ما شاهدت الحملان الوديعة؟.
إنها للأسف تعيش حالة الفرقة والخلاف، ويراد لها أن تعيش هذه الحالة ما بقيت، أبد الدهر، بدليل هذه الحملات الشرسة التي توجه ضدها، من غير رأفة، ولا رحمة، ولكن صدقوني أنها عنصر الحسم الذي لا بد منه ساعة الحسم.
في تلاحمها تحت اسم (المنخفضات) أو أي اسم آخر انتصار ليس لها وحدها فقط، وإنما لكل (المستضعفين) في أرض الوطن، وانكسار لكل (المستكبرين) فيه، واستقرار لكل المجتمعين عليه، فدعوها تلتئم دعوها، دعوها تشق طريقها نحو مصالحها، بأي اسم تسمت، ولا تكونوا عليها أوصياء، تقفون عائقا في طريقها.
إذا انتصرت لن تعير أحدا أبدا بوصف (دقي أربعا) كما قال (ودي فقارو).
إنها تحفظ لكل مناضل حقه، ما دام يحفظ لها حقها، وترى في كل وافد إليها ابنا لها من صلبها، ما دام بارا بها، غير متنكر لجميلها، ولا عاق لها، عليه ما عليها، وله ما لها.
إنها تحب وطنها كل الحب، وتكن له كل التقدير والاحترام، مهما حاول الآخرون سلبها حقها، أو التشكيك في نواياها، وإنها في المقابل لن تفرط في شبر من أرضها، وفي حبة شعير من ثمارها، وفي مثقال ذرة من كرامتها، وستناضل وتضحي لاسترداد كل حقوقها، تحت أي اسم كان، جهويا، أم قبليا، أم عقائديا.
كفوا ألسنتكم عنها وأيديكم، دعوها تمر، نعم إنها في لحظة ضعف وشتات، ولكنها في حالة مخاض، إنها على موعد مع مولود لها جديد، ربما يوحد من هدفها، ويجمع من شتاتها، يقولون متى هو؟ قل عسى أن يكون قريبا.
إنها عنصر حسم، فما ضركم ويحكم، إذا ما نهضت وفاقت، واتحدت، ما أسقط أكسوم الأولى إلا هي، ولن يسقط أكسوم الحالية إلا هي، فدعوها وشأنها، ولا تشككوا في نواياها، وإخلاصها الوطني، دعوا قبائل (اللويوجيرقا) تتحد، تحت أي اسم شاءت، فهذا شأنها، وأنتم (يا قبائل اللويوجيرقا... اتحدوا) واسمعوا شوقي وهو يقول:
إِلامَ الخُلفُ بَينَكُمُ إِلاما
وَهَذي الضَجَّةُ الكُبرى عَلاما
وَفيمَ يَكيدُ بَعضُكُمُ لِبَعضٍ
وَتُبدونَ العَداوَةَ وَالخِصاما